حول الإنسان (19)

img

وخلال هذه العمليّة تكون قد اشتغلت عليه القوى الست، وهي:

القوة الماسكة، وهي التي تمسكه للجهاز الذي يمرّ به حتى يجرى عليه ـ أي على الطعام ـ وظيفته.

والقوة الجاذبة، وهي التي تجذبه من جهاز إلى جهاز، فمن الفم إلى المعدة، ومن المعدة إلى الكبد، ومن الكبد إلى القلب، ومن القلب إلى الرئتين، ومن الرئتين إلى القلب مرّة ثانية، ومن القلب إلى سائر الجسد.

والقوة الهاضمة، وهي التي تهضم الطعام أثناء مروره على الأجهزة، وإمساكه عليها.

والقوة الدافعة، وهي التي تدفع ما لا يُلائم البدن من الطعام إلى السبيلين.

والقوة الغاذية، وهي التي تغذّي أعضاء البدن، بما يناسبه من ذلك الطعام الذي تحوّل إلى دم.

والقوة النامية، وهي التي ينمو بها الجسد، بسبب حصول ذلك الطعام والشراب الذي تحوّل إلى دم.

قالوا: وأكبر الأعضاء فعّاليّة، وأوّلها مسؤولية في توزيع الدم على جسم الإنسان والحيوان هو القلب؛ فإن هذا القلب الذي لا يزيد قطره عن (15) سنتيمتراً يضخّ في الدقيقة الواحدة من سبعين إلى ثمانين ضخّة، وفي كل ضخّة يقذف في الشرايين الصغيرة نحو (44) جراماً من الدم، لو توقفت واحدة من هذه الضخّات لتخثّر الدم وتوقّفت الحياة بالسكتة القلبيّة، فسبحان الخلّاق العليم. قال شوقي:

دقّاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ لهُ
فارفَعْ لنفسِكَ بعدَ موتِكَ ذِكْرَها

 

إن الحياةَ دقائقٌ وثوانِ
فالذكرُ للإنسانِ عُمْرٌ ثانِ
([1])

 

قال أطبّاء: وإذا صار الدم رقيقاً كالماء الصافي، فإنه يعطي صاحبه سروراً وذكاء وخفّة روح، وسرعة حركة، وقناعة، وإذا كان كدراً غليظاً كالماء الوحل، فإنه لا يعطي صاحبه إلّا حزناً وكسلاً وبلادة وأمراضاً ووساوسَ، سواء كان في الإنسان أو في الحيوان؛ لأن الدم مادّة الحياة فيها على السواء، فلا يعيش شيء من الصنفين إلّا به.

ولذلك لمّا أراد إخوة يوسف× أن يوهموا أباهم× أن الذئب أكل أخاهم يوسف×، ذبحوا شاة ولطّخوا قميص يوسف بدمها، وأكلوا لحمها، فعبّر الله عنه: ﴿بِدَمٍ كَذِبٍ([2]). وقد فطن يعقوب لكذبهم بشيئين:

الشيء الأول: أنهم لم يمزّقوا قميص يوسف؛ لأنهم نسوا أن الذئب إذا افترس إنساناً مزّق ثيابه.

الشيء الثاني: أنه× لمّا سألهم عن بقية جسم يوسف قالوا: إن الذئب لم يُبقِ منه شيئاً. وهذا من المستحيلات. فقال لهم النبي يعقوب× متهكماً: «ما أقسى هذا الذئب على ولدي يوسف، وما أشفقه على قميصه!»، ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾، الآية([3]).

وذكر القرآن الكريم الدم منسوباً إلى الحيوان في قوله تعالى: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ([4]). ومعنى ذلك أن الله تعالى لا تناله الماديّات، كاللحم والدم، لأنه ليس بجسم، ولكن تناله المعنويات، وأعظمها التقوى، ولذا جاء: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكلّ امرئٍ ما نوى»([5]).

وذكر الدم أيضاً منسوباً إلى الحيوان في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ([6]).

والـ ﴿فَرْثٍ﴾ هو ما في الكرش من فضلات الطعام.

و ﴿خَالِصًا﴾ صافياً لا يستصحب لون الدم الذي هو أصله الذي كُوّن منه، ولا رائحة الفرث الذي فصل الدم عنه.

وقد بين الله جلّ وعلا حرمة الدم في عدّة آيات من كتابه المجيد، فقال: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ([7]).

وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ([8]).

وقال تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ([9]).

والدم المسفوح هو غير الدم المتخلّف في الذبيحة بعد خروج المعتاد منها،

فالّذي يخرج عادة هو المسفوح.

قالوا: وكان سرّ هذا التحريم، والحكمة منه أن الدم غير قابل للهضم، فإذا تناول الإنسان دماً صرفاً كغذاء، فإنه يخرج من الجهاز الهضمي من دون أن يتأثّر بعمليّة الهضم، ومن دون أن يمتصّ الجسم شيئاً منه أو يستفيد منه، وهو مع ذلك يورث القوسة في القلب. فهو حرام حتى مما يحلّ أكله من الحيوان، فضلاً عن غيره، بل هو نجسٌ، والنجاسة تحتوي الحرمة، فكلّ نجس حرام، وليس كلّ حرام نجساً.

ولذالك توقف مسلم بن عقيل× عن شرب الماء لما مازجه الدم من فمه مع شدة عطشه×.

________________________

([1] ) ديوان أحمد شوقي: 157.

([2] ) يوسف: 18.

([3] ) يوسف: 18.

([4] ) الحجّ: 37.

([5] ) صحيح البخاري1: 3، سنن أبي داوود2: 269/ 2201.

([6] ) النحل:66.

([7] ) المائدة: 3.

([8] ) البقرة: 173.

([9] ) الأنعام: 145.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة