حول الإنسان (20)

img

النفس

ثم قال تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ([1]).

قال المفسّرون في معنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ﴾ يعني: أولجنا فيه الروح الإنسانيّة المزوّدة بالخصائص المتميّزة التي يستطيع أن يسلك بها صاحبها طريق الإنسانيّة فيما بعد. فإن هذه الكلمة تشير إلى مفترق الطريق بين الإنسان والحيوان، فيقف الحيوان عند التطوّر الحيواني؛ لأنه غير مزوّد بتلك الخصائص التي في نفس الإنسان التي بلغ من عظمتها أن ينسبها جلّ وعلا إلى نفسه فيقول تعالى: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ([2])، والتي يبلغ من عظمتها أيضاً أن يقسم بها خالقها جلّ وعلا، فيقول: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا([3]).

وقد أخبرت هذه الآية الأخيرة أن الله سبحانه وتعالى قد ألهم نفس الإنسان معرفة جميع الطرق والأسباب والوسائل المؤدّية إلى الخير والشرّ، كما أخبرت الآيتان الأخيرتان أنه جلّ وعلا منح صاحبها القدرة الكاملة على تسييرها في أي طريق شاء؛ حيث قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا([4])، إذن فهو يستطيع أن يتسلّق بها سلّم الكمال والفضائل، ويسمو بها إلى أن يكون مصداقاً لذلك التكريم الذي أكرمه الله به، وتلك الفضيلة التي فضّله تعالى بها: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً([5]).

كما أنه يستطيع أن ينحدر بها إلى حضيض الرذيلة، فيكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا([6]).

فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه لأنه المسؤول عن تزكيتها، وقد جاء عن النبي| أنه قال: «المجاهد من جاهد نفسه، والمهاجر من هجر السيّئات»([7]).

وعنه| أنه قال لبعض أصحابه، وقد رجعوا من جهادهم العدوّ: «قدمتم من الجهاد الأصغر، وبقي عليكم الجهاد الأكبر». فقالوا: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ فقال: «جهاد النفس»([8]).

وقد وعد الله المجاهدين لأنفسهم بأن يمنحهم العون عليها، وأن يأخذ بأيديهم إلى سُبل الهداية وطرق الاستقامة، فقال تعالى شأنه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا([9]).

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين أن النفس البشريّة على أنواع ثلاثة:

النوع الأول: النفس الأمّارة، وهي التي تمشي مكبّة على وجهها تابعة لهواها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ([10]) وقد جاء عن الإمام زين العابدين× أنه قال في مناجات الشاكين «اللهم اني أشكو إليك نفساً بالسوء أمارة وإلى الخطيئة مبادرة وبمعاصيك مولعة ولسخطك متعرضة تسلك بي مسالك المهالك وتجعلني عندك أهون هالك كثيرة العلل طويلة الأمل ان مسها الشر تجزع وان مسها الخير تمنع ميالة إلى اللعب واللهو مملوئة بالغفلة والسهو تسرع بي إلى الحوبة وتسوفني بالتوبة».

النوع الثاني: النفس اللوّامة، وهي التي تلوم صاحبها على التقصير في الطاعة حتى تلحقه بقافلة العاملين المجتهدين، وتلومه على الإقدام على المعصية حتى تلحقه بزمرة التائبين المستغفرين. وقد أقسم الله بها أو جعلها أعظم من أن يقسم بها لشرفها، فقال تعالى: ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ([11]).

النوع الثالث: النفس المطمئنّة، وهي التي اطمأنّت بصحّة عقائدها، فلا ترتاب فيها وبصحّة أعمالها؛ فلا تنحرف عنها، وهي التي تُنادى عند الموت: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي([12]).

وقد قيل: إن هناك نفساً رابعة، وهي «الملهّمة»، وهي المعنيّة بقوله تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾.

وإن هناك نفساً خامسة، وهي «المسوّلة»، وهي المعنية بقوله تعالى: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ([13]).

ولكن هناك من قال: إن هذين النوعين ليس كلّ واحد منهما لنفس تختصّ به، بل إنهما لكلّ نفس، فكلّ نفس ملهمة، وكلّ نفس مسوّلة، ولكن صاحبها هو الذي يرتفع بها إلى مقام اللوّامة ثم إلى مقام المطمئنّة؛ ولذلك قال تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا([14]).

وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى([15]).

وقال مولانا أمير المؤمنين×: «وإنّما هي نفسي اُروّضها بالتقوى لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق»([16]). ومن شعره×:

«صن النفس واحملها على ما يزينها

تعيش سالماً والقول فيك جميلُ»([17])

وقال أبو الفتح البستي المتوفّى في حدود سنة (400) هـ ببخارى:

يا خادم الجسم كم تعنى بخدمته
اعمد إلى النفس فاستكمل فضائلها

أتطلب الربح ممّا فيه خسرانُ
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ([18])

وقال البوصيري& المتوفّى سنة (694)هـ:

النفس كالطفل إن تتركه شبّ على

حُبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ

فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه وإلّا فعلت به ما فعلت بقابيل، قال تعالى: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ([19])، وفعلت به ما فعلت بإخوت يوسف: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ([20])، وفعلت به مافعلت بزليخا عندما راودت يوسف الصديق× عن نفسه، ثم اعترفت بذلك على نفسها فقالت: ﴿أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ([21])، ﴿وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ([22])، وفعلت به ما فعلت بالسامري حيث قال عن نفسه عندما سأله موسى×: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي([23]).

يتبع…

_____________

([1] ) المؤمنون: 14.

([2] ) الحجر:29.

([3] ) الشمس: 7ـ 8.

([4]) الشمس: 9 ـ 10.

([5]) الإسراء: 70.

([6]) الفرقان: 44.

([7]) كتاب الإيمان: 93 ـ 92، تخريج الأحاديث والآثار (الزيلعي) 4: 103 ـ 102، منتخب مسند عبد بن حميد: 135 / 336، وفي الجميع: قال السائل: فمن المهاجر؟ قال|: «من هجر السيّئات». قال: فمن المجاهد؟ قال|: «من جاهد نفسه لله عزّ وجلّ».

([8]) الكافي 5: 12 / 3، كنز العمّال 4: 430 / 11260.

([9]) العنكبوت: 69.

([10]) يوسف: 53.

([11]) القيامة: 2.

([12]) الفجر: 27 ـ 30.

([13]) يوسف: 18.

([14]) الشمس: 9 ـ 10.

([15]) النازعات: 40 ـ 41.

([16]) نهج البلاغة / الكتاب 45.

([17]) ديوان الإمام علي×: 92.

([18]) الكنى والألقاب 2: 82.

([19]) المائدة: 30.

([20]) يوسف: 18.

([21]) يوسف: 51.

([22]) يوسف: 53.

([23]) طه: 95 ـ 96.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة