خواطر قرآنية في سورة البقرة
سورة البقرة آياتها (286) آية، هي أول سورة نزلت في المدينة بعد هجرة الرسول (ص)، ومع بداية تأسيس الأمة الإسلامية، والسور المدينة عادة تعنى بجانب التشريع، وهي أطول سورة في القرآن الكريم من حيث عدد الآيات. وأول سورة في ترتيب بعد الفاتحة.
فضل السورة:
ورد عن رسول الله (ص): (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه البقرة).
هدف السورة:
الاستخلاف في الأرض ومنهجه:
فالبشر هم المسؤولون عن الأرض، فالله عز وجل خلق الأرض وهي ملك له، يريد أن تسير وفق إرادته، فلا بد أن يكون من هو مسؤول عنها. ولذا جاء ترتيبها الأول في المصحف وكما أسلفنا أنها أول سورة نزلت على الرسول (ص) في المدينة مع بداية تأسيس وتكوين دولة إسلامية جديدة؛ لذا يجب أن يعرف المسلمون ماذا يفعلون ومما يحذرون، ويجب علينا أن نستشعر المسؤولية في خلافة الأرض، بأن نعبد الله عز وجل حق عبادته بالامتثال لأوامره والاجتناب عن نواهيه.
تقسيمات داخل سياق السورة:
السورة مقسمة إلى أربعة أقسام:
1/ المقدمة.
2/ قسم أول يتفرع لعدة محاور.
3/ قسم ثاني ويتفرع لعدة محاور.
4/ خاتمة.
وسنتناول شرح هدف كل قسم على حدة..
- المقدمة:
وهي تقع في الربع الأول من السورة من الآية (1ـ 29) وفيها وصف أصناف الناس:
1ـ المتقين (الآية 1ـ5).
2ـ الكافرين (الآية 6ـ 7).
3ـ المنافقين ( الآية 8ـ 20).
والإطناب هنا ذكر صفات المنافقين للتنبيه إلى عظيم خطرهم وكبير ضررهم. فهم أشد من الكفار؛ لأنهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.
- القسم الاول: وفيه عدة محاور نذكرها:
ـ استخلاف آدم في الأرض.. قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ البقرة: 30.
والمحورية في هذه الآية أنها تعني إذ أردت أن تكون مسؤولا عن الأرض يجب أن يكون عندك علم لذا أتبع سبحانه هذه الآية مباشرة بقوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ البقرة 31، فعلم الله سبحانه وتعالى آدم الأسماء كلها وعلمه الحياة وكيف تسير، وعلمه تكنولوجيا الحياة وعلمه أدوات الاستخلاف في الأرض، ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة: 22، وهذا فيه إرشادٌ لأمة الإسلام أن يكونوا مسؤولين عن الأرض، فلابد لهم من العلم مع العبادة، فتجربة آدم “ع” هي تجربة تعليمية ليكفية الاستخلاف في الأرض.
ثم جاءت الآية: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ البقرة: 36، ترشدنا إلى أن النعمة تزول بمعصية الله عز وجل وتختم قصة آدم “ع” بىية مهمة جداً: ﴿قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ البقرة: 38.
وهي تؤكد ما ورد في أول السورة: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ البقرة: 2، ومرتبطة بسورة الفاتحة: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ الفاتحة: 6.
ـ النموذج الفاشل من الاستخلاف في الأرض..
فقد استخلف الله عز وجل قبل آدم الكثير من الأمم وبعد آدم كذلك، فمنهم من فشل في مهمة الاستخلاف ومنهم من نجح، فبني إسرائيل نموذج فاشل أفسدوا في الأرض: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ البقرة: 47، فأول كلمة وجهت لبني إسرائيل في قصة بني إسرائيل: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾. وأول كلمة في قصة آدم “ع”: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾، وأول كلمة أمر في قصة بني إسرائيل: ﴿اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾. وأول كلمة في الفاتحة: ﴿اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾، والحمد يكون على النعم، فذكر نعم الله واستشعارها هي التي افتتح بها القرآن وهي التي افتتحت بها بني إسرائيل:
أ/ فالله عدد أنعم بني إسرائيل من الآية (49ـ 52):
1ـ ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ ﴾ البقرة: 49
2ـ ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾ البقرة: 50.
3ـ ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ﴾ البقرة: 51.
4ـ ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ البقرة: 52.
ب/ وكذلك عرض أخطاء بني إسرائيل بهدف إصلاح الأمة الإسلامية (55ـ 61) ومن هذه الأخطاء التي وقعوا فيها: لم يعرضوا تنفيذ شرع الله تعالى ـ المادية ـ التحايل على شرع الله، جدل شديد، عدم الإيمان بالغيب، عدم طاعة رسول الله عز وجل.
ونتعرض هنا لذكر قصة البقرة باختصار. إن رجلاً من بني إسرائيل قتل ولم يعرف القاتل فسألوا نبي الله موسى “ع” فأوحى الله تعالى إليه أن يأمرهم بذبح بقرة لها صفات معينة ويضربوا الميت بجزء من البقرة المذبوحة فيحيا بإذن الله تعالى ويدل على قاتله. الآيات (69ـ 71) وهذا برهان مادي يبين قدرة الله تعالى على إحياء الخلق بعد الموت، حيث إن هذه المعجزة تناسب وتضرب في ماديتهم المتمسكين بها، فيحتاجون إلى دليل مادي ليصدقوا ويؤمنوا، وسميت السورة “البقرة” إحياء لهذه المعجزة الباهرة وحتى تبقى بني إسرائيل ومخالفتهم للرسول وعدم إيمانهم بالغيب وماديتهم وما أصابهم جزاء، ذلك تبقى حاضرة في أذهاننا فلا نقع فيما وقعوا فيه من أخطاء أدت بالتالي إلى غضب الله عز وجل.
وهنا تأكيد على عدم إيمان بني إسرائيل بالغيب وهو مناسب ومرتبط بأول السورة: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ البقرة: 3، وهي من صفات المتقين.
وتتابع أخطاء بني إسرائيل إلى الآية في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ البقرة: 104، وكان العرب يفهمون من كلمة راعنا أنها عادية ولكنها عند بني إسرائيل تعني السباب، فأراد الله أن يميز المسلمين عن اليهود حتى بالمصطلحات اللفظية أن يقولوا أنظرنا.
نموذج ناجح للاستخلاف في الأرض.. قصة بني إبراهيم (ع):
وهي آخر تجربة ورد ذكرها في السورة. أولاً ابتلى آدم (ع) في أول الخلق (تجربة تمهيدية) ثم بني إسرائيل (تجربة فاشلة) ثم بنبينا إبراهيم “ع” (تجربة ناجحة) قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ البقرة: 124.
في سياق هذه الآية إثبات أن الاستخلاف في الأرض ليس فيه محاباة، فالذي يسير على منهج طاعة الله عز وجل يبقى مسؤولا عن الأرض والذي يتجلي عن هذا المنهج لا ينال عهد الله: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، وامتحن الله سيدنا إبراهيم (ع) بكلمات، فلما أتهمن قال: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾، ثم دعا إبراهيم (ع) ربه أن يبعث في هذه الأمة رسولاً منهم: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ﴾ البقرة: 129.
وفي نهاية القصة: ﴿قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ البقرة: 136، جاء ذكر الأنبياء كلهم وهذا مرتبط آية سورة الفاتحة: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ الفاتحة: 7. فكأنما كل هؤلاء المذكورين في آية سورة البقرة هم من الذين أنعم الله عليهم والذين يجب أن نتبع هداهم والصراط الذي اتبعوه.
ملخص القسم الأول من السورة:
إن بداية القصص الثلاث: قصة بني آدم “ع”: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، وقصة بني إسرائيل: ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ وقصة إبراهيم “ع”: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾، هذه القصص بدايتها واحدة وهي الاستخلاف في الأرض وعلينا أن نستفيد ونعتبر من الأقوام السابقة، وفي القصص الثلاث أيضاً اختيار نماذج مختلفة من الناس في طاعة الله، فاختيار آدم “ع” كان في طاعة الله في الأكل من الشجرة أو عدم الأكل، واختيار بني إسرائيل في طاعة الله من حيث امتثالهم لأوامر رسله. واختبار سيدنا إبراهيم طاعة الله بذبح إبنه إسماعيل واختبره بالكلمات فأتمهن فنجح.
وخلاصة أخرى.. أن الأمة مسؤولة عن الأرض والفرد مسؤول وللقيام بهذه المسؤولية فهو محتاج إلى العبادة وللأخذ بالعلم والتكنولوجيا.