حول الإنسان (5)

img

وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ([1]).

وجاء في كتاب (القرآن والعلوم) أن قيصر ملك الروم بعث إلى معاوية بالشام رسالة ومعها قنينة ـ أي قارورة ـ وفي الرسالة: ضع لي في هذه القنينة من كلّ شيء حي. فلم يعرف ماذا يضع في تلك القنينة، إنساناً أم حيواناً أم نباتاً، أم .. أم؛ فإنها لا تتّسع لشيء من ذلك.

فأرسل بها بعض حاشيته إلى أمير المؤمنين× بالكوفة، وأمره أن يقول له ما  قاله ملك الروم، فأقبل إليه بالكوفة وقال له: أنا رجل من شعتك واُريد أن تضع لي في هذه القارورة من كّ شيء حي. فقال له أمير المؤمنين×: «أنت لست من شيعتي، وهذا الذي أردته سؤال جاء إلى معاوية من ملك الروم فلم يجد له جواباً، فبعثك إلي لتأخذ الجواب مني».

ثم أمر بعض أصحابه أن يملأها ماء، ودفعها إليه وأعطاه كتاباً كتب فيه: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ([2]). فلمّا أرسله معاوية إلى قيصر كتب إليه قيصر: إن هذا الجواب لم يخرج إلّا من بيت نبوة.

إذن، فالماء من أجلّ نعم الله على عباده، قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ([3]). فعلينا أن نشكر ولا نكفر، وهو نظافة وطهارة وحياة؛ ولذلك فهو أغلى شيء في الدنيا، ولو لا كثرته لاقتتل الناس عليه ولبذلوا من أجل تحصيله كلّ غالٍ ونفيس. روي أن رجلاً من الصالحين دخل على هارون الرشيد، فقال له الرشيد: عظني بموعظة أنتفع بها. وكان كأس الماء بيده حينئذ، فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين أترى لو منع عليك هذا الكأس في وقت حاجتك إليه كم كنت تبذل في الحصول عليه؟ قال: أبذل فيه نصف ملكي.

قال: فلو حصلت عليه بنصف ملكك وشربته، ثم تعسّر خروج فضلاته منك، فكم كنت تبذل في خروجه منك؟ قال: نصف ملكي الثاني. قال: فقد ذهب ملكك كلّه من أجل كأس ماء، فاحذر أن تظلم أحداً أو يظلم باسمك أحد من أجل ملك لا يساوي كأس ماء. فاستحس الرشيد موعظته.

وبما للماء من الدور الحسّاس في حياة المخلوقين عامّة، فقد ورد في ثواب بذله وعدم جواز منعه كثير من الروايات؛ فعن الإمام الصادق× أنه قال: «أفضل الصدقة إبراد كبد حرّى»([4]).

وعنه×: أنه قال: «من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن أعتق رقبة، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان كمن أحيا نفساً، ومن أحيا نفساً كان كمن أحيا الناس جميعاً»([5]).

وروي عن عيسى بن مريم × أنه كان إذا نظر إلى الماء قال: «هذا أبي واُمّي والحمار شريكي فيه».

قيل: ولعله أراد: إن الماء يحفظ لي حياتي كما يحفظ الوالدان الحياة لطفلهما، فهو كأبي وأمي. «والحمار شريكي فيه» يعني أنه لا يجوز لي أن أمنع منه حتى الحمار؛ لأن حقّه فيه كحقي فيه.

ومما يؤيد ذلك أن الفقهاء عدّوا من موارد مشروعية التيمم أن يتيمم الإنسان وعنده من الماء ما يكفي لوضوئه إذا كان عنده نفس محترمة كالشاة والحمار وأمثالهما، وهي ([6]) في حاجة ماسّة إلى ذلك الماء.

وفي كتاب (حياة الحيوان) للحافظ الدميري المتوفى سنة (808) هـ قال: روى مسلم أن النبي| قال: «بينما امرأة تمشي بفلاة من الأرض إذ اشتدّ عليها العطش، فنزلت بئراً فشربت ثم صعدت فوجدت كلباً يأكل التراب من شدّة ما به من العطش، فقالت: لقد بلغ بهذا الكلب مثل الذي بلغ بي. ثم نزلت البئر فملأت خفها ماء، وأمسكته بفيها، ثم صعدت فسقته فشكر الله لها ذلك فغفر لها».

فقال بعض الصحابة: يا رسول الله، ألنا في البهائم أجر؟ فقال: «نعم، في كلّ كبد أجر»([7]).

وحينئذ فمن المؤسف جداً أن نقرأ عن اُمة محمد| الذين بعث الله نبيهم رحمة للعالمين أجمع أن يمنع بعضهم الماء عن البعض الآخر كما حدث ذلك في أيام صفين، قال نصر بن مزاحم المنقري المتوفى (212) هـ في كتاب (صفين): عن عبد الله بن عوف بن الأحمر قال: لما قدمنا على معاوية وأصحابه بصفين وجدناهم قد أخذوا المشرعة فهي في أيديهم، وأجمعوا أن يمنعوا الماء، وأرسل إليهم أمير المؤمنين× أن يخلّوا بيننا وبين الماء، فأبى وشجّعه على ذلك الوليد ابن عقبة بن أبي معيط، وعبد الله بن أبي سرح وأمثالهما.

قال نصر: وقال له عمرو بن العاص: خلِّ بينهم وبين الماء، فإن علياً× لم يكن ليظمأ وأنت ريان وفي يده أعنة الخيل، وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق، وقد سمعته أنا وأنت وهو يقول: «لو استمكنت من أربعين رجلاً» .. وذكر امراً.

قيل: وذلك الأمر أنه× قال: «لما دخل أحد بيت فاطمة÷».

فلم يطعه معاوية، وبقي على رأيه، وقال لأهل الشام: هذا والله أول الظفر، لا سقاني الله ولا أبا سفيان إن شربوا من الماء حتى يقتلوا كلهم عليه.

وبقي علي× وأصحابه يوماً وليلة من غير ماء، وكان في أهل الشام رجل همداني ناسك يقال له المعرّى بن الأقبل الهمداني، فجاء لمعاوية وقال له: يا سبحان الله يا معاوية، لأن سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه تمنعونهم منه؟ أما والله، لو سبقوكم إليه لسقوكم منه، أليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات؟ أما تعلمون أن فيهم العبد والأمة والأجير والضعيف ومن لا ذنب له؟ هذا والله أول الجور. لعمري لقد شجعت الجبان وبصرت المرتاب. فأغلظ له معاوية، وكان الهمداني مؤاخياً لعمرو بن العاص، فقال له معاوية: اكفني صديقك. فأتاه عمرو وأغلظ له، فقال الهمداني في ذلك:

لعمرُ أبي معاويةُ بن حرب
سوى طعن يحار العقل فيه
فلست بتابع دين ابن هند
لقد ذهب العتاب فلا عتاب
ج

وعمرٌ وما لدائهما دواءُ
وضرب حين تختلط الدماء
طوال الدهر ما أرسى حراءُ
وقد ذهب الولاء فلا ولاءُ

ثم سار الهمداني في سواد الليل حتى لحق بعلي×.

وبعد أن مرّ يوم وليلة على منع أمير المؤمنين× وأصحابه من الماء، صرخ صارخ في آخر الليل من تحت رايات مذحج من قومه×:

أيمنعنا القوم ماء الفرات
وفينا علي له صولة
ونحن الذين غداة الزبير

وفينا السيوف وفينا الجحفْ
إذا خوّفوه الردى لم يخفْ
وطلحة خضنا غمار التلفْ

فتصايحت الرايات عند الفجر، وصاح بهم علي×: «ارووا السيوف من الدماء ترووا من الماء». فحمل الأشعث الكندي والأشتر النخعي ومعهما نحو اثني عشر ألفاً، وجعل الأشتر يرتجز ويقول:

لاُوردنّ خيليَ الفراتا حمر النواصي او يقال ماتا

فما رجعوا حتى وضعت الخيل سنابكها في الفرات.

وأرسل الإمام علي× إلى معاوية: «هلم إلى الماء؛ فنحن وأنتم فيه سواء»([8]).

وهذه المفارقات لا زالت ولا تزال موجودة بين الهاشميين والاُمويّين، فالحسين× يقول لأصحابه: «اسقوا القوم وارووهم، ورشّفوا الخيل ترشيفاً»([9])، وبنو اُميّة يقولون لأصحابهم: اقتلوهم عطشاً.

ومعاوية يملك الماء فيمنعه عن علي× وأصحابه، وعلي يملكه فيبيحه لمعاوية وأصحابه، ورسول الله| يمنح الأمان لأبي سفيان يوم فتح مكة، ويجعل بيته مأمناً للخائفين، وحفيده يأمر بقتل سبط رسول الله| ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة([10]):

ملكنا فصار العفو منّا سجيّة ولمّا ملكتم سال بالدم أبطحُ

يتبع…

_______________________

([1]) الأنبياء: 30.

([2]) الأنبياء: 30.

([3]) الملك: 30.

([4]) الكافي 4: 57/ 2، تهذيب الأحكام 4: 110 / 319.

([5]) الكافي 4: 57 / 3، الفقيه 2: 64 / 1724.

([6]) النفس المحترمة.

([7]) حياة الحيوان 2: 197 ـ 198.

([8]) كتاب صفين: 180 ـ 182.

([9]) تاريخ الطبري 4: 302.

([10]) الإمامة والسياسة 2: 3، جواهر المطالب 2: 264.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة