حول الإنسان/العقل (26)
وقد اختلفوا في محلّ العقل، والمأخوذ من الكتاب والسنّة أن محله القلب فممّا جاء في السنة ما تقدّم من قول رسول الله‘: «العقل نورٌ في القلب يُفرَّق به بين الحقّ والباطل». وأمّا ما جاء في القرآن فكثيرٌ، ومنه الآية المتقدّمة، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا﴾([1]).
ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾([2]). ومنه قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾([3]).
فهذه الآيات وأمثالها قد جعلت العقل للقلب كما جعلت السمع للاُذن والرؤية للعين. وبعد ذلك فإنه لا يبقى إشكال في أن محل العقل هو القلب وليس الدماغ، كما زعم بعضهم. ولذلك فقد جعلوا القلب هو إمام الجوارح، وقد جاء في كتاب (سفينة البحار) عن الإمام الصادق× أنه قال: «إنّ منزلة القلب من الجسد بمنزلة الإمام من الناس»([4]).
ومن هذا القول وأمثاله انطلقت مناظرة هشام بن الحكم لعمرو بن عبيد، فقد روت كثير من الكتب المعتبرة أن هشام بن الحكم مولى بني كندة رضي الله عنه، المتوفّى سنة (179)هـ، دخل على عمرو بن عبيد مولى بني تيم، المتوفّى سنة 144هـ فناظره في الإمامة، وقال له: أيها العالم إني رجل غريب، فهل تأذن لي في المسألة؟ قال: نعم. فقال: ألك عين؟ فقال: يا بني، أي شيءٍ هذا من السؤال؟ وكيف تسأل عن شيء تراه؟ فقال: هكذا مسألتي. قال: سل وإنْ كانت مسألتك حمقاء.
فقال: ألك عين؟ قال: نعم. قال: فما تصنع بها؟ قال: أنظر بها الأشخاص والألوان. قال فهل لك اُذن؟ قال: نعم. قال: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الأصوات والألحان. قال: ولك أنف؟ قال: نعم. قال: فما تصنع بها؟ قال: أشم به الروائح، واستنشق به الهواء. قال: ولك فم؟ قال: نعم. قال: فما تصنع به قال: أذوق به الأطعمة والمشارب.
قالوا: ومازال يسأله عن جوارحه وأطرافه إلى أن قال له: ولك قلب؟ قال: نعم. قال: وما تصنع به؟ قال: اُميّز به كلّ ما ورد على هذه الجوارح والحواس. قال هشام: أو ليس في هذه الجوارح غنىٌ عن القلب؟ قال: لا. قال: وكيف ذلك وهي في تمام الصحّة والسلامة؟ فقال: يا بني، إن الجوارح إذا شكّت في شيء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردّته إلى القلب، فيصحّح لها الصحيح ويبطل لها الباطل، ولو لاه لم تستيقن الجوارح.
قال هشام: يا أبا مروان فإن الله جلّ وعلا لم يترك جوارحك حتى أقام لها إماماً يصحّح لها الصحيح ويبطل لها الباطل، ويترك هذا الخلق كلّهم بدون إمام؟ فسكت عمرو بن عبيد، ولم يقل شيئاً، ثم التفت إليه وقال: أنت هشام؟ فقال: وما يهمّك من أنا؟ قال: فمن أين أنت؟ قال: من أهل الكوفة، قال: فأنت هشام وأخذه إلى جانبه([5]).
قالوا: وإنما قال له: أنت هشام؛ لما بلغه عنه من قوة المناظرة.
وقد ذكر عن الرشيد أنه قال فيه: لسان هشام أعظم على الأعداء من ضرب الحُسام.
أما الإمام الصادق× فقد روي أنه كان يقول فيه: «هذا ناصرنا بقليه ولسانه ويده»([6]). ويقول فيه: «هشام رائد حقنا، وسائق قولنا، والمؤيّد لصدقنا»([7]). إلى غير ذلك من الكلمات([8]). وقد روي أنه× لما بلغه ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد أمره أن يقصّ عليه القصّة، فلمّا قصّها عليه قال: «من علّمك هذا يا هشام؟».
فقال: شيء أخذته منك وألّفته([9]).
إذن فالقلب إمام الجوارح، وإنما كان كذلك؛ لأنه مقرّ العقل، أي أن العقل متعلّقٌ به تعلّق الروح بالجسد، كما تقدّم في الكلام على الروح.
ولا شك أن الروح والنفس والعقل ـ سواء كانت شيئاً واحداً، أو كانت أشياء متعددة ـ هي غير قابلة للرؤية، وإنما يُستدلّ عليها بآثارها؛ لأنها ممّا وراء المادّة، أي من عالم الأمر لا من عالم الخلق.
وقد ذكر أن بعض الأساتذة المادّيّين الذين يرون أن المادة كلّ شيء، وأنه ليس من ورائها شيء فلا نفس ولا روح ولا عقل ولا فكر إلّا وهو من أثر المادّة، روي أنه حاول يوماً أن يضلّل بعض تلامذته، وأنْ يأخذهم إلى عقيدته المادية، فطرح لهم محاضرة يدعوهم فيها إلى عدم التصديق بكل ما سوى المادّة، وقال: إنها كلّ شيء، وليس من ورائها شيء، وإن كلّ ما لا تدركه الحواسّ فليس بموجود.
الهوامش:
([4] ) علل الشرائع1: 109/8، بحا رالأنوار 58: 304/9، 67، 53/14.