حول الإنسان (24)
ومنها أن الميّت يلقّن بعد موته، ويزار في قبره، ويسلّم عليه ويخاطب. فلماذا يفعل كلّ ذلك إذا لم تكن الروح حيّة بعد الموت؟ روى ابن القيم المتوفى سنة 751هـ في كتاب (الروح) من حديث أبي أُمامة عن رسول الله‘ أنه قال: «إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب، فليقم أحدكم على رأس قبره ثم يقول([1]): يا فلان ابن فلانة، فإنّه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة ثانية، فإنّه يستوي قاعداً، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة، فإنّه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكنّكم لا تسمعون. فيقول: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا: شهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله‘، وأنّك رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبيّاً، وبالقرآن إماماً، فإن منكراً ونكيراً يتأخّر كلّ واحد منهما ويقول لصاحبه: انطلق بنا، فما يقعدنا عند هذا وقد لقّن حجّته»([2]).
أقول: وهذا هو ما يصنعه الشيعة اعتماداً على ما جاء عن نبيّهم‘ وأيمّتهم^، فقد روي في كتاب (الوسائل) عن أبي عبدالله× أنه قال: «ما على أهل الميت منكم أن يدرؤوا عن ميتهم لقاء منكر ونكير؟». قيل له: كيف نصنع؟ فقال: «إذا أفرد الميت فليتخلّف عنه أولى الناس به، فيضع فمه عند رأسه، ثم ينادِ بأعلى صوته: يا فلان ابن فلان، أو: يا فلانة بنت فلان، هل أنت على العهد الذي فارقتنا عليه من الشهادة أنّ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً‘ عبده ورسوله سيد النبيّين، وأنّ علياً أمير المؤمنين وسيد الوصيّين، وأنّ ما جاء به محمد‘ حقّ، وأنّ الموت حقّ، والبعث حقّ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور؟».
وفي بعض الروايات: «ويذكّره بالأيمّة واحداً بعد واحد». قال: «فيقول منكر لنكير: انصرف بنا عن هذا؛ فقد لقّن حجّته»([3]).
قال ابن القيم([4]) وغيره([5]): وقد شرع النبي‘ لأمّته إذا سلّموا على أهل القبور أن يسلّموا عليهم سلام من يخاطبونه، فيقولون: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين».
وفي كتاب (فقه السّنة) أن النبي‘ كان يُعلّم الناس إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، أنتم فرطنا ونحن لكم تبعٌ، وإنّا إن شاءالله بكم لا حقون، ونسأل الله لنا ولكم العافية».
قال ابن القيّم: وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل.
وروى ابن القيم أيضاً في كتاب (الروح) عن رسول الله‘ أنه قال: «ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلّا استأنس به ورد عليه»([6]).
ومنها ـ أي ومن الأدلة على بقاء الأرواح أو النفوس ـ ما ظهر في هذا الزمان من علم تحضير الأرواح الذي يؤمن به نحو أربعين مليوناً في العالم، فإنه ـ إذا صحّ ـ شاهد عدلٍ وحاكم فصلٍ على صحّة بقاء الأرواح بعد الموت. كما أنه ضربة قاضية للمادّيّين الذين يزعمون أن المادّة هي كلّ شيء، وأنها هي التي تنتج الحياة، وليس هناك شيء من ورائها؛ فلا روح ولا نفس، ولا عقل ولا فكر إلّا من نتاج المادّة وتفاعلاتها.
يقول الشيخ مغنية& في تفسيره (الكاشف): «وإذا كان تفاعل المادّة كافياً وافياً لإيجاد الحياة دون أنْ تتدخّل العناية الإلهية، فلماذا عجز علماء الطبيعة أن يصنعوا الحياة في معاملهم كما يصنعون أدوات المطبخ وما إليه، مع أنهم قد حاولوا وأوجدوا ألف تفاعل وتفاعل؟ وبعد اليأس أعلنوا أن صنع الحياة أصعب منالاً من رجوع الشيخ إلى صباه. فسبحان خالق الحياة»([7]).
وقد بيّن الله جلّ وعلا ما هي الحكمة من وجود هذه الحياة، فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾([8]). فهنيئاً لمن أحسن العمل، وأدرك الأمل.
الهوامش :
([3] ) وسائل الشيعة3: 200ـ 201/ 3403.