شرح دعاء كميل (30)
﴿قَانِعَاً﴾
القانع: هو الذي يقنع ويرضي بالقليل، ولا يسخط ولا يكره بقلّة المعيشة. وفي الصّحاح: «القانع: الراضي بما معه وبما يعطى من غير سؤال»([1]).
أقول: فضيلة القناعة في الأخبار كثيرةٌ: كقوله×: «القانع غنيّ وإن جاع وعري، ومن قنع استراح من أهل زمانه واستطال على أقرانه، ومن قنع فقد اختار الغنى على الذلّ، والراحة على التعب»([2]).
وقوله×: «القناعة كنزٌ لا ينفد»([3]). ولعلّ عدم نفاده لأن الإنفاق منه لا ينقطع كلّما تعذّر عليه شيء من اُمور الدّنيا، قنع القانع بما دونه ورضى به.
وقوله×: «عَزَّ من قنع وذَلَّ من طمع»([4]).
وقول أمير المؤمنين×: «إنّي طلبت الغنى فما وجدت إلّا بالقناعة، عليكم بالقناعة تستغنوا، وطلبت القدر والمنزلة فما وجدت إلّا بالعلم، تعلّموا يعظم قدركم في الدارين، وطلبت الكرامة فما وجدت إلّا بالتّقوى، اتّقوا الله لتكرموا، وطلبت الرّاحة فما وجدت إلّا بترك مخالطة الناس، اتركوا الدنيا ومخالطة الناس تستريحوا»([5]).
و غير ذلك من الأحاديث التي تدلّ على فضيلة القناعة.
وسرّها واضحة؛ إذ من المعلوم أنّ من قنع بالقليل من الزاد في مسافرته إلى الله تعالى أمن من الكد والتكلّف والسعي في الطلب، ولا يوقع نفسه في متاعب الكسب ومصاعب الاُمور، ويتّقي بوجهه سوء الاكتساب، حتّى لا يقع في الشبهات والمحرّمات، ولهذا يصان دينه وإيمانه، وكان بمعزل من الصفات الخسيسة والسمات الخبيثة، ويقبل بجميع وجوهه إلى الله تعالى، ويجعل غاية عزيمته سرعة سيره من هذا الجسر؛ ليلتحق بالمفرّدين، ويسلك في سلك المقرّبين أو في حزب أصحاب اليمين، وتبرّأ عن الانخراط في زمرة المكذّبين الضالّين.
مع أنّ الإنسان العارف يعلم أنّ قسّام الأرزاق بجملتها هو الحكيم على الإطلاق، قد قدّر لكلّ فرد من أفراد الأناسي والحيوانات رزقاً معيّناً معلوماً، مقسوماً في أوقات خاصّة، لا يقدّم ولا يؤخّر طرفة عين.
بر سر هر لقمه بنوشته عيان | کز فلان بن فلان بن فلان([6]) |
بل لكلّ غصن من أغصان الأشجار والنباتات وأوراقها رزق معيّن مشخّص، مرزوقة به، لا ترتزق ورقة رزق الاُخرى، بل جميع العالم مرزوقة من الله تعالى من السموات والأرضين، كلٌّ برزق مخصوص يختصّ به، كما مرّ في أوائل هذا الشّرح.
فإذا كان أزمّة الاُمور من الأرزاق وغيرها بيده تعالى، فَلِم لا يرتضي العبد القانع بما تيسّر له من المعيشة، واغتمّ بأقسام الآخرين، وأخرج نفسه عن سلسلة الصابرين والشاكرين؟! والحمدلله ربّ العالمين.
الهوامش:
([1]) لم يصرّح بعينه، انظر: الصحاح 3: 1273، مادة «قنع». ولكن قال في مجمع البحرين: «وفي الصحاح، القانع: الراضي بما معه، وربّما يعطى من غير سؤال»، انظر: مجمع البحرين 4: 348، مادة «قنع».
([3]) روضة الواعظين: 454. وفي نهج البلاغة: «القناعة مالٌ لا ينفد». انظر: نهج البلاغة: 804.
([4]) انظر: عيون الحكم والمواعظ: 365. مجمع البحرين 4: 384.
([5]) انظر: بحار الأنوار 66: 399/ 91.
([6]) تفسير ونقد وتحليل مثنوي (الجعفري) 12: 326، ولم نجده في المثنوي، انظر: المثنوي المعنوي، الدفتر الخامس ـ القسم 124.