حول الإنسان (8)

img

الطين

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾([1]).

الطين هو خليط الماء والتراب، ولاسيما التراب الناعم المغبّر، فإنه إذا عجن بالماء وخمّر صار طيناً تسيخ فيه الأخفاف فضلاً عن الحوافر والأقدام.

روى الدميري في كتاب (حياة الحيوان) عن عبد الله بن المبارك المتوفى سنة (181)هـ بأنه نقل له عن ابن عليّة أحد العلماء المفضّلين عنده أنه تولّى القضاء، فلم يأتِه ولم يصله، وأتى إليه ابن عليّة فلم يرفع إليه رأسه ثم كتب إليه يقول:

يا جاعل العلم له بازياً
احتلت للدنيا ولذّاتها
فصرت مجنوناً بها بعدما
اين رواياتك في سردها
أين رواياتك فيما مضى
إن قلت اُكرهتُ فذا باطل
  يصطاد أموال المساكينِ
بحيلة تذهب بالدينِ
كنت دواء للمجانينِ
في ترك أبواب السلاطينِ
عن ابن عوف وابن سيرينِ
زلّ حمار العلم في الطينِ

فلما وقف إسماعيل بن عليّة على هذه الأبيات ذهب إلى الرشيد، ولم يزل به إلى أن أعفاه من القضاء ([2]).

قالوا: وإذا جفّف الطين واُحرق صار جصّاً تبنى به القصور وتشيد به الآطام، قال تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ([3]).

فيالله ما أعظم ما يجترئ به العبد على ربه، وصدق تعالى حيث يقول: ﴿وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ([4]). وإذا استعظم إيليا أبو ماضي من الإنسان أن يعرض عن مثله فيقول:

نسي الطين ساعة أنه طيـ
لبس الخز جسمه فتباهى
يا أخي لا تمل بوجهك عني
أنت مثلي من الثرى وإليه
  ـن مهين فطار تيهاً وعربدْ
وحوى المال كيسه فتمردْ
ما أنا فحمة وما أنت فرقدْ
فلماذا يا صاحبي التيه والصدْ

وإذا استعظم إيليا إعراض الإنسان عن مثله، فقد أعرض فرعون عن ربه. وللمؤلف:

نحاس أنت أم ذهبُ
أمّ انت الفضّة البيضا
إذا لم تدرِ ماذا أنـ
غرورك جاء من هذا
  حديد أنت أم خشبُ
ء أم طين به لزبُ
ـت فاعلم أنه السببُ
وحينئذٍ فلا عجبُ

وتسمى القطع المتجمّدة من الطين ولاسيما بعد الحرق حجارة، قال تعالى عن لسان خليله ابراهيم×: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ([5]).

وكثيراً ما يتخذ الناس من الطين الصور المجسّمة، ويسمى ذلك فناً، ولا يسمى معجزة إلّا إذا تحولت تلك الأجسام إلى حياة نابضة كما فعل النبي عيسى بن مريم×، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي([6]).

ولذلك فقد ظنّ قوم من النصارى بل اعتقدوا أن عيسى هو الله، يعني: أن الله سبحانه حلَّ فيه واتحد به، فصار الاثنان واحداً.

وحجّتهم في ذلك أن بعض أعمال الله الخاصة به كالإبراء والإحياء والخلق ظهرت على يده، فلو لم يكن هو الله لما قدر على ذلك، قال تعالى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ([7]).

وقد روي في كثير من الكتب أن المأمون العباسي جمع بين الإمام الرضا× وبين جاثليق النصارى، فتناظرا في عيسى بن مريم×، فقال الإمام الرضا×: «إنا والله لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد| وبشّر به، وما ننقم من عيساكم إلّا ضعفه، وقلّة صيامه وصلاته». فقال الجاثليق: أفسدت والله علمك، وضعَّفت أمرك، وما كنت أظن إلّا أنك أعلم أهل الإسلام. قال الرضا×: «وكيف ذلك؟». يعني: بماذا أفسدت علمي، وضعَّفت أمري؟ فقال الجاثليق: من قولك: إن عيسى كان ضعيفاً قليل الصلاة قليل الصيام، وما نام عيسى بليل قط، وما أفطر بنهار قط، وما زال صائماً نهاره قائماً ليله. قال الرضا×: «فلمن كان يصلي ويصوم؟». فخرس الجاثليق وانقطع([8]).

وما أبلغها من حجة؛ إذ لو كان عيسى هو الله لما قام ليله ولما صام نهاره، وإنمنا فعل ذلك لأنه عبد يرجو ثواب الله ويخاف عقابه، قال تعالى: ﴿لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ([9]). وقد أقرَّ× على نفسه بنفسه عندما نطق على صدر اُمّه× فقال تعالى: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا([10]).

إذن فكل ما ظهر على يده من الإبراء والإحياء والخلق فمن الله الذي لا يقدر على مثل ذلك غيره: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ([11]). وإلّا فمن الذي يحوّل الجماد كالطين إلى حياة نابضة؟ قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ([12]).

واليد هنا كناية عن القدرة الإلهية. ومعنى: ﴿أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ أي هل كان عدم سجودك لآدم لأنك استكبرت، أم لأنك من الذين يعلو قدرهم عن أن يؤمروا بالسجود لغيرهم من المخلوقين؟

قال صاحب (الميزان)&: «وقد استفاد بعضهم من الآية بأن العالين قوم من خلق الله مستغرقون في التوجّه إليه»([13])، فلا يشعرون بغيره، وخصّصهم البعض بأنهم محمد وآل محمد| الذين سجدوا لأدم من أجلهم:

ولولاهُمُ لم يخلق الله آدماً   ولا كان زيد في الأنام ولا عمرو([14])

فلما توجه هذا السؤال لإبليس، علّل عدم سجوده لآدم بما يدّعيه من شرف ذاته بسبب شرف عنصره فـ ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾.

وهذا خطأ فادح وقياس باطل؛ لأن النار ليست أشرف من الطين الذي هو الماء، بل الطين أشرف وأفضل من النار؛ لأن النار مصدر العدم، والطين مصدر الحياة، فالنباتات والموجودات الحية كلها تستمدّ حياتها منه، والمعادن الثمينة مخفية فيه.

وحتى المواد التي يستفاد وجود النار منها كالحطب والفحم والنفط والغاز، كلّ هذه الأشيء مصدرها الطين، أي الماء والتراب.

يتبع…

__________________________________________

([1]) المؤمنون: 12.

([2]) حياة الحيوان 1: 153، وانظر كتاب الجهاد (عبد الله بن المبارك): 26.

([3]) القصص: 38.

([4]) يونس: 83.

([5]) الذاريات: 31 ـ 34.

([6]) المائدة: 110.

([7]) المائدة: 17.

([8]) التوحيد 421 / 1.

([9]) النساء: 172.

([10]) مريم: 30.

([11]) الأعراف: 54.

([12]) ص: 71 ـ 75.

([13]) الميزان 17: 226.

([14]) محاسبة النفس: 9.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة