حول الإنسان (15)

img

وبما أن الله سبحانه يعلم من عباده أنهم أكثر ما يستعظمون إعادة الحياة إلى العظام بعد فنائها، فقد أحيا نبيه عزيراً× بعد أن أماته مئة عام، ثم قال له: ﴿وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا([1]).

وهو يعني بذلك عظام حماره الذي أماته مئة سنة ثم أحياه له على منظر منه ومسمع، فجعل عزير× ينظر إلى العظام كيف ينشزها الله سبحانه، أي كيف يرفع مادّتها من الأرض، ويردّها إلى هيئتها، وينقلها إلى محلها من جسم الحمار، ثم يكسوها لحماً بصورة سريعة مدهشة، ثم نفخ فيه الروح فقام حياً سوياً: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ([2]).

ومن عجيب ما أودع الله سبحانه في العظام أن جعلها مصدراً لإنتاج موادّ كثيرة يحتاج إليها الجسم، كالفسفور، والكالسيوم، وغيرهما من الموادّ، وبعد أن تنتجها توزّعها على الجسم توزيعاً دقيقاً عادلاً؛ كلّاً بنسبة ما يحتاجً إليه، كما أنها تنتج كريات الدم البيضاء والحمراء في جسم الإنسان طول حياته.

وقد أثبت العلم أن في الدقيقة الواحدة تموت من تلك الكريات (180) مليون كرية والعظام تعوض ذلك.

وأعجب من ذلك أن العظام تسجل كلّ ما يجري لصاحبها عليه في أيام حياته، فعندما يظفر علماء السلالات بشيء من العظام فإنها تجدّد لهم حياة صاحب تلك العظام بعد موته، فيعرفون منها كلّ شيء جرى له وعليه، فكأنها شريطٌ مصوّرٌ عن صاحبها: جنسه وعمره، والأمراض والأعراض التي جرت عليه، وسبب موته، وحتى المدّة التي أمضاها بعد الموت.

وبعد ذلك فليس من العجب أن نقرأ عن أمير المؤمنين× أنه في بض غزواته رأى جمجمة فوضعها في طست فيه ماء؛ وجعل يحركها بسوطه وينظر إليها، وبعد ذلك أخبر عنها أنها جمجمة ملك من الملوك، عاش كذا سنة، وملك كذا سنة، ومات منذ كذا سنة، إلى غير ذلك([3]).

وممّا يجب الالتفات إليه أن الإمام× يعلم أنه ليس كلّ الناس يصدقونه فيما يقول، ولا سيما في أمر كهذا وما أشبهه من الغيبيّات؛ لأن «الناس أعداء ما جهلوا»([4])، ولكنّه لا يهمّه ذلك، ل إن ما يهمّه ويهمّ الآخرين من أولاده الطاهرين^ هو أن يعطوا الناس شيئاً لو جاءهم الزمن بمثله فيما بعد لوجدوه موجوداً عندهم، ومذكوراً في علمهم (صلوات الله وسلامه عليهم).

وقد روي عن النبي‘ أنه قال فيهم: «ألا إنّ أبرار عترتي وأطائب أرومتي أحلم الناس صغاراً، وأعلمهم كباراً، فلا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم»([5]).

وقد جاء في كتب كثيرة عن الإمام الصادق× أنه قال: «إنّ الله سبحانه خلق الإنسان على اثني عشر وصلاً، وعلى مئتين وثمانية وأربعين عظماً سوى الأسنان، وعلى ثلاثمئة وستين عرقاً؛ فالعروق هي التي تسقي الجسد، والعظام تمسكه، واللحم يمسك العظام، والعصب يمسك اللحم»([6]).

وقد جعل في يديه منها اثنين وثمانين عظماً؛ في كلِّ يدٍ واحد وأربعون؛ منها في كفّه خمسة وثلاثون، وفي ساعده اثنان، وفي عضده واحد، وفي كتفه ثلاثة؛ فذلك واحد واربعون، وكذلك في الاُخرى.

وفي كلِّ رجل منها ثلاثة وأربعون عظماً؛ منها في قدمه خمسةٌ وثلاثون، وفي ساقه اثنان، وفي ركبته ثلاثة، وفي فخذه واحد، وفي  وركه اثنان؛ فتلك ثلاثة وأربعون، وكذلك في الاُخرى.وفي كلّ واحدٍ من جنبيه تسعة أضلاع، وفي وقصته ثمانية ـ والوقصة قعر العنق ـ وفي رأسه ستّة وثلاثون عظماً، وفي صلبه ثماني عشرة فقرة، وكلّ فقرة على شكل نجمة مثقوبة من وسطها، وبتراكب هذه الفقرات على بعضها البعض يتكوّن عمودٌ عظمي مثقوبٌ من وسطه بقناة يوجد داخلها النخاع الشوكي الممتد من الدماغ. وعلى جانبي كلِّ فقرة توجد ميازيب تخرج منها الأعصاب إلى جميع الجسم، وفيها فتحات أيضاً تدخل فيها رؤوس الأضلاع الظهرية. جاء في كتاب قصص العرب([7]) أن عُتبة بن أبي سفيان استعمل رجُلاً من آله على الطائف فظلم رجلاً من أزد شنوءة، فأتى إلى عُتبة يشكو إليه عامله، فلما مثل بين يديه أنشد:

أمرت من كان مظلوماً ليأتيَكم فقد أتاكم غريب الدار مظلومُ

ثم ذكر ظلامته، فقال له عتبة: إني أراك أعرابياً جافياً، والله ما أحسبك تدري كم تصلّي في اليوم والليلة. فقال: أرأيت إن أنبأتك بذلك، أتجعل لي عليك مسألة؟ قال: نعم. فقال الأعرابي:

إنّ الصلاة أربعٌ وأربعُ ثم ثلاثُ بعدهُنَّ أربعُ

ثمّ صلاة الصبح لا تضيّعُ

قال: صدقت، فاسأل مسألتك. قال: أخبرني كم فقار ظهرك؟ قال: لا أعلم.

قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل مثل هذه من نفسك؟ فخجل وردّ ظلامته([8]).

قالوا: وإنما خلقت الفقرات في الظهر ولم يجعل بدلاً منها عظماً واحداً من أجل أن يستطيع الإنسان الانحناء، كما جعلت قابلية التمدّد في النخاع عندما يحصل الانحناء للظهر بإرادة أو بغير إرادة.

وجعلت الفقرات من أصلب العظام من أجل المحافظة على النخاع: لأن تصدّعها يُعرّض النخاع للإصابة، وإصابته تعرّض حياة الإنسان للخطر؛ لذلك جعلها الله سبحانه من أصلب العظام بحيث تقدر على تحمّل بعض الصدمات.

ولكنّها مع تحمّلها لبعض الصدمات فقد تؤثّر عليها بعض المصائب، حتى يحسّ الإنسان كأن ظهره قد انكسر، فيقول: «الآن انكسر ظهري».

وقد روي في كتاب تاريخ دمشق وغيره أن لقمان الحكيم& سافر سفراً طويلاً فلما رجع من سفره سأل عن أبويه فقيل له ماذا فقال ملكت أمري وسأل عن زوجته فقيل له ماتت فقال فراش جدد وسأل عن أخيه فقيل له مات فقال انكسر ظهري.

وعن مولانا أمير المؤمنين× أنه لما نعى إليه رسول الله‘ اليه أخاه جعفر (رضي الله عنه) صاح وانقطاع ظهراه أو قال انا لله وانا اليه راجعون الآن انقصم ظهري.

وكذلك قال ولده الحسين يوم العاشوراء عندما وقف على مصرع أخيه العباس×.

________________________

([1] ) البقرة: 259.

([2] ) البقرة: 259.

([3] ) نوادر المعجزات: 21.

([4] ) نهج البلاغة/ الحكمة: 172.

([5] ) شرح الأخبار3: 29/ 1268، كنز العمّال13: 130/ 36413.

([6] ) مناقب آل أبي طالب3: 379.

([7] ) قصص العرب3: 167.

([8] ) الاقتضاب في شرح أدب الكتاب1: 75.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة