عصمة الأنبياء[عليهم السلام] ـ 3
كان هكذا في الخمرة أضف إلى لعبه بالقرود والفهود، ومع ذلك يرى ابن عمر التمسّك بطاعته، والمبرّر هو أن يزيد صار حاكماً. بل الأكثر من ذلك أن هناك حملات على الذي ينتقد واحداً ممّن حكم. ومع الأسف أن مثل هذا الفكر لا يطارد وإنما يطارَد من يتمسّك بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾.
فمثل هؤلاء ينسبون إلى الله ما لم يقل وما لا يريد، من مثل أن الله إذا استرعى عبداً رعيّة كتب له الحسنات ومحا عنه السيئات. وفي المقابل يحاولون أن يحطّموا أولياءه، فيبتكروا حديثاً ينسبونه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، فمثلاً ينبري أحدهم ليقول: قال النبي: إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء.
من هم آل أبي طالب الذين هم ليسوا بأولياء للرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟ أجعفر رضي الله عنه ذو الجناحين الشهيد الذي لفعته دماء الشهادة، الطهر الطاهر الذي مُلئ إيماناً من قرن إلى قدم؟ أم علي بن أبي طالب × أمام المتقين؟! أم سيد العرب عقيل بما له من مزايا ومكانة؟! أم جمانة بنت أبي طالب المؤمنة الصالحة؟ أهؤلاء ليسوا أولياء لله! فإن لم يكونوا هم فمن هو ولي الله؟ سمرة بن جندب؟
والمصيبة أن الرواية تقرؤها في كتاب يعتبر الثاني بعد القرآن، فلماذا ترى مثل هذا اللون من النقل الذي يحزّ في نفسك؟ ومعنى هذا أنك ترى مثل هذا الرافد في حضارتنا الفكرية الدينية يفتري على الله كذباً.
فالآية تخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره عنوان الخطاب، وإلّا فالأمة هي المعنيّة بالخطاب. فمن يفتر على الله تهددّه الآية الكريمة، قال تعالى: ﴿آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ﴾، وقال: ﴿قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾.
فالآية مقام البحث تقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن هؤلاء يحاولون أن يزعزعوك ويقرّبوك إليهم كي تميل إلى اختراع شيء وتنسبه إلى الله تعالى، وهذا افتراء على وحي السماء.
المبحث الرابع: في اتخاذ الكافرين أولياء
ثم قالت له: وإنك لو فعلت ذلك لهم ﴿إِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً﴾. النبي صلى الله عليه وآله وسلم له خلّة مع الله تعالى، وهو تعالى ناجي الأنبياء عليهم السلام كما في قوله لموسى عليه السلام: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾.
فالآية الكريمة تقول له صلى الله عليه وآله وسلم: إنك لو أطعت هؤلاء صرت خليلاً لهم ولم تعد خليل الله، بل تنفصل عن ولاية الله إلى ولاية هؤلاء الظلمة. وهذا في الحقيقة تهديد مرعب.
الحجّاج والأعرابي:
ومما له صلة بهذا المعنى حادثة حصلت للحجّاج، ذلك أنه كان في الحج ذات يوم، وكان الزحام شديداً على الكعبة، فلم يستطع الطواف، فوضعوا له طنفسة في طرف من أطراف البيت واتّكأ عليها. وفي هذه الأثناء مرّ أعرابي يلبّي بصوت عال ملفت للنظر. فقال الحجّاج: عليّ به. فلما جيء به سأله: ممن؟ قال: من بطن أمي. قال الحجّاج: أعني أين استقصي أثرك؟ قال: من ظهر أبي. قال الحجّاج: بل أعني من أين جئت؟ قال: من الطائف. قال: كيف تركت محمد بن يوسف؟ (وهو أخو الحجّاج، وكان والياً على الطائف). قال: تركت عظيماً جسيماً خراجاً ولّاجاً، لبّاساً حريراً، آكلاً شارباً، يلعب بأموال عباد الله. قال الحجّاج: أنا لا أسألك عن سيرته الاجتماعيّة مع الناس، قال الأعرابي: تركته ظلوماً غشوماً، آمراً بالمنكر تاركاً للمعروف، عاصياً لله، مطيعاً للناس.
قال: أتقول ذلك وأنت تعلم موضعه مني؟ بلي: أنا زائر لنبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووافد على بيت الله، أفتراه بمكانة منك أعزّ مني بمكانتي من الله ونبيّه؟
فسكت الحجّاج، وخرج الرجل من بين الصفوف دون أن يشعر به أحد، فتبعه طاووس الذي كان جالساً في المجلس، فقال له الأعرابي: ما تريد؟ قال: إن موقفك هذا أعجبني، وأحببت أن أنتفع بصحبتك. فقال الأعرابي: أنت صاحب الوسادة؟ ـ وكان قد ثنيت له وسادة بمجلس عليها جنب الحجّاج ـ قال: بلي، هذا رجل قوي، وكما ناداك ناداني. فقال: أما كان من ورعك ما يردعك عن الاستقرار بمجلسة ثم إنك تطلب مني الصحبة؟ قال طاووس: بلي. قال: لا، إن لي صاحباً يغار علي، ولا أريد أن أترك صحبته.
فالآية تقول لنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن هؤلاء لو ملت إليهم لاتّخذوك خليلاً ولما كنت حينها حبيباً الله. وقد كان أبو الزهراء صلى الله عليه وآله وسلم حبيب الله حقاً، فقد وقف في الليالي المظلمة حتى أنت انتفخ الساق وورم القدم ونزل عليه قوله تعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾. فقال صلى الله عليه وآله وسلم. (حبيبي أفلا أكون عبداً شكوراً؟).
هذا هو خط آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، إذا جنّ عليهم الليل تجدهم ذائبين بالله عز وجل. فهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهكذا كان خليله وأخوه وصفيه علي بن أبي طالب × . يقول حبة العرني: بت عنده ليلة فرأيته نصف الليل شبيه من طار عقله، يتلمس الحيطان ويقول (ربي ليت شعري أفي غفلات معرض أنت عني أم ناظر إليّ، ما لي كلّما طال عمري كثرت خطاياي). ولم يهدأ إلى الصباح.
وكان أولاده هكذا، لا في اللحظات الاعتيادية التي يكون فيها الإنسان على وعي واتجاه إلى الله، وإنما حتّى في أحرج ساعة تمر بهم، فكان أبو الشهداء × يرمق السماء بطرفه في لحظاته الأخيرة ويقول: (لك العتبى يا رب، صبراً على قضائك، يا غياث المستغيثين، إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى). فحتى هذه اللحظات العصيبة لا تجعلهم ينفكّون عن الله أبداً، على الرغم من الارتباط بأسرهم وأولادهم وأهلهم. فالإمام الحسين × في لحظاته الأخيرة يرفع رأسه إلى السماء ويقول:
تركتُ الخلقُ طُرّاً في هواكا وأيتمتُ العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحبّ إرباُ لما مال الفؤاد إلى سواكا
وأي علاقة كانت له مع أهله؟ خصوصاً مع أخته زينب عليها السلام؟ إنها علاقة لا يقوى الإنسان على تصويرها؛ لأنها درجت معه من طفولتها. من حجر فاطمة إلى حجر علي في أرجاء ذلك البيت، لا تكاد تفارقه.. وجهه ملء عينيها، لا تبعد عنه الليل ولا النهار. لقد كانت في بيت عبد الله بن جعفر، لكنها تركت بيتها وأولادها وجاءت مع الحسين، فتبعها ولداها محمد وعون، وقتلا بالطفّ، فلم تذكرهما أبداً، وإنما كانت مغمورة بالحسين ×، وقد صعب عليها مصرعه، وجعلها لا تهدأ الليل ولا النهار.. تدخل إلى الدار فتراه أمامها، وتخرج فترى مواطئ قدمه من الأرض. وأينما ذهبت يملاً عليها أحاسيسها، فكانت إذا جن عليها الليل تتّجه إليه:
أعيش وياك حلم بنوم وصوره من أقعد من النوم
ما بيّه ابتعد عنك أريد وياك اعيشن دوم
قلبي بكربلا عفته يرف عالقبر رف الحوم
وآنه هنا بقايا روح تعيش إحزانها وتنعاك
******
وعيونك يبو السجاد لو يمك يخلوني
أحط راسي على قبرك وارشه بدمعة عيوني
أقضي العمر كلّه هناك وأقولن لليلوموني
*****
هذه الطفوف ومنها بالحشا شُعَلُ
من ناشد لي أحباباً بها قُتلوا
من طيبة بزغوا في كربلا أفلوا
****
بالأمس كانوا معي اليوم قد رحلوا
وخلفوا في سويدا القلب نيرانا