حول الإنسان/عقل (25)
العقل
قال تعالى:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾([1]).
قال بعض المفسّرين: إن معنى الآية الكريمة هذه أن شرّ ما يدبّ على الأرض من البشر الذين هم بمنزلة الصمّ؛ فهم لا ينتفعون بما يسمعون، والذين هم بمنزلة البكم؛ فهم لا ينطقون بكلمة خير فيما ينطقون، والذين هم بمنزلة من لا يعقل؛ فهم لا ينتفعون بما يعقلون، فهم الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾([2]).
وقد اختلف الناس في العقل ما هو، وأين هو، وأحسن ما جاء في ذلك قول من لا ينطق عن الهوى، فقد روي عنه‘ أنه قال: «العقل نوٌ في القلب يفرّق به بين الحقّ ولاباطل»([3]).
ولا يشكّ الناس في أن في العقل قابلية للزيادة بالتجارب والمسموعات، والحوادث والمرئيات، ويسمى بعض ما يحصل من هذه الأقسام بالعقل المسموع، وممّا ينسب لأمير المؤمنين× من الشعر قوله:
رأيت العقل عقلين ولا ينفع مسموع كما لا تنفع الشمس |
فمطبوع ومسموعُ إذا لم يكُ مطبوعُ وضوء العين ممنوعُ([4]) |
ومن الشواهد على ذلك ما ذكر صاحب كتاب (عجائب المخلوقات) من أن بعض الأطبّاء الأذكياء دخل على مريض فجسّ نبضه ونظر في وجهه، فقال له: لعلّك أكلت شيئاً من الفاكهة. قال: نعم. قال: لا تعد تأكل منها مثل الذي أكلت منها؛ فإنه يضرّك. ثم دخل عليه في اليوم الثاني فجسّ نبضه ونظر في وجهه، ثم قال له: لعلّك أكلت لحم فرّوج. فقال: نعم. فقال: لا تعد تأكل مثله؛ فإنه لا يوافقك، فتعجّب المريض والحاضرون من مهارته!
وكان مع الطبيب ولدٌ له يتعلّم منه، فقال له: يا أبه كيف عرفت أنه تناول من الفاكهة في اليوم الأول، وأكل من لحم الفرّوج في اليوم الثاني؟ فقال له: ليس ذلك بالطبّ وحده، بل بالطبّ والفراسة، إني لمّا دخلت عليه في اليوم الأول رأيت قشور الفاكهة، ثم رأيت في وجهه انتفاخاً، وفي نبضه ليناً، فظننت أن ذلك من الفاكهة؛ لأن بعضها قد يسبّب ذلك، ومع ذلك لم أجزم، بل قلت: لعلّك قد تناولت شيئاً من الفاكهة. وفي اليوم الثاني رأيت ريش فرّوج، فظننت أنه إنما طُبخ للمريض، ثم وجدت في النبض إمتلاءً وفي الرسوب غلظاً، فظهرلي بهذه الشواهد أنه ربّما أكل من الفرّوج، ومع ذلك لم أجزم به، بل قلت: لعلّك أكلت من لحم الفروج.
قال: فأحبّ الولد أن يسلك مسلك أبيه، فدخل على مريض في يوم من الأيام وجسّ نبضه، ونظر في وجهه، ثم قال له: لعلّك أكلت لحم حمارٍ. قال: معاذ الله، كيف يؤكل لحم الحمار ومن يأكله؟ فخجل الطبيب وخرج.
وبلغ ذلك أباه فسأله: كيف قلت ذلك؟ فقال: لأني رأيت عندهم برذعة حمار، ونظرت فلم أجد الحمار، فظننت أنهم ذبحوه وأكلوه، فقال أبوه: لو كان بعض هذه المقدّمات صحيحاً لعذرتك ورجوت فيك النجابة، ولكنّ المقدّمات كلّها فاسدة، والنجابة منك محالٌ.
أقول: ولعلّ هذا الطبيب هو الطبيب لوقا الذي يضرب المثل ببلادته وذكاء حماره حتى قال فيهما الشاعر:
قال حمارُ الطبيب لوقا لأنّني جاهل بسيط |
لو أنصفوني لكنت أركبْ وصاحبي جاهلٌ مركبْ([5]) |
ومعنى الجاهل البسيط هو الذي يجهل الشيء ويعلم أنه يجهله، ولذلك ربما سأل عنه إن كان من أهل القدرة على السؤال، فاستفاد علم ما جهل. وأمّا الجاهل المركب فهو الذي يجهل الشيء ويجهل أنه يجهله؛ ولذلك فإنه لا يسأل عنه، وفيه يقول الشاعر:
إذا كنت لا تدري ولم تكُ سائلاً | عن العلم من يدري جهلت وما تدري([6]) |
قالوا: وإنما يُسمى العقل عقلاً لأنه صاحبه عمّا لا يليق به ولا يجوز له؛ فهو مأخوذ من عقال الناقة. قال بعض الحكماء: إذا عقّلك عقلُك عمّا لا ينبغي، فأنت عاقل.
الهوامش:
([4] ) إحياء علوم الدين3: 28، أدب الدنيا والدين: 29.