حول الإنسان (7)

img

وكان رسول الله| قد كنى علياً بهذه الكنية، ودعاه بها أكثر من مرة، فراح أعداؤه ينبزونه بهذه الكنية ظنّاً منهم أنها تعني القذر الوسخ، مع أن أحاديث تسمية النبي| له× بهذه الكنية تدلّ على ما فيها من معنى شريف. فمن تلك الأحاديث ما ذكره صاحب (كتاب (فضائل الخمسة من الصحاح الستّة) عن عمار ابن ياسر رضي الله عنه أنه قال: كنت أنا وعلي× رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع، فلما نزلها رسول الله| أقام بها شهراً، فصالح فيها بني مدلج وحلفاءهم من ضمرة، فقال لي علي×: «يا أبا اليقظان، هل لك أن نأتي هؤلاء النفر من بني مدلج يعملون في عين لهم فننظر كيف يعملون؟». فقلت: إن شئت.

فجئنا فنظرنا إلى أعمالهم ساعة ثم غشينا النوم، فانطلقنا حتى اضطجعنا في ظل سور النخل في دقعاء من التراب فنمنا، فوالله ما أهبّنا إلّا رسول الله| يحركنا برجله وقد تربنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها. يقول عمار رضي الله عنه: فيومئذ قال رسول الله| لعلي: «ما لك يا أبا تراب؟».

ثم قال: «ألا اُحدّثكما بأشقى الناس؟». قلنا: بلى يا رسول الله. فقال: «أحمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذا ـ ووضع يده على رأسه ـ حتى يبلّ منه هذه»، وأخذ بلحيته([1]).

ومنها ما ذكره صاحب الكتاب المذكور أيضاً من أن النبي| دخل المسجد يوماً فرأى علياً× نائماً في المسجد وقد سقط رداؤه عن ظهره حتى خلص إليه التراب، فجعل رسول الله| يمسحه بيده ويقول: «اجلس أبا تراب»!.

ومنها ما ذكره صاحب الكتاب المذكور أيضاً بسنده عن ابن عباس قال: لما آخى النبي| بين المهاجرين والأنصار ولم يؤاخِ بين علي× وبين أحد، خرج مغضباً حتى أتى جدولاً فتوسّد ذراعه ونام، فسفت عليه الريح، فطلبه النبي الأكرم| حتى وجده فوكزه برجله وقال له: «قم، فما صلحت أن تكون إلّا أباتراب، أغضبت حين آخيت بين المهاجرين والأنصار ولم اُؤاخِ بينك وبين أحد؟ أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلّا إنه ليس بعدي نبي؟ ألا من أحبّك فقد حفّ بالأمن والإيمان، ومن أبغضك أماته الله ميتة جاهلية وحوسب بعمله في الإسلام».

فلماذا كلّ هذا التكرار لكلمة «أبي تراب»؟ ولماذا لم يمنحها أحداً غيره كعمار بن ياسر وقد شارك علياً× فيما حصل له من ذلك التراب؟ ولماذا يذكر لعلي× في كلّ مرة فضيلة من الفضائل؟ فمرة أن أشقى الناس من يضربه على رأسه، ومرة يجعله منه كـ«هارون من موسى»’، ومرّة أن لمن أحبّه «الأمن والإيمان»، ومن أبغضه «أماته الله جلّ وعلا ميتة جاهلية»؟ لماذا كلّ هذا؟ أ لأجل أن يعيّره أعداؤه بذلك؟

كلّا ثم كلّا، ولكن أعداءه تجاهلوا ما علموا، وبدّلوا ما فهموا، فقلبوا الفضيلة إلى رذيلة: ﴿يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ([2]).

وقد انتبه إلى معرفة هذه الفضيلة كثير من العارفين، ومنهم المرحوم عبد الباقي أفندي العمري البغدادي، المتوفى (1279)هـ، فقال:

يا أبا الأوصياء أنت لطه

إن لله في معانيك سراً

أنت ثاني الآباء في منتهى الدو
خلق الله آدماً من تراب

صهره وابن عمه وأخوه

أكثر العالمين ما عرفوه

ر وآباؤه تعدّ بنوه
فهو ابن له وأنت أبوه([3])

 

ولا تفسير لقوله هذا إلّا أن الإمام علياً× سبب من الأسباب التي من أجلها خلق الله التراب. وقد جاء في حديث الكساء: «لو لا هم ما خلقت سماء مبنية، ولا أرضاً مدحيّة، ولا قمراً منيراً، ولا شمساً مضيئة»([4]).

ولولاهُمُ لم يخلق الله آدماً

وما بُسطت أرض وما رُفعت سما

ولا كان زيد في الأنام ولا عمرو

وما طلعت شمس وما أشرق البدرُ([5])

ولكن أعداء علي× أبوا إلّا أن يصرفوا معناها إلى ما يتناسب مع طبيعتهم القذرة، فعيّروه هو وشيعته بها، وقالوا كما قال الكميت&:

يشيرون بالأيدي إليّ وقولهم

فطائفة قد كفّرتني بحبّكم

فما ساءني تكفير هاتيك منهُمُ

وقالوا ترابيّ هواه ودينه

وماليَ إلّا آل أحمد شيعة

بأي كتاب أم بأيّة سنّة

ألا خاب هذا والمشيرون أخيبُ

وطائفة قالوا مسيء ومذنبُ

ولا عيب هاتيك التي هي أعيبُ

بذلك اُدعى بينهم واُلقبُ

وماليَ إلّا مذهب الحقّ مذهب

يُرى حبّهم عاراً عليويحسبُ([6])

 

وذكر في كتاب (أعلام هجر) قال: دخل صعصعة بن صوحان العبدي& المتوفى بالبحرين (56)هــ على معاوية في الشام، ومعه عمرو بن العاص جالساً على سريره، فقال معاوية لعمرو: وسّع له على ترابيّته، أي مع أنه من أتباع أبي تراب. فقال صعصعة: إني لترابي؛ منه خلقت، وإليه أعود، ومنه أبعث، وإنك لمن مارج من نار([7]).

وقد تقدم أن مؤنت التراب تربة.

وقد روي عن السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء÷، أنها أخذت قبضة من تراب قبر أبيها| فشمتها وأنشدت:

ماذا على من شمّ تربة أحمد

ألّا يشمّ مدى الزمان غواليا([8])

والغوالي: جمع غالية وهي الطيب المجمع من عدّة أطياب([9]).

وقد أخذ هذا المعنى البوصيري& فقال في قصيدته الميميّة المسماة بقصيدة البردة:

لا طيب يعدل ترباً ضم أعظمه

طوبى لمنتشق منه ولمتثمِ([10])

كما تقدم أن التراب يجمع على الترُب أيضاً، وقد روي أن فاطمة÷ لما أصابها ما أصابها بعد فقد أبيها| تمثّلت بقول صفية بنت أثاثة:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
تهضّمتنا رجال واستخفّ بنا

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطبُ
واختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا
لما مضيت وحالت دونك التربُ

فالترب هنا جمع تراب، وقد روي عنها أنها (صلوات الله وسلامه عليها) عندما سمعت صوت المساحي تأخذ التراب إلى قبر رسول الله|، صرخت من وراء الحجرة: «يا معاشر المسلمين، كيف طابت أنفسكم أن تهيلوا التراب على وجه رسول الله|؟»([11]).

فماذا فعلت أيها التراب؟ غيبت وجوه الطاهرين، وأكلت محاسن الصالحين:

«قال الحبيب وكيف لي بجوابكم

أكل التراب محاسني فنسيتكم

وأنا رهين جنادل وترابِ

وشغلت عن أهلي وعن أحبابي»([12])

 وفي (سفينة البحار) عن الرضا× أنه قال: «لا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبرّكوا به؛ فإن كلّ تربة لنا محرّمة إلّا تربة جدي الحسين×؛ فإن الله جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا»([13]).

وإنما خلق الله أكثر الأرض من حبيبات الرمل والتراب لتكون لينة رخوة تتلاءم مع رغبة الإنسان في حياته؛ في البناء، والزرع، وشقّ الأنهار، وحفر الآبار، وغير ذلك، وتتلاءم مع حاجته إليها بعد موته في الإقبار والتلحيد، قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا([14]).

فهي كالاُم التي تجمع جميع أولادها حولها، وتجعلهم تحت أجنحتها، فتعطي الناس مكاناً يسكنون فيه على وجهها، وتغذيهم، وتلبسهم من نباتها، وتموّنهم بجميع ما يحتاجون إليه في حياتهم، وتضمّهم في بطنها بعد موتهم. قال بعضهم:

الأرض معقلنا وكانت اُمّنا منها معايشنا وفيها نقبر

وقد روي ([15]) أن أمير المؤمنين× نظر في رجوعه من صفين إلى المقابر فقال: «هذه كِفات الأموات»، ثم نظر إلى بيوت الكوفة فقال: «وهذه كفات الأحياء». ثم تلا قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاء وَأَمْوَاتًا﴾.

فالكفات: جمع (كفت) بمعنى الوعاء، ومعنى ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا﴾، يعني أوعية للناس وغيرهم، تجمعهم وتغذّيهم من خيراتها في حياتهم، وتضمّهم إليها بعد موتهم. وقد تضمّهم إليها قبل موتهم كالموءودات، وكالذين دفنوهم أحياء ومنهم عمرو المقصوص معلم معاوية بن يزيد بن معاوية الذي دفنه بنو اُميّة حياً؛ لأنهم اتّهموه بأنه علّم معاوية بن يزيد حبّ علي وأهل بيته.

وهكذا كان بنو اُميّة قديماً وحديثاً يقتلون الناس بالقتلات البشعة ويهدّدونهم بها؛ ولذلك قال ابن زياد لمسلم بن عقيل: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتل أحد في الإسلام بمثلها. فقال له مسلم: إنك أحقّ ألّا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث ا لسيرة ولؤم الغيلة لأحد من الناس أولى بها منك([16]).

يتبع…

______________________________

([1]) فضائل الخمسة من الصحاح الستّة 1: 202.

([2]) التوبة: 32.

([3]) شجرة طوبى 2: 220، الغدير 6: 338.

([4]) روضة الواعظين: 84، الهداية الكبرى: 101.

([5]) البيتان لابن العرندس. محاسبة النفس: 9، الغدير 7: 18.

([6])  الروضة المختارة (شرح القصائد الهاشميّات): 29.

([7]) أعلام هجر 2: 148.

([8]) المغني (ابن قدامة 2: 411، نظم درر السمطين: 181، سبل الهدى والرشاد 12: 289، 337، مغني المحتاج 1: 356.

([9]) لسان العرب 12: 544 ـ لطم.

([10]) أعيان الشيعة 9: 306، من ضمن تخميس للشيخ محمّد رضا النحوي على هذه الميميّة.

([11]) سنن ابن ماجة 1: 522/ 1630، المستدرك على الصحيحين 1: 382، وفيهما: تحثوا التراب.

([12]) ممّا ينسب لأمير المؤمنين×. بحار الأنوار 43: 217.

([13]) سفينة البحار 10: 325، ورواه في ج 1 ص 475 عن الإمام الكاظم×.

([14]) المرسلات: 25 ـ 26.

([15]) بحار الأنوار 9: 247 / 150.

([16]) الإرشاد 2: 197 ـ 199، اللهوف في قتلى الطفوف: 47 ـ 50، بحار الأنوار 44: 356.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة