حول الإنسان (14)

img

العظام

قال تعالى

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ([1]).

سُلالة الشيء تعني خلاصته. والطين هو التراب المعجون بالماء كما تقدّم.

والنطفة هنا هي المادة المنوية. والقرار المكين هو صُلب الرجل ورحم المرأة.

والعلقة هنا غيرها في آية ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ([2])؛ لأن العلق في تلك الآية هو الحيوان المنوي الذي يلقّح البويضة، والعلقة هنا هي القطعة الدموية التي تتحول إليها النطفة بعد أربعين يوماً. والمضغة هي قطعة اللحم الممضوغة بالأسنان.

والعظام هي القصبات التي تقوم عليها الأجسام العظميّة، وشكلها في الإنسان المتعارف وعددها واحد إلّا ما شذّ وندر. وقد قيل أن عددها (248) عدا الأسنان فإنها عظام فرعية فليست من العظام المذكورة بقوله تعالى (ثم كسى العظام لحما) قال الإمام الصادق× في كتاب توحيد المفضل حتى إذا تحرك (أي الطفل) واحتاج الى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ليمضغ بها الطعام فيلين عليه وتسهل له إساغته.

وكلّ من تختلف فيه العظام بين الإنسان والآخر هو الطول والقصر؛ لأنها الهيكل الذي يبنى عليه جسد الإنسان. وبما أن الإنسان يختلف في طوله وقصره، فمعنى ذلك أنها تختلف في الطول أو القصر، ولكنه مهما اختلف طول الإنسان وقصر فإنه إذا كان مستوي الخلقة فلابدّ أن يكون طوله ثمانية أشبار بشبر نفسه، وإذا رفع يديه إلى فوق يكون طول جسمه مع يديه المرفوعتين عشرة أشبار بشبر نفسه أيضاً.

وعلى الأغلب يكون عرض ما بين منكبيه شبرين من أشبار نفسه، وأمّا عددها وشكلها في الإنسان فهو واحد؛ لأنها من المتّفقات التي لا تختلف، فإن في الإنسان متّفقاتٍ لا تختلف ومختلفاتٍ لا تتّفق إلّا بشكل نادر. فمن النوع الأول العظام، ومن النوع الثاني اللون والصوت، وبصمة الأصابع، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الاتّفاق والاختلاف، فقال: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ([3]).

فكأن الآية تقول: ﴿بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ﴾ منك ما اتّفق كالعظام التي تتّفق في عددها ونوعها في جميع البشر إلّا ما شذّ وندر، وما اختلف كالبنان الذي لا يتّفق فيه اثنان؛ فإن بصمة كلّ واحدٍ من البشر تختلف عن الآخر.

قالوا: وأول من  اكتشف هذه الظاهرة العجيبة في أنامل الإنسان إنكلترا سنة (1884)م بواسطة المجاهر المكبّرة والمقرّبة. وقد أسلم بسبب اكتشاف هذه الظاهرة العجيبة فيلسوف فرنسي كبير؛ لأنه اطمأن إلى أن هذه الإشارة العلميّة العجيبة لا يمكن أن يصل إليها بشر يعيش قبل أربعة عشر قرناً لا سيّما وهو أمّي لا يقرأ ولا يكتب، فـ ﴿مَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ([4]).

ورحم الله ابن عباس حيث يقول: إن في القرآن معاني يبيّنها الزمن.

والعظام هي أصلب شيء في جسم الإنسان، فإذا وهنت فقد وهن كلُّ شيء في جسمه؛ ولذا عبّر النبي زكريا× عن وهن جسمه وضعف قوّته عن الجنس وغيره بقوله: ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي([5]).

ونظراً إلى صلابة العظام وقوّتها وخشونتها؛ فقد صارت إعادتها بعد تلاشيها بالموت عند من ينكر البعث من أعجب العجائب، فقالوا ما قال الله جلّ وعلا عنهم: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ([6]).

وقد جاء في كتب التفسير أن هذه الآية الكريمة وما قبلها وما بعدها اُنزلت بسبب أن أُبي بن خلف الجمحي، أو أخاه اُمية بن خلف، أو العاص بن وائل السهمي، أو عقبة بن أبي معيط الاُموي، أو بعضهم أوجميعهم جاؤوا إلى النبي‘ يحملون معهم شيئاً من العظام البالية، و جعلوا یفتّونها بین یدیه ‘ و یقولون: تزعم أن ربّک یبعث هذه العظام البالیة ([7])؟ فأنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمة.

وضرب المثل يعني تمثيل الشيء بغيره، ومفاده تقريب الشيء المعنوي إلى ذهن الإنسان بالشيء الحسّي، كما ضرب الله جلّ وعلا مثلاً للكلمة الطيّبة بالشجرة الطيّبة، ومثلاً للكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ([8]).

إلى غيرذلك من الأمثال القرآنية المباركة التي حاولت تقريب الأشياء المعنوية إلى الأذهان بالأشياء الحسية، وقد عرّفت([9]) المتدبّرين للقرآن كثيراً من الحقائق الغامضة.

أما قريش فإنها تضرب الأمثال لله سبحانه على نفي الحقائق وتكذيب الأمر الواقع، كالمثل الذي قال الله عنه: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ([10]). فإن هذا المثل باطلٌ من عدّة وجوه، منها أن الإنسان أي إنسان يعلم بأنه بجميع ما فيه من أعصاب وعروق وعظام مخلوق من التراب، فلو لم ينسَ خلقه لما قال: ﴿مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾: لأن الرميم ترابٌ، وإذا كان الله سبحانه قد قدر على خلقه من التراب أول مرةٍ فهو على إعادته أقدر؛ ولذلك قال سبحانه لنبيه‘:﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ([11])؛ فلا تشتبه عليه ذرّات جزءٍ بذرّات جزء آخر، ولا أجزاء جسم بجسم آخر.

يتبع…

____________________

([1] ) المؤمنون.

([2] )العلق.

([3] ) القيامة: 3ـ4.

([4] ) آل عمران: 144.

([5] ) مريم:4.

([6] ) يس: 78.

([7] ) الجامع الأحكام القرآن10: 68.

([8] ) إبراهيم: 24ـ 26.

([9] ) هذه الأمثال القرآنيّة.

([10] ) يس: 78.

([11] ) يس: 79.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة