حول الإنسان (18)

img

الدم

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾([1]).

قال الطبيب المشهور داود الأنطاكي ([2]) في كتابه (التذكرة): «الدم هو اصل الأخلاط، وأوّلها استحالة من الغذاء، وأجوده الأحمر الحلو الطيّب الرائحة.

ويختلف باختلاف ما يمازجه من الأخلاط، وبحسب العمر والفصل والبلد والعادة في الغذاء»([3]).

ويقول الأطبّاء المعاصرون: «الدم: نسيج عضويٌّ، يتكوّن من سائل أصفر يدعى البلازما، ومن أجسام صلبة تسبح فيه هي الكريّات الحمراء، والكريّات البيضاء، والصفائح».

ولكلّ جزء من مركّبات الدم عمله الخاصّ، ووظيفته الحيويّة المهمة. وينقسم دم الإنسان، بحسب الصفات الوراثيّة التي يجري بموجبها إلى أربع فصائل هي:

1ـ فصيلة (A)، أي، وهي الفصيلة الشحيحة، تأخذ ولا تعطي.

2ـ فصيلة (B)، بي.

3ـ فصيلة (AB)، أي بي.

4ـ فصيلة(O)، أو. وهي الفصيلة المعطاء، تعطي ولا تأخذ.

وقد تم اكتشاف فصيلة (A)، و(B)، و(O)، على يد الدكتور كارل لاندشتاينو «Landsteiner»([4]) عام (1901)م، أمّا الفصيلة الرابعة ـ وهي فصيلة (AB) ـ فقد تم اكتشافها على يد عالم آخر عام (1902)م؛ ولذلك فإنّ الأطبّاء إذا أرادوا أن ينقلوا دماً من إنسان إلى آخر، فإنهم لابد أن يجروا عمليّة التحليل قبلّ كل شيء، حتّى إذا رأوا دمه من فصيلة دم المريض، أو من فصيلة تلائمها، نقلوه إليه، وإلّا فلا.

وقد أجمع فقهاء المسلمين على جواز نقل الدم من إنسان إلى آخر، حتى ولو من كافر إلى مسلم أو العكس، وأجازوا أخذ العوض عنه والتبرّع، بل جعلوا التبرّع به إلى مرضى المؤمنين مع عدم الضرر من أفضل القربات، كما أن في سفكه بدون حقٍّ أعظم الخطيئات. قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ([5]).

ومعنى: ﴿لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ﴾: لا يقتل بعضكم البعض.

﴿وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم﴾أي لا يعتدي بعضكم على بعض بالإخراج من الأوطان.

والآية الكريمة، وإن كانت في سياق الآيات التي خاطب الله بها بني إسرائيل، إلّا إن المورد لا يخصّص الوارد، وقد جاء القرآن الكريم من باب: «إياكِ أعني واسمعي يا جارة»([6]).

وكان مما استنكره الملائكة من الإنسان، أن قالوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ([7]).

وقد روي عن الإمام الصادق× أنه قال: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه مالم يصب دماً حراماً»([8]).

وعن النبي| أنه قال: «لو أن أهل السماوات السبع وأهل الأرضين السبع اشتركوا في دم مؤمن لأكبّهم الله عزّ وجلّ جميعاً في النار»([9]).

وعن الباقر×: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم، فيقول: والله ما قتلت ولا شركت في دم، فيقال له: بلى ذكرت عبدي فلانا فترقّى ذلك حتى قتل، فأصابك من دمه»([10]).

فكيف تصنع هذه الاُمّة، وقد سفكت دم ابن بنت نبيّها بعد أن ألزمهم الحجة بقوله: «فبم تستحلّون دمي؟ أعلى قتيل منكم قتلته، أم على مال منكم استهلكته، أم على شريعة بدّلتها، أم على سُنّة غيّرتها، أم على قصاص من جراحة؟»([11]).

قالوا: ويشتمل الدم، في بدن كلّ إنسان، على ما يزيد على أربعمئة ألف ميليون كريّة حمراء وبيضاء، وإن كلّ كريّة على شكل قرص منتفخ، ويساوي قطرها نحو ستة من الألف، أو سبعة من الألف من المليمتر. وكلّ كريّة، تدلّ بأعمالها الدقيقة على إرادة مكوّنها جلّ وعلا، حيث جعل وظيفة الكريّة الحمراء نقل الأوكسجين من الفضاء بواسطة التنفّس إلى البدن، ودفع ما تخلّف في البدن من ثاني أوكسيد الكاربون إلى الخارج. وكلّ كريّة من الكريّات البيض مستعدّة لأن تصطفّ مع أخواتها، وتنضّم أفواجاً وتشكّل جيشاً جرّاراً داخل البدن؛ لمحاربة ما يهاجمه من عدوٍّ داخليّ وخارجيّ، كمرض أو ضربة أو سقطة، أو غيرها.

وإذا كان في الدم وحدَه أربعمئة ألف مليون كريّة، فإن فيه أربعمئةَ ألف مليون دليل قاطع لا يقبل الردّ على الإرادة والقصد لمكوّنه جلّ وعلا؛ إذ أن هذه الكريّات لم تخلق نفسها، ولم تبقَ خالدة في الجسم، فمن الذي خلقها ودبّرها في وظيفتها؟ ومن الذي أماتها واستخلف منها غيرها؟ ذاك هو الله الذي لا إله غيره، ولا معبود سواه.

قال الإمام الصادق×، في كتاب (التوحيد): «فكّر يا مفضّل، في وصول الغذاء إلى البدن، وما فيه من التدبير، فإن الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه، وتبعث بصفوه إلى الكبد في عروق دقاق واشجة بينهما قد جعلت كالمصفى للغذاء؛ لكيلا يصل إلى الكبد منه شيءٌ فينكئها؛ وذلك أن الكبد رقيقة لا تحتمل العنف. ثم إن الكبد تقبله، فيستحيل بلطف التدبير دماً، وينفذه إلى البدن كلّه في مجارٍ مهيّأة لذلك، بمنزلة المجاري التي تهيّأ للماء، ليطرد في الأرض كلّها، وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مفائض قد أُعدّت لذلك، فما كان منه من جنس المرّة الصفراءجرى إلى المرارة، وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال، وما كان من البلّة والرطوبة جرى إلى المثانة»([12]).

قال الدكتور محمّد الخليل، في كتابه (طب الإمام الصادق×): «هكذا جاء عن الإمام الصادق×، وهو كلام صريح في بيان كيفيّة الدورة الدمويّة على حسب ما وصل إليه الطبّ الحديث، بعد ما يناهز الاثني عشر قرناً».

وقد افتخر الغرب بالعالم الإنجليزي الدكتور وليم هار في (1578م ـ 1657م)، وعدّوه مكتشف الدورة الدمويّة، وهو في الحقيقة اكتشاف قد ذكره الإمام الصادق× (699م ـ 765م) أي من (80) إلى (48) هـ.

وبعبارة أوضح: إن صورة تكوين الدم وتصرّفه هو أن الإنسان إذا وضع الطعام في الفم ومضغه بالأنياب والأسنان، وامتزجت به العصارة اللعابيّة التي تنبع من الغدّة اللعابيّة التي تحت اللسان، نزل إلى الجوف من فتحة المريء التي ينزل منها الطعام إلى المعدة، وهناك تستقبله سوائل تسمى العصير المعدي، فتساعد على هضم الطعام، ويتحول الطعام إلى مادة تسمى «كيلوس»، ثم إلى دم يجري إلى الكبد، ومنها إلى القلب، ويضخّه القلب من بُطينه واُذينه الأيمنين إلى الرئتين، فتصفّيانه من ثاني أوكسيد الكربون وتزوّدانه بالاُكسيجين الطلق بواسطة التنفّس، ثم تعيدانه إلى القلب، فيضخّه من بطينه واُذينه الأيسرين إلى سائر الجسد.

______________________

([1]) يوسف: 18.

([2]) هو داود بن عمر الأنطاكي. كان عالماً بالطب والأدب، وكان ضريراً، وقد انتهت إليه رئاسة الطبّ في زمانه.

قرأ المنطق والرياضيات وشيئاً من الطبيعيات، ودرس اللغة اليونانية فأحكمها. وبلغ من حفظه أنه يسأل في فنّ من الفنون فيملي على السائل فيه كراسة أو كراستين.

له من التصنيفات: (التذكرة)، و(غاية المرام في تحرير المنطق والكلام)، (وزينة الطروس في أحكام العقول والنفوس)، وغيرها.

توفي عام (1008هـ / 1600م). انظر ترجمته في شذرات الذهب 8: 415، الأعلام 2: 333 ـ 334.

([3]) تذكرة اُولي الألباب: 154.

([4]) عالم وطبيب أميركي، ولد عام (1868)م في النمسا، وهو اُستاذ علم الأمراض في جامعة فيينّا.

مُنح جائزة نوبل عام (1930) م في الفسيولوجي والطبّ؛ لاكتشافه زمر الدم البشري «blod groups». موسوعة المورد 6: 87.

([5]) البقرة: 84.

([6]) مثل يضرب لمن يتكلّم بكلام ويقصد به غيره. مجمع الأمثال 1: 80 / 187.

([7]) البقرة: 30.

([8]) الكافي 6: 272 / 7، التهذيب 10: 165 / 660.

([9]) روضة الواعظين 2: 461.

([10]) الكافي 7: 273/ 10.

([11]) تاريخ الطبري 3: 319، الكامل في التاريخ 4: 62، البداية والنهاية 8: 194، باختلاف عنها.

([12] ) توحيد المفضّل: 19ـ 20.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة