حول الإنسان (16)

img

اللّحم

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾([1]).

اللحم هو هذا النسيج العجيب الذي لا يقدر على خلقه حيّاً نامياً إلّا خالقه العظيم؛ وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكوّن في الجنين أوّلاً، ولا تنبت خليّة واحدة من خلايا اللحم إلّا بعد تمام الهيكل العظمي، تماماً كما تقول الآية الكريمة: ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾.

فاللحم هو أجمل كساءٍ يلبسه الإنسان، وهو أفضل غذاءٍ يأكله، وقد روى الطبرسي في كتاب (مكارم الأخلاق) عن أديم بن الحر الخثعمي أو الجعفي قال: قلت للإمام الصادق×: بلغني أن الله عز وجل يبغض البيت اللحِم، فقال: «ذلك البيت الذي تؤكل فيه لحوم الناس بالغيبة. وقد كان رسول الله| لحمياً يحبّ اللحم، ومن ترك اللحم أربعين يوماً ساء خُلقه»([2]).

وقد اجتهد البعض فحرّمه على نفسه استبشاعاً لقتل الحيوانات المأكولة بالذبح والنحر والصيد أو غير ذلك من أنواع التذكية، ومنهم البوذيون، بل وحتى بعض المسلمين، ومنهم أبو العلاء المعري المتوفى سنة (449) هـ فإنه كما روي عنه حرم جميع اللحوم على نفسه، حتى قيل: إنه مرض فعالجه الطبيب ووصف له غذاءً خاصّاً منه الفرّوج ـ وهو فرخ الدجاج ـ فلمّا جيء به إليه في طعامه أشار إليه، وقال: استضعفوك فوصفوك، هلّا وصفوا أشبُل الأسد؟ ولم يأكل منه شيئاً([3]).

وما كفى البعض أن يحرّموه على أنفسهم، حتى اعترضوا على الله في قضائه، وناقشوه في حكمه. وقالوا: لماذا أباح الله ذبح الحيوانات البرية والأهلية وصيد الحيوانات البرية، وهي ذوات أرواح، شاعرة بما يشعر به الإنسان من مرارة الفناء وحبّ البقاء؟

وما ندري ماذا يريد هؤلاء المعترضون؛ هل يريدون أن يكلّفوا الإنسان برعي الحيوان ورعايته وحفظه وحراسته، ثم ينتظره إلى أن يكبر ويهرم ويمرض ويموت، ثم يأكل لحمه مملوءاً بالأمراض والأسقام، منهوكاً بالكبر والهزال، أم يريدون منه أن يترك الحيوان وشأنه يعيش ويموت مع نفسه، فالبحر وحيتانه والبرّ وحيوانه تحيا وتموت لا علاقة لها بالإنسان، ولا علاقة للإنسان بها إلّا أنه يراها وتراه فقط؟

ثم ما ندري إذا ماتت ماذا يريد أن يفرض المعترضون لها على الإنسان؟ هل يريدون أن يفرضوا عليه أن يأكلها مملوءةً بالعلل والأمراض، أو يدفنها فيكون ذلك هو عمله الدائم وشغله الشاغل، أو يتركها على الأرض تتفسّح أوصالها، ويسيل صديدها، وينتن ريحها؛ فتلوّث بيئته وتهدم صحته؟ أم ماذا يريدون؟ أو ما علموا أن الحياة المادّية كلّها حياة آكل ومأكول، وأن كلّ ما فيها لابدّ أن يأكل ويُؤكل حتى النبات والأشجار، وحتى التراب والأحجار، والإنسان من ذلك النوع الآكل والمأكول؟ قال الشاعر:

يابن التراب ومأكول التراب غداً

أفق فإنّك أكّال ومأكول([4])

شبهة الآكل والمأكول

حتى إن أكبر شبهةٍ وأعظم مشكلةٍ عند علماء الكلام شبهة الآكل والمأكول؛ لأنهم قالوا: إنْ اُعيد الآكل لزم عدم المأكول، وإنْ اُعيد المأكول لزم عدم الآكل. فما هو الحل؟

قال بعضهم: إن هذه المشكلة غير واردة أصلاً؛ لأن الله سبحانه لا يُعيد الآكل بنفسه ولا المأكول بنفسه، وإنما يُعيدهما بجسم يماثل ذلك الجسم، وببشرةٍ تماثل تلك البشرة. ولأن النعيم والجحيم إنما يتعلقان بالروح؛ وحينئذٍ فلا مشكلة ولا معضلة. وقد علّقوا على رواية اللبنة بأن جوابها إقناعي فقط؛ لأنها وإنْ ذكرت وحدة التراب الذي منه اللبنة إلّا إنها لم تذكر وحدة الماء مع أن الماء شريك التراب، فكما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ([5]) فقد قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا([6]).

ورواية اللبنة هي ما رواه الطبرسي في (الاحتجاج) من أن ابن أبي العوجاء سأل الإمام الصادق× فقال له: ما تقول في هذه الآية: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾؟ هب أن هذه الجلود عصت فما بال الغير؟ فقال له الإمام×: «ويحك، هي هي، وهي غيرها». فقال له: أعقلني هذا القول. فقال الإمام×: «أرأيت لو أنّ رجلاً عمد إلى لبنة فكسرها، ثم صب عليها الماء وجبلها، ثم ردّها إلى هيئتها الاُولى، ألم تكن هي هي، وهي غيرها؟». فقال: بلى أمتع الله بك([7]).

وعلّقوا على الآيات التي تقول: إن الإنسان يُخلق من الأرض كما يُخلق النبات، ومنها قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ([8]).

وقوله تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ * يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ([9])، علّقوا على هاتين الآيتين الكريمتين وأمثالهما من الآيات بأنهما لم تزيدا على أن الإنسان يُخلق من الأرض كما يُخلق النبات. وهذا أمرٌ لا إشكال فيه، وإنما الإشكال في أنه هل يُخلق من نفس مادّته التي مات بها، أو من مادّة اُخرى غير تلك المادّة؟ والآيات الكريمة لم تقل بإنه يخرج من نفس مادته.

وعلقوا على جواب الرسول| للأعرابي عندما سأله فقال: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ وما آيةُ ذلك في خلقه؟ فقال|: «أما مررت بوادي قومك ممحلاً، ثم مررت به يهتز مخضرّاً؟». قال بلى. قال: «فكذلك يحيي الله الموتى، وتلك آيته في خلقه»([10]).

علّقوا على هذا الجواب وأمثاله بأن مفاده كمفاد الآيتين وأمثالهما، وأيّدوا قولهم بأن مادّة جسم الإنسان تتغيّر حتى وهو حي في الدنيا، فمادّة جسم الإنسان التي يموت بها غير مادّته التي أطاع بها أو عصى بها قبل عشر سنين.

وقالوا: إن قول من قال: إن في جسم الإنسان أجزاء أصلية لا تتكوّن من غيرها، ولا تنتقل بعد الموت إلى غير صاحبها، بل تبقى في التراب إلى أن يخلق الله منها جسم الإنسان مرةً ثانيةً كما يخلق الشجرة من الحبة، والنخلة من النواة لا يتنافى مع قولنا؛ فإن نسبة تلك الأجزاء إلى جسم الإنسان كنسبة الحبّة إلى الشجرة، وكنسبة النواة إلى النخلة، وأما ما زاد على ذلك من جسم الإنسان فهو من سائر الأرض.

يتبع…

______________________________________

([1]) المؤمنون: 12 ـ 14.

([2]) مكارم الأخلاق: 156.

([3]) أعيان الشيعة 3: 16.

([4]) الجامع لأحكام القرآن 18: 295، وفيه:

قصّر فإنك مأكول ومشروبُ

([5]) الحج: 5.

([6]) الفرقان: 54.

([7]) الأمالي (الطوسي): 581/ 1204، الاحتجاج 2: 104.

([8]) ق: 9 ـ 11.

([9]) الروم: 17 ـ 19.

([10]) تفسير الثعلبي 8: 100، غريب الحديث 1: 231.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة