شرح دعاء كميل (18)

img

[بيان أقسام الموت الاختياري]

فإذا بلغ الكلام إلى هذا المقام، فالأنسب أن نذكر الموتات الاختيارية الأربعة (التي هي معتبرة) عند أهل السّلوك، ومشار إليها في قوله|: «موتوا قبل أن تموتوا»([1]).

فاعلم أنّ أقسام الموت الأختياري أربعةٌ، وقيل: ثلاثةٌ، بجعل أحد الأقسام ـ وهو الموت الأسود ـ في الموت الأحمر .

[الموت الأبيض]

الأوّل: هو الموت الأبيض، وهو عبارة عن الجوع الذي يصفو القلب به، بل هو سحاب يمطر الحكمة، كما قال|: «الجوع سحاب يمطر الحكمة»([2])، وقال: «الجوع طعام الله تعالى»([3]). فإذا اعتاد السالك نفسه بالتجوّع وقلّة الأكل والشرب، ابيضّ قلبه وسرى الابيضاض في وجهه، فحينئذٍ مات موتاً أبيض.

[الموت الأخضر]

والثّاني: الموت الأخضر، وهو عبارة عن لبس المرقّع، وهو الثوب الموصل من الخرق([4]) الملقاة في الطرق، التي لا قيمة لها، كما قال أمير المؤمنين×: «والله لقد رقعت مدرعتي([5]) هذه، حتّى استحييت من را، فقال لي قائل: ألا تنبذها؟ فقلت: اعزب عنّي، فعند الصّباح يحمد القوم السّرى»([6]).

فإذا قنع السّالك من اللباس بالثوب المرقّع، اخضرّ عيشه، ووجدت نضارة في وجهه، مات بالموت الأخضر.

[الموت الأحمر]

والثّالث: الموت الأحمر، وهو عبارة عن المجاهدة مع النفس، ويسمّى بالجهاد الأكبر، كما قال| حين رجوعه من بعض غزواته: «قد رجعنا من الجهاد الأصغر، عليكم بالجهاد الأكبر». قالوا: وما الجهاد الأكبر؟! قال: «مخالفة النفس»([7]). فإذا خالف السّالك أهوية نفسه، وعبد الله تعالى، وقوى عقله في الطّاعات وتحصيل المعارف، فقد مات بالموت الأحمر؛ لإهراق دم النفس.

[الموت الأسود]

والرابع: الموت الأسود، وهو عبارة عن تحملّ الملامة والأذى من الشامتين الّلائمين، في حبّ الله تعالى، ومحبّة أوليائه من النبييّن والشهداء والصديقين، كما قال الله تعالى: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ([8])، وقال الشّاعر:

أجد الملامة في هواك لذيذةً حُباً لذكرك  فَلْيَلُمني اللُّوَّمُ([9])

فإذا لم يكترث السّالك بتشنيع الواشين ولوم اللائمين في الحبّ، مات بالموت الأسود.

وسرّ التسمية والتوصيف بهذه الأوصاف واضحة:

أمّا في الأوّل: لابيضاض وجه السّالك بالجوع كما مرّ. وفي الثاني: لاخضرار عيشه بالقناعة. وفي الثالث: لاهراق دم النفس في الرياضة. وفي الرابع: لاسوداد وجه السّالك بملامة الواشين.

ومنها: أنّ النور الحسّي له أفول وله ثانٍ وله مقابل، ونور الوجُود ليس له أفول ولا ثانٍ ولا مقابل؛  لأنّه واحد بالوحدة الحقة الحقيقية، ولا مضادّ له.

[نقل كلام شيخ الإشراقيّين]

قال الشّيخ المقتول شهاب الّدين السّهروردي، رئيس الحكماء الإشراقيين+: «وإخوان التجريد يشرق عليهم أنوار، ولها أصناف:

الأوّل: نور بارق يرد عليهم، وينطوي كلمعة بارقة لذيذة.

والثاني: وهو بعد الأول، نور بارق أعظم من النور الأوّل، وأشبه منه بالبرق، إلّا أنّه برق هائل، ورُبّما يسمع معه صوت كصوت رعد، أو دَويّ([10]) في الدِّماغ.

والثالث: نور وارد لذيذ، يشبه وروده([11]) ماء حارّ على الرأس.

والرابع: نور ثابت زماناً طويلاً، شديد القهر، يصحبه خدر([12]) في الدِّماغ.

والخامس: نور لذيذ جدّاً، لا يشبه البرق، بل يصحبه بهجة لطيفة حلوة، تتحرّك  بقوّة المحبّة.

والسادس: نور محرق، يتحرّك من تحريك القوّة الغريبة، وقد يحصل من سماع طبول وأبواق واُمور هائلة للمبتدي.

والسابع: نور لامع في خطفة عظيمة، يظهر مشاهدةً وأبصاراً، أظهر من الشمس في لذة مغرقة.

والثامن: نور برّاق لذيذ جدّاً، يتخيّل كأنّه متعلّق بشعر الرأس زماناً طويلاً.

والتاسع: نور سانح مع قبضة متتالية، تتراءى كأنّها قبضت شعر رأسه، وتجرّه شديداً وتؤلمه ألماً لذيذاً.

العاشر: نور مع قبضة، تتراءى كأنّها متمكنّة في الدِّماغ.

الحادي عشر: نور يشرق عن النفس على جميع الروح النفساني، فيظهر كأنّه تدرّع بالبَدَن شيء، ويكاد يقبل روح جميع البدن صورةً بعدّيةً، وهو لذيذ جدّاً.

الثاني عشر: نور مبدؤه في صولة، وعند مبدئه يتخيّل الإنسان كأنّ شيئاً ينهدم.

الثالث عشر: نور سانح، يسلب النفس وتبيّن معلّقة محضة، منها يشاهد تجرّدها عن الجهات.

الرابع عشر: نور يتخيّل معه ثقل لا يكاد يطلق.

 الخامس عشر: نور معه قوّة تحرّك البدن، حتّى يكاد يقطع مفاصله.

وهذه كلّها إشراقات على النور المدبّر، فينعكس على الهيكل وعلى الروح النفساني، وهذه غايات المتوسّطين.

وقد تحملهم هذه الأنوار فيمشون على الماء والهواء، وقد يصعدون إلى السماء مع أبدان، فيلتصقون ببعض السيّارة العلويّة، وهذه أحكام الإقليم الثامن، الذي فيه جابلقا وجابرصا وهورقليا ذات العجائب.

وأعظم الملكات ملكة موت، ينسلخ النور المدبّر من الظلمات البدنيّة، وإن لم يخل عن بقيّة علاقة مع البدن، إلّا أنّه يبرز إلى عالم النّور ويصير معلّقا بالأنوار القاهرة، ويصير كأنّه موضوع في النّور المحيط.

وهذا [المقام]([13]) عزيز جدّاً، حكاه أفلاطون عن نفسه وهُرمس وكبار الحكماء، وصاحب هذه الشريعة وجماعة من المُنسلخين عن النّواسيت، ولا يخلو الأدوار عن هذه الأمور، وكلّ شيء عنده بمقدار.

ومن لم يشاهد في نفسه هذه المقامات فلا يعترّض على أساطين الحكمة، فإنّ ذلك نقص وجهل وقصور، ومن عَبَدَ الله على الإخلاص، وتاب([14]) عن الظلمات، ورفض مشاعره، يشاهد ما لا يشاهد غيره»([15]) انتهى كلامه رفع مقامه.

ثم إنّ من المعلوم انّ مراد السائل بالنور هاهنا هو حقيقة الوجود التي أنارت كلّ الظلمات الإمكانية، من الدرّة البيضاء إلى الذرّة الهباء، واستشرقت بها جميع الماهيّات من الجواهر والأعراض وما فوقها، وهو نور الأنوار، بَهر برهانه وقَهر سلطانه.

___________________

([1]) بحار الأنوار 69: 59، وفيه: «وقد ورد في الحديث المشهور: موتوا قبل أن تموتوا».

([2]) انظر: الأصول الأصلية: 165، المحجة البيضاء (للفيض الكاشاني) 5: 46.

([3]) شرح مثنوي (حاج ملا هادي السبزواري) 3: 27.

([4]) «الخَرَقُ»: الشق في حائط ، أو ثوب ونحوه، فهو مخروق. العين 4: 149، مادة «خرق».

([5]) «المدرعة»: ضرب آخر [من الثياب] ، لا يكون إلّا من الصوف. العين 2: 35، مادة «درع».

([6]) نهج البلاغة: الخطبة 160، وفيه: «ولقد قال لي قائل».

([7]) انظر: الكافي 5: 12، باب وجوه الجهاد، ح 3، ووسائل الشيعة 15: 161، أبواب جهاد النفس، ب1، ح20208.

([8]) المائدة: 54.

([9]) مختصر المعاني: 306. والقائل: هو أبو الشيص.

([10]) «الدَّوِيُّ»: صوت ليس بالعالي، كصوت النَّحْلِ ونحوه. لسان العرب 14: 281، مادة «دوا».

([11]) كذا في المخطوط، ولكن في هامشها: «ورود ظ». وهذا هو الأنسب والأوفق.

([12]) «الخِدْر»: الستر. وجارية مخدرة، إذا لازمت الخِدْر. الصحاح 2: 643، مادة «خدر».

([13]) من المصدر.

([14]) في المصدر: «ومات».

([15]) شرح حكمة الإشراق: 587.

الكاتب المولى عبد الأعلى السبزواري

المولى عبد الأعلى السبزواري

مواضيع متعلقة