حول الإنسان (21)

img

فلئن كان قابيل قد قتل نفساً واحدةً، فإن السامري قد قتل نفوساً كثيرةً:

قتلها معنوياً بسلب العقيدة منها، قال بعض الحكماء: ليس عدوّك من قتلك، عدوّك من سلبك عقيدتك.

وقتلها مادّياً بسلب الحياة منها، فقد كانت توبتهم عن عبادة العجل بأن يقتل بعضهم بعضاً، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ([1]). فجعلوا يقتل بعضهم بعضاً حتى قتل منهم نحو عشرة آلاف، ولو لا أن عفا الله عنهم لكان القتلى أكثر من ذلك.

وهذه الأعمال كلها من النفس الأمّارة، فهي التي طوّعت لقابيل، وسوّلت لإخوة يوسف×، وهي التي عناها رسولنا الأكرم| بقوله: «أعدى أعدائك إليك نفسك التي بين جنبيك»([2]).

أما النفس اللوامة فإنها أقلّ خطراً من ذلك؛ لأنها إنما سميت لوامة كونها تلوم صاحبها على التقصير في الطاعة حتى تلحقه بقافلة العاملين المجتهدين، وتلومه على الإقدام على المعصية حتى تلحقه بزمرة التائبين المستغفرين. ولذلك أقسم بها خالقها جلّ وعلا، أو جعلها أعظم من أن يقسم بها، فقال تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ([3]). فإن النفي هنا نفي يراد به التعظيم.

وأما النفس العالية فهي النفس المطمئنّة، ولكنّها كما قال تعالى: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ([4]). ومن اُولئك الذين صبروا على ما أصابهم في ذات الله حتى صعدوا بنفوسهم إلى درجة النفس المطمئّنة التي تصبر على البلاء وترضى بالقضاء عمار بن ياسر ووالداه وأمثالهم (رضوان الله عليهم)، الذين كانوا يُعذبون بالحديد والنار فلم يزدهم ذلك إلّا تمسّكاً بدينهم وثباتاً على عقيدتهم، حتى إنه لمّا مات والدا عمار بالتعذيب، وأطلقوا عماراً لأنه أعطاهم بلسانه ما أرادوه منه، جاء إلى رسول الله| باكياً يقول: يا رسول الله، والله ما تركوني حتى قلت فيك ما شاؤوا. فأنزل الله: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ([5])([6]).

وروي عن النبي| أنه قال لبعض أصحابه: «قل: اللهم إنّي أسألك نفساً مطمئنةً تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك»([7]).

وروي عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) أنه عندما فاضت نفسه الطاهرة سمع الناس منادياً ينادي: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً([8]) إلى آخره([9]).

وفي (الكافي) عن رجلٍ من أصحاب الصادق× أنه سأله فقال: جعلت فداك يابن رسول الله، هل يُكره المؤمن على قبض روحه؟ فقال: «لا والله، إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك، فيقول له ملك الموت: يا وليَّ الله، لا تجزع؛ فوالذي بعث محمداً| لأنا أبرّ بك وأشفَق عليك من والدٍ رحيمٍ لو حضرك، افتح عينيك فانظر؛ هذا رسول الله| وعلي وفاطمة والحسنان والأئمة^. فيفتح عينيه فينظر إليهم وقد مثّلوا إليه، وينادي روحه منادٍ من قبل الله جلّ وعلا: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ إلى محمدٍ وأهل بيته (عليهم أفضل الصلاة والسلام) ﴿ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً﴾ بالولاية ﴿مَّرْضِيَّةً﴾ بالثواب ﴿فَادْخُلِي فِي عِبَادِي﴾، يعني محمداً وآل محمد| ﴿وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾. فما شيءٌ أحبّ إليه حينئذٍ من استلال روحه، واللحوق بالمنادي»([10]).

أقول: وإذا كانت النفس المطمئنة هي المطمئنة بولاية محمد| وآل محمد^ فبالأولى أن تكون النفس المطمئنة هي الفائزة بنصر محمد| وآل محمد^، كنفس عمار بن ياسر الذي كان يصرخ في معركة صفين: «الجنة الجنة، تحت ظلال الأسنة، اليوم ألقى الأحبّة، محمداً وصحبه، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعيفات هجر لعلمنا أننا على الحق وأنهم على الباطل». وما زال كذلك حتى استشهد (رضوان الله عليه) ([11]).

ومثله في هذا الاطمئنان كثيرٌ ممّن رُزقوا ولاء آل محمد| ، وسُعدوا بنصرتهم، ومنهم بُرير بن خُضير الهمداني (رضي الله عنه)؛ فقد جاء في السيَر أن الإمام الحسين× اُفردت له خيمة في ليلة العاشر من المحرم، وجيء له فيها بقربةٍ من الماء وجفنةٍ من المسك، فدخلها ليطّلي بالنورة، فجاء بُرير بن خُضير الهمداني وعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري (رضي الله عنه)، فوقفا عند تلك الخيمة للمحافظة على سيّدهم الحسين×، فجعل بُرير يمازح عبد الرحمن ويضاحكه، فقال له عبد الرحمن: دعني منك، فما هذه ساعة باطل. فقال بُرير: والله لقد علم قومي أني ما عرفت الباطل شابّاً ولا كهلاً؛ وإنما اُمازحك فرحاً بما نحن فيه، فوالله ما هي إلّا ساعة نعالج القوم بأسيافنا ثم نعانق الحور، ووالله لوددت أن سيدي ومولاي أذن لنا في لقاء القوم قبل الصباح([12]). وقد رُوي مثل هذا الموقف عن حبيب بن مظاهر الأسدي مع بعض أصحاب الحسين× في نفس تلك الليلة.

وماذاك إلّا لأنَّهم عرفوا أنهم على الحقّ؛ لأنهم مع آل محمد|، ومن كان مع آل محمد|، فهو مع الحقّ؛ لأن الحق، لهم ومعهم وفيهم وبهم وقد جاء في زيارة أمين الله المروية عن الإمام زين العابدين× اللهم فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك راضية بقضائك مولعة بذكرك ودعائك محبة لصفوة أوليائك محبوبة في أرضك وسمائك صابرة على نزول بلائك شاكرة لفواضل نعمائك ذاكرة لسوابغ آلائك مشتاقة إلى فرحة لقائك متزودة التقوى ليوم جزائك مستنة بسنة أوليائك مفارقة لأخلاق أعدائك مشغولة في الدنيا بحمدك وثنائك.

واطمأن الرجل للشيء أو اطمأنّ به اطمئناناً وطمأنينة ـ بضم الطاء ـ يعني سكن له ولم يقلق منه. ولا يحصل ذلك للإنسان المؤمن إلّا بعد علمه بصحّة ذلك الشيء وحقيقة أمره، فإنْ لم يعلمه الإنسان وجب عليه أن يسأل من يعلّمه، بل وحتى لو علم به وآمن به، ولكنّه بعدُ لم يصل علمه به إلى درجة الاطمئنان فعليه أن يسأل عنه، كما فعل الخليل× مع ربّه جلّ وعلا حيث قال: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي([13]).

وكما فعل علي الأكبر ابن الإمام الحسين× عندما سأل أباه× فقال: «أبه، ألسنا على الحق؟». قال×: «بلى والذي إليه مرجع العباد». قال: إذن لا نبالي أن نموت محقّين([14]).

___________________

([1]) البقرة: 54.

([2]) عدة الداعي: 295، عوالي اللآلي 4: 118ن بحار الأنوار 67: 36، 71: 271، التفسير الأصفي 2: 816، التفسير الكبير 28: 83، النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 24.

([3]) القيامة: 2.

([4]) فصلت: 35.

([5]) النحل: 106.

([6]) التبيان 6: 428، الجامع لأحكام القرآن 10: 181.

([7]) المعجم الكبير 8: 99، كنز العمّال 2: 687 / 5082.

([8]) الفجر: 27 ـ 28.

([9]) المستدرك على الصحيحين 3: 544.

([10]) الكافي 3: 127 / 2.

([11]) الاختصاص: 13، الاستيعاب 3: 1183 ـ 1139.

([12]) بحار الأنوار 45: 1.

([13]) البقرة: 260.

([14]) الإرشاد 2: 82، روضة الواعظين: 180، وقال بعدُ: «إذن لا نبالي أن نموت محقّين».

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة