شرح دعاء الصباح 28

والأخير أعذبُ وأحلى؛ فإنّ له وجوداً لنفسه، ووجوداً لنا، أي وجوداً نفسيّاً ووجُوداً رابطيّاً. ونحن نتّحد بوجوده الرّابطي؛ فلا يلزم ما أورده([1]) الشيخ أبو على بن سينا([2]) على القائل بالاتّحاد بأنّه يلزم إمّا تجزّي العقل الفعّال، وإمّا العلم بكلّ ما يعلمه، فيلزم أن يعلم كلّ واحد ممّن اتّحد به كل ما يعلمه الآخر ممّن اتّحد أيضاً به.
وفي استعمال لفظ المادّة اومأ× بأنّ تعجين هذا الترياق، وتخمير هذا الطّين ـ أي طينة النّفس الثالثة ـ من عليّين العلوم العقليّة([3]) غير المتعلّقة بالعمل كالحكمة النظرية أو المتعلّقة به كالحكمة العمليّة جميعاً، بل القدرة أيضاً المسبَّبة عن العمل المتعلّق للثانية، كما قال× في اُولى خاصيّتي الثالثة: «النّزاهة» في حديث كميل. وإنّما قال×: «بعود ممازجة» في الأُوليَيْن و«بعود مجاورة» في الثّالثة، ولم يتعرّض لكيفية العود في الرّابعة؛ لأنّ الاُوليين جسمانيتان، وجودهما عين الوجود للمحلّ، فممازجة المحلّ ممازجتهما؛ لأنّ المحلّ ليس غريباً عنهما.
وما قال صدر المتألهين صاحب (الأسفار)+ من تجرّد الخيال وإن كان حقّاً، لا يدفعه كلامه×؛ لأنّ تجرّده صوريّ وتشبّحي تقدّري، فعوده كتمازج الأجسام الطبيعيّة بوجه، مع أنّ عوده وحشره في الحيوانات تبعيّ لا استقلالي، وفي الإنسان الاستقلالُ؛ باعتبار جنبته الناطقة.
وأمّا الثّالثة، فهي مجرّدة ولا سيّما إذا صارت عقلاً بالفعل، فتعود إلى ما بدأت منه بطريق المجاورة لا الممازجة؛ إذ الوضع والحيّز، والفصل والوصل، وأمثال ذلك من توابع المادّة، والفرض أنّها مجرّدة عنها، لكنّ المراد بالمجاورة: القربُ المعنوي المعني به: التخلُّق بأخلاق الرّوحانيّين القديّسين، وغلبة أحكام هؤلاء عليها.
وأمّا الرّابعة، فهي كالعقول الكلّية من صقع الرّبوبيّة، وأحكام السّوائيّة في نظر شهودها مستهلكة، كما قال عليّ (صلوات الله وسلامه عليه): «مَعرفَتي بِالنّوُرانِيَّةِ مَعرفَةُ الله»([4]). وهي كالمعنى الحرفي غير المستقلّ بالمفهومية؛ فلا موضوعيّة لها على حيالها، فلا توصف بالمجاورة بهذا الوجه، إنّما التوصيف بها وأمثالها باعتبار أخذِها بـ«شرط لا»، واعتبار نفس الماهيّة العقليّة أو النفسيّة ونفس المادّة المَنضوّة([5]) باطناً المَكسوّة ظاهراً.
قوله×: «قوّة لاهوتيّة»: اللّاهوت: مقام الأسماء والصّفات المعبّر عنه عند العرفاء بـ«مرتبة الواحديّة» ـ وانتساب هذه القوّة إليها باعتبار التخلّق بأخلاق الله تعالى ـ وجوهرة بسيطة؛ إذ لا أجزاء خارجيّة ولا مقداريّة لها. وماهيّتها مندكّة كالعقل الكلّي الّذي هو أصلها، وليس لها المادّة بمعنى المتعلّق أيضاً؛ لأنّ البدن كجلباب له، ولذا كانت حيّة بالذّات، والحيّ بالعرض إنّما هو الجسم الطبيعي. وفي زيارة مأثورة في أئمّتنا «ذِكرُكُم في الذّاكِرين، وَأسماؤُكُم في الأسماء، وَأجسادُكُم في الأجسادِ، وَأرواحُكم في الأرواحِ، وأنفُسكم في النُفوسِ وآثارُكُمْ في الآثارِ»([6]).
«أصلها العقل»، أي العقل الكلّي الّذي هو من صقع اللّاهُوت، وهو المظهر الأعظم لصفات الله بمظهرية فانية فناءً تامّاً في تجلّي الظاهر.
«مِنْهُ بَدَأتْ»، صيغة «بدأت» كلّما وقعت في هذا الحديث الشريف مهموزة بقرينة المقابلة بالعود([7])، وبعضها في بعض النسخ جاء منقوصاً، والأول أظهر.
و«عَنْهُ دَعَتْ» لأنّها لسان العقل.
و«إلَيْهِ دَلَّتْ» فروعها وأشعّتها.
و«عَوْدُها إلَيْهِ» إذ أكملت ﴿كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾([8]) وعوده إلى الله، والعائد إلى العائد إلى شيء عائد إلى ذلك الشيء بعين عوده. ومنها بدأت الموجودات؛ لأنّ الغرض: أنّها صارت بالفعل، واتّصلتْ بأصلها الّذي هو الصّادر الأوّل المصدر للجميع، وواسطة الوجود، ورابطة للخلق بالمعبود. وفي المأثورة المذكورة في الأئمة^: «بِكُم فَتَحَ الله وَبِكُم يَختِمُ»([9]).
وفي القدسي: «يابنَ آدَمَ، خَلَقَتُ الأشَياء لأجلِكَ، وَخَلقتُك لأجلي»([10]).
وفي خطبة رسالة للشيخ الرّئيس ابن سينا: «الحَمدُ لله الَّذي خَلَقَ الإنسان، وَخَلَقَ مِن فُضالَتِهِ سائِر([11]) الأكوانِ».
وقال الشيخ أبو طالب المكي + في كتاب (قوت القلوب): «إنّ الأفلاك تدور بأنفاس بني آدم».
وقال الشيخ محيي الدّين في افتتاح كتاب (سبحة الحقّ): «الحَمدُ لله الّذي جَعَلَ الإنسانَ الكامِلَ مُعَلِّم المَلَكَ، وَأدار سُبحانَهُ وتعالى تشَرِيفاً وتَنويهاً بأنْفاسِهِ الفَلَكَ».
ونِعم ما قال الشّيخ فريد الدّين العطّار النيشابوري +:
روز وشب اِين هفت پُركاراى پسر |
اَز براى تُست بَر كار اي پسر |
إلى أن قال:
چون درآيد وقت رفعتهاى كل |
از وجود تُست خلعتهاي كُل |
ولأُولى المرتبة الرّابعة درجاتٌ أقصاها الدّرجة الختميّة، والحقيقة المحمديّة؛ فهو| كعاكس.
يتبع…
___________________
([1]) وأيضاً ليس وحدته وحدة عدديّة ـ أي محدودة ـ، بل له وحدة حقّة ظليّة لوحدة الحقّ تعالى؛ فله وجوه ودرجات. وكلّ نفس صارت عقلاً بالفعل، اتّحدت بوجه من وجوهه ودرجة من درجاته. منه.
([2]) شرح الإشارات والتنبيهات 3: 294.
([3]) هذا بيان للعلّيين. و«الطينة» أحد أسماء المادة. والمراد: أنّ مادّة النّفس التي صارت عقلاً بالفعل، وطينته هي الملكات الحميدة العلميّة والعمليّة، كما أنّ مادّة النفس التي صارت جهلاً بالفعل هي الملكات الرذيلة، وهي طينته الخبيثة من سجّين الجهالات المركّبة، والأخلاق الرديّة. منه.
([4]) بحار الأنوار 26: 1/1، 26: 2، 7.
([5]) يريد: المنضوّ عنها جلبابها، وهي فيما يقابل: المكسوّة.
([6]) من لا يحضره الفقيه 2: 616/3213، تهذيب الأحكام 6: 100/177.
([7]) كذا العبارة في النسخة الحجرية، وهي غير تأمّرَ؛ إذ لا جواب للشرط.
([9]) أي في الزيارة الجامعة الكبيرة.
([10]) رسائل المحقّق الكركي: 162.
([11]) لأنّ الإنسان الكامل «هيكل التوحيد» وجامع الجوامع؛ فالملك العلاّم والملك العمّال ظلّه، كما هو ظلّ الله. والحيوان فصله الحسّاس المتحرّك بالإرادة؛ فحسّه وشوقه وغضبه وتحريكه وتحرّكه كلُّها ظلال قواه، وكأنّها مصابيح في مرايا انعكست من مصباح أصل؛ لأن قواه ممسوسة بنور العقل، بخلاف قُوى الحيوان؛ فإنه مأخوذة بـ«شرط لا». وهذا كما ورد في أحاديث أئمتنا أنّه: «خلقت طينتنا من عليّين، وخلقت طينة شيعتنا من فاضل طينتنا»؛ وذلك لأنّ عقائد شيعتهم الحقّة وأخلاقهم وأعمالهم وهي طينة نفوسهم أشعة عقائد أئمتهم وأضلال أخلاقهم وأعمالهم في الأئمة، كالشّمس وما في الشيعة كالقمر. منه.