عصمة الأنبياء[عليهم السلام] ـ 2
المبحث الثاني: أن صاحب الموقف ينبغي عليه الثبات على موقفه
ثم قالت الآية الكريمة: ﴿وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾، أي كادوا ليزيلونك عن موقفك. فالآية الكريمة تقول له: إن الإنسان موقف، وأنت تعلّم الناس المبادئ، وأهمّ هذه المبادئ أن الإنسان إذا آمن بقضيّة فلا ينبغي له أن يتزلزل عن موقفه إزاءها. وهؤلاء يحاولون أن يزلزلوك عن موقفك؛ فعليك أن تبقى صامداً عليه.
ومن تطبيقات هذا المعني أن الإمام أمير المؤمنين × حينما وصلت إليه خلافة جاءه جماعة من الرؤوس البارزة، حتى من شيعته، فطلبوا منه ألّا يغيّر العمال والولاة من قبل عثمان، ولا يحرّكهم الآن، وأن يتركهم حتى يستقرّ الوضع وتأخذ الأمور نصابها؛ فإنهم إن عرفوا بذلك فلن يكونوا مستعدّين للتنازل عن الأمكنة التي وصلوا إليها، فهم وصلوا إلى أمكنة ما كانوا يحلمون بها. وأن هؤلاء ليسوا مثل أمير المؤمنين عليه السلام في نظرتهم للدنيا، فقد وصلوا إلى الكرسي وصارت عندهم أموال وإمارات، فإن شعر أحدهم أنه سوف يزال فسيخلق ألف مشكلة.
وقد يكون هذا الرأس من الوجهة السياسية ممكناً، وله حصة من الصواب، لكن الإمام علياً × يتصرف وفق أحكام، وهو × إسلام يمشي على الأرض. فقال × لهم: (أمّا طلحة والزبير فسأرى رأيي فيهما، وأمّا معاوية فلا والله لا أراني مستعملاً له ولا مستعيناً به مادام على حاله: ﴿وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا﴾، ولكن أدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المسلمون، فإن أبي حاكمته إلى الله).
فهو × يقول لهم: ما المبرر لأن أترك أحداً يعصي الله ويشرّع في مقابله؟ فأنا أحكم باسم القرآن، ولابدّ أن أطبق القرآن، وهو يقول: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾، ويعطيني حدوداً في أن أعطي الأمر إلى من يستحقّه، وهؤلاء ليسوا مستحقّين من وجهة نظر الشرع، فكيف تطلبون مني أن أدعهم؟
دخل أبو الدرداء، يوماً على معاوية فقال له: ما المبرر لك أن تشرب بآنية الذهب وقد حرّم الإسلام ذلك؟ فقال: أنا لا أرى به بأساً. فما المبرّر لعلي أن يترك هذا في عمله؟ يقول أمير المؤمنين: (قد يرى الحوّل القلب وجه الحيلة، ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين.
والغريب هنا أن بعض الكتاب لم يفهموا علي بن أبي طالب ×، ولا المسألة التي يعالجونها، فراحوا يقولون عنه: إن حياة هذا الرجل حدثت فيها أخطاء كان اللازم عليه ألّا يعملها. ومن ذلك أنه ما كان ينبغي له أن يسارع إلى عزل ولاة عثمان حتى يستقرّ له الأمر.
وهذه ليست من الأخطاء، إنما هي من الالتزامات والمواقف التي يريدها الشرع؛ لأن الشرع يريد ممّن يحكم باسمه أن يطبّق أوامره ونواهيه. وقد كان بوسع أمير المؤمنين × أن يتركهم في أعمالهم، لكن ضميره لا يتركه، التزامه بأحكام الله وأوامر القرآن لا يعطيه مجالاً لأن يتصرّف هذا التصرّف. ولذا لم يقبل آراء المقترحين، وقال لهم: ليحدث ما يحدث، فأنا لست صاحب مصلحة، ولا أريد ن أحافظ على كرسي أجلس عليه، وإنما أريد أن أطبق أحكام الله في الأرض.
وكانت هذه من القضايا التي سببّت حرجاً لأمير الأمير المؤمنين ×، ولها نظائر من القضايا كثيرة، فمن هذه القضايا أن الحاكم اليوم مثلاً لو كانت عنده جريدة تخدمه، فتنشر له يومياً وتبرّر وجوده وتفخّمه وتعظّمه وتدعمه فكرياّ، فإنه يلتزمها وإن كانت باطلاً. والشعراء في عصر أمير المؤمنين × كانوا صحفاً سيّارة، فالشاعر يذود ويدافع ويبرّر ويحسّن ويقبّح، وللشاعر منزلة كبيرة، لكن إذا ارتكب الشاعر العصيان وشرب الخمرة، فما المبرّر لعلي عليه السلام ألّا يقيم عليه الحد؟ وهذا ما حدث له عليه السلام مع جرير الشاعر المعروف، فقد كان يثرب الخمرة، وفي الوقت نفسه يريد عطاءً من أمير المؤمنين × من الحق الشرعي. والحق الشرعي لا يمكن أن يعطيه الإمام × لمن يصرفه بالحرام، وهذا ما يذهب إليه المسلمون كلهم؛ ففي ذلك إعانة على الإثم، فلم يكن الإمام مستعداً لأن يعطيه، فالتحق بمعاوية. في حين أن غير علي بن أبي طالب يبحث عن ألف طريق لتبرير مثل هذه العمل.
لقد كان ابن هرمة شاعراً أديباً، وقلماً من الأقلام ذات المنفعة، وكان صديقاً للمنصور، فلما وفد على المنصور سأله المنصور: ألك حاجة؟ قال: بلي، حاجتي أن توعز إلى الوالي ألّا يلاحقني في الخمرة بأن يقيم عليّ الحدّ فيها؛ فإني لا أصبر عليها. فقال المنصور: لا أستطيع أن أفعل ذلك أمام الناس وأعطل حداً من حدود الله، ولكن اذهب وسوف ترى.
ثم بعث المنصور إلى الوالي فقال له: إذا جاءك من يشهد أن ابن هرمة شرب الخمر، فاجلد ابن هرمة الحدّ ثمانين سوطاً، واجلد من شهد عليه مئة سوط. فراح ابن هرمة يسكر في الشارع ويصيح: من يشتري ثمانين بمئة؟ فلم يتجرّاً عليه أحد.
وهذا لون من التحايل على حدود الله. ولكن الضمير الذي حمل الله في داخله لا يمكن أن يتساهل في موقف فيه إساءة للدين ولو بقيد شعرة.
فالآية تقول للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنت موقفٌ، فلا يزلك هؤلاء عن موقفك، وأنت تحمل للناس التعليم، وهذا التعليم يدرّبهم على المبادئ الكريمة، فلا تتغيّر إزاء ذلك.
المبحث الثالث: في الافتراء على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم
ثم قالت الآية: ﴿لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ﴾، وهذه أشدّ من سابقتها، فهم يقولون له: كما جعلت مكّة بلداً حراماً آمناً، فاجعل وادينا مثلها. فالله حرم فيها سفك الدم واللجاج والعناد أثناء الحجّ، فقل في وادينا: إن الله قال فيه: إنه محرم، ليعرف العرب فضلنا، أي انسب إلى الوحي ما ليس منه. فأجابهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن هذا لا يمكن أن يكون أبداً. وهذه أيضاً من النقاط الخطرة، فالكل يلاحظ في تاريخ القمم التي حكمت في أمّتنا أن الحاكم يبحث عن جماعة يبرّرون وجوده ويثلبون أعداءه، فمثلاً يدخل أحدهم ممن يعتبرونه من الفقهاء على الحجّاج، والحجّاج معروف في أن وسيلته للحكم هي سفك الدم والرعب والإرهاب، فيبرّر له هذا (الفقيه) عمله بقوله: إن الله إذا استرعى عبداً رعيّة كتب له الحسنات وأسقط عنه السيئات! فهو أولاً يقول له: إن الله هو الذي ولاك على هؤلاء، وثانياً: إن الله سيكتب لك الحسنة ويمحو عنك السيئة. فلماذا هذا؟
قد يقول قائل: هل إن هذا التيّار موجود فعلاً عند المذهب الإسلاميّة؟
فأقول: نعم، هذا صحيح، إنه موجود مع الأسف، ويعزّ عليّ أن أصرّح بهذا المعني. فهناك من حكم، لمجرد أنه حكم صار مقدّساً. وأكبر دليل على ذلك أنهم يطلقون عليه لقب الخليفة، كالوليد ويزيد بن الوليد، ثم يفترضون طاعته، ويرون أن من يبيت ليلة وليس في عنقه بيعة لهم ثم يموت فإن ميتته ميتة جاهلية. مع أنه إنسان كلّه ثغرات وعيوب، فكيف يطلب منا أن نتعبد ونتقرب إلى الله بإطاعته؟
يروي البخاري في الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه لما حدثت واقعة المدينة جمع أولاده وأهله فقال لهم: إذا بايع الناس أحداً ثم غدروا به فقد غدروا بالله، وللغادر لواء يرفع يوم القيامة فتمسّكوا ببيعة يزيد.
وهذا الذي يرى أن من ينكث بيعة يزيد يكون غادراً يقال له: ما المبرّر لك في طاعة هذا الرجل؟ إنه كان يجلس على منبر المسلمين ويقول:
أقول لصحب ضمّت الكأس شملهم
وداعي صبا بات الهوى يترنم
خذوا بنصيب من نعيمٍ ولذّةٍ
فكلٌّ وإن طال المدى يتصَّرمُ