حول الإنسان (6)

img

التراب

قال تعالى:

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ﴾([1]).

التراب: حبيبات الأرض، ومؤنثه: تربة، وجمعه: أتربة، وتربان، وتُرب. وصاحب المتربة يعني: الفقير المدقع الذي ألصقه فقره بالتراب، فسماه الله تعالى: ﴿ذَا مَتْرَبَةٍ([2]) كالذي ألصقه فقره بالدقعاء، وهي الأرض، فسمي مدقعاً. و«تربت يداه» يعني افتقر

وفي الحديث عنه| انه قال: «تنكح المرأة لمالهاه وجمالها ودينها؛ فعليك بذات الدين تربت يداك»([3]). أي افتقرت يداك إن لم تفعل ذلك.

وفي الحديث أيضاً: «احثوا في وجوه المدّاحين التراب»([4]).

قیل: وأراد| بالمدّاحين: الذين اتخذوا مدح الناس بضاعة يستأكلون بها الممدوح. وأما من مدح الناس على الفعل الحسن والأمر المحمود ترغيباً لصاحبه في الجميل وتحريضاً للناس على الاقتداء به في ذلك، فلا.

وقد مرَّ في المجلس السابق أن الإنسان مرَّ عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، وهو دور العدم الكلي، ثم لما خلق الله الماء حصل له دور الوجود المائي ثم لما خلق الله التراب من زبده حصل له دور الوجود الترابي، وهذا ما أرادته الآية الكريمة السابقة.

وقد جعلهما الله سبحانه طهورين؛ تنبيهاً للإنسان على أنهما أصله الذي خلق منه، ففي حالة ولوغ الكلب في الإناء نطهّره بالماء والتراب في الغسلة الاُولى، ثم بالماء في الغسلتين الأخيرتين. وفي حالة فقدان الماء وما شابهه([5]) نتيمم بالتراب بدلاً من الماء، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا([6]).

قالوا: والصعيد: وجه الأرض؛ تراباً كان او غيره؛ ولكن أطيبه التراب. وجاء عن رسول الله| أنه قال: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً»([7]).

وفي (الوسائل) عن الإمام الصادق×: «إن الله جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً»([8]).

وقد بينت الآية الكريمة كيفية التيمم بعد ذلك، فقالت:

﴿فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ([9]). يعني: من الصعيد.

فكيفية التيمم هي أن يضرب بباطن يديه على الأرض دفعة واحدة، ثم يمسح بهما تمام جبهته وجبينه من قصاص الشعر إلى طرف الأنف الأعلى، ثم يمسح تمام ظاهر الكف اليمنى من الزند إلى أطراف الأصابع بباطن اليسرى، ثم تمام ظاهر الكف اليسرى كذلك بباطن الكف اليمنى. والأحوط أن يضرب بباطن كفيه الأرض مرة ثانية ويمسح اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى كما تقدم.

هذه هي صورة التيمم ولكن عمار بن ياسر& خفي عليه ذلك عندما أصابته الجنابة، ولم يكن لديه ماء فنزع ثيابه وتمعك في التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عمار تمعّكت كما تتمعّك الدابة». وعلّمه التيمم ([10]).

فالتراب أحد الطهورين لأنه أحد المادتين اللتين خلق منهما الإنسان، وهما الماء والتراب. ومما ينسب لأمير المؤمنين× من الشعر قوله:

الناس من جهة التمثال أكفاءُ
فإن يكن لهُمُ في أصلهم شرف

أبوهُمُ آدم والاُمُّ حوّاءُ
يفاخرون به فالطين والماءُ([11])

يتبع…

_______________________

([1]) الحج: 5.

([2]) البلد: 16.

([3]) مسند أحمد 2: 428، وانظر الكافي  5: 332 /1.

([4]) الأمالي (الصدوق): 513.

([5]) كالثلج مثلاً.

([6]) المائدة: 5.

([7]) الخصال: 292 / 56، وسائل الشيعة 3: 250 / 2839.

([8]) وسائل الشيعة 1: 133 / 322، 3: 385 / 3935، 386 / 3941، 8: 327 / 10803.

([9]) المائدة: 6.

([10]) الكافي 3: 62 / 4، تهذيب الأحكام 1: 207 / 598.

([11]) ديوان الإمام علي×: 15. وبما أن الإنسان يعلم علماً يقينيّاً بأنه خلق من التراب ويعود بعد الموت إلى التراب، فإنه إذا صار يوم القيامة ورأى ما يسوؤه يتمنّى أنه لو بقي تراباً إلى الأبد، وأنه لم ينتقل إلى دور الحياة والإدراك والمسؤولية، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾ النبأ: 40. يعني: ليتني بقيت تراباً فلم اُخلق، ولم اُكلف، أو ليتني بقيت بعد الموت تراباً فلم اُبعث للثواب والعقاب. وفي (التفسير الصافي) و(البرهان) أنه إذا كان يوم القيامة ورأى الكافر ما أعد الله سبحانه لشيعة علي× من الثواب والكرامة يقول: ﴿يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا﴾، يعني من شيعة أبي تراب، وكان رسول الله| قد كنى الإمام أمير المؤمنين× بهذه الكنية.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة