البشارة لطلّاب الاستخارة (4)

img

فانظر إلى الساخط ما حاله كيف غرّر بنفسه إلى أن يتّهم ربّه البارّ به اللطيف الشفيق‏ الرفيق به، فلو أنّ رجلاً استشار شخصاً مأموناً ناصحاً عارفاً مجرّباً للأمور، فشار عليه بشي‏ء وخالفه، لعدّ خلاف المشاورة من كبائر العيب؛ فكيف بالمتجرّي على‏ مخالفة عالم الغيب، والمستشار مؤتمن، والمخالف في عنىً؟! فينبغي للمستخير أن يهذّب نفسه بالأخلاق الرضيّة ليدخل في حجاب المحبّة والرضا ويختار ما يحبّ اللَّه ويرضى.

روى البرقي في (محاسنه) عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن هارون بن خارجة قال : قال أبو عبد اللَّه‏ عليه السلام: «من استخار اللَّه عزّ وجلّ مرّة واحدة وهو راضٍ بما صنع‏اللَّه له خار اللَّه له حتماً«(34).

فانظر بعين قلبك، وعِ بإذن لُبّك، مرتبة الرضا بالصنع الإلهي والأمر السبحاني،والحكم الربّاني والهدى الرحماني، حتى إنّ الجبار – تعالى شأنه – يخير له حتماً، أخبر به الصادق‏ عليه السلام.

وروى محمّد بن يعقوب الكليني في كتابه (الكافي) عن محمّد بن يحيى، عن ‏أحمد ابن محمّد، عن محمّد بن خالد، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن‏ عمرو ابن حُريث قال: قال أبو عبد اللَّه ‏عليه السلام: «صلّ ركعتين واستخر اللَّه، فو اللَّه ما استخار اللَّه مسلم إلّا خار له البتّة«(35). قوله عليه السلام: «فو اللَّه ما استخار اللَّه مسلم إلّا خار له ألبتّة» يمكن حمل الحديث على ظاهره؛ لأنّ المستشار مؤتمن، ويدلّ عليه‏ عموم الأخبار الأولى مثل قوله تعالى: «من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال فلا يستخيرني<(36)، ومثل قوله عليه السلام: «من دخل في أمر بغير استخارة ثمّ اُبتلى لم‏يؤجر«(37)، وغير ذلك.

ومثل ما روي عن النبيّ‏ صلى الله عليه وآله: «إنّه سبحانه قال: وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ‏ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواه على هواي إلّا شتّتُ عليه أمره،ولبّست عليه دنياه وشغلت قلبه بها، ولم اُؤته منها إلّا ما قدّرت له، وعزّتي وجلالي‏ وعظمتي وكبريائي ونوري وعُلوّي وارتفاع مكاني، لا يؤثر عبد هواي على هواه ‏إلّا استحفظته ملائكتي وكفلت السماوات والأرض رزقه، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر وأتته الدنيا راغمة«(38).

فهذه الروايات وأشباهها دالّة على عموم الاستخارة، ويمكن حمل المسلم على‏ الراضي كما تضمّنه الحديث السّابق من قوله‏عليه السلام: «وهو راضٍ بما صنع اللَّه‏ له«(39)، لأنّ الرضا هو الإسلام والإسلام هو التسليم والتسليم هو الإيمان. قال اللَّه‏ سبحانه وتعالى شأنه: «فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ‏لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً«(40)، فإذا تفكّرت فيما قال اللَّه سبحانه(41) عرفت حقيقة الرضا وعلوّ رتبته.

الإشارة الرابعة: في اختلاف مراتب الناس في الاستخارة

قال ابن طاووس في كتابه (فتح الأبواب): (أكثر الناس لا يحبّون ما أراده اللَّه منهم‏ ولا يلتفتون إلى الاستخارة، وهم فرق:

ففرقة كانوا مشغولين عن أخبار الاستخارات بمهام دنياهم فلم يتفرّغوا لاعتبار ما ورد فيها من الروايات، ولو وقفوا على ذلك لالتفتوا إليها ولما توقّفوا عنها.

وفرقة وجدوا فيها إكداراً وإعساراً فتوقّفوا عنها ونفروا منها، وهؤلاء إذا نظر في‏حالهم منصف عرف أنّهم لم يقيموا شروط الاستخارة فالذنب لهم دونها؛ لأنّهم‏يستخيرون على سبيل التجربة لينظروا هل يظفرون بمرادهم أم لا، والذي يستخير على سبيل التجربة يكون سيّ‏ء الظنّ باللَّه أو سيّ‏ء الظنّ بالرواية، وكلاهم يمنع من‏ الاستخارة، واللَّه سبحانه يقول: «الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُالسَّوْءِ«(42)، والمستخير على هذه الصفات يكون أقرب إلى النقمات من أن يظفر بفوائد الاستخارات.

وفرقة لا ثقة لهم بالاستخارات ولا يقين، بل إن جاءت الاستخارة كما يريدون‏عملوا بها وإلّا نفروا منها، وما يؤمن هؤلاء من دخولهم تحت عموم تهديد قوله‏ تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ» أيّ: شكّ «فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌاطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ«(43).

وفرقة من العوام ما في قلوبهم يقين ولا معرفه إلّا بمن يشاهدونه ويأتون به من‏ الأنام؛ واللَّه لا تصح عليه المشاهدة فليس لهم به معرفة فلا يعرفون لمشاورته((44).انتهى كلامه أعلى اللَّه مقامه.

الإشارة الخامسة: الإقبال على اللَّه سبحانه والاعتماد عليه تعالى شأنه‏ والتوجّه إليه بقلبه وبدنه فإنّه في مجلس الحضور والخطاب إن كان من اُولي الألباب الفائزين بدخول هذا الباب الواصلين سبحات الحجاب.

الإشارة السادسة: الطهارة

بأن يطهّر قلبه من الشكّ والارتياب ويولعه بربّ الأرباب، ويزيل عنه الشواغل ‏والموانع، ويقاتل هواه ونفسه بالصوارم القواطع، يمنعها من الخواطر الردية الشيطانية والعوائق الخبيثة النفسانية، ويطهّر بدنه بالطهارة الشرعية الرحمانية،ويقدّس لسانه من الهفوات والسقطات الإنسانية، ويلزم الآداب الشرعية السبحانية، ولا تعجبه نفسه وعشيرته؛ فإنّه بحضرة الملك الجبّار الجليل‏ القهّار.

الإشارة السّابعة: التختم بالعقيق

أن يكون في يد المستخير خاتم عقيق فيه محمّد وعلي ويضرب بيده اليمنى‏فيأخذ أحد السهمين، فإنّه المحمود في العاجلة والآجلة، ذكره ابن باقي في(مصباحه) فإنّه أقرب لإجابة الدعوات وحصول المسرّات.

الإشارة الثامنة: عدم الالتفات أو التكلّم مع أحد حين الاستخارة

عدم الالتفات إلى أحد من المتكلّمين ؛ فإنّه مشغول بخطاب مالك يوم الدين كما هو دأب الأئمة المعصومين.

فقد روى البرقي في (محاسنه) عن علي بن الحكم، عن أبان الأحمر، عن شهاب ‏بن عبد ربّه، عن أبي عبد اللَّه‏عليه السلام قال: «كان أبي إذا أراد الاستخارة في الأمر توضّأ وصلّى ركعتين، فإن كانت الخادمة لتكلّمه فيقول: سبحان اللَّه، ولا يتكلّم حتى ‏يفرغ«(45).

الإشارة التاسعة: طلب الاستخارة في عافية

أن تكون الاستخارة في عافيةٍ، فإنّه ربما خيّر للرجل في قطع يده وموت ولده.

الإشارة الحادية عشرة: التأدّب والإقبال على اللَّه حين الاستخارة

ذكر ابن طاووس في كتابه (فتح الأبواب((46) من آداب المستخير أن يتأدّب في‏صلاته كما يتأدّب السائل المسكين ويقبل بقلبه على اللَّه في سجوده للاستخارة،وقول: (أستخير اللَّه برحمته [خيرة] في عافية) وكذا إذا رفع رأسه من السجدة، وأن‏لا يتكلّم بين أخذ الرقاع ولا في أثناء الاستخارة إلّا بالمرسوم؛ لأنّ ذلك من قلّة الأدب؛ ولقول الجواد عليه السلام لعلي بن أسباط: «ولا تكلّم أحداً بين أضعاف الاستخارة حتى تتم مائة مرّة«(47).

وإذا أراد الاستخارة مخالفة لمراده فلا يقابلها بالكراهة، بل بالشكر [لما(48)] جعله‏ اللَّه أهلاً أن يستشيره.

الإشارة الثانية عشرة: الاستخارة في المباح

ذكر الشيخ المفيد رحمه الله في (الرسالة الغروية): (أنّه لا ينبغي للإنسان أن يستخير اللَّه‏ في شي‏ء نهاه عنه ولا في أداء فرض، وإنّما الاستخارة في المباح وترك نفل إلى‏نفل لا يمكنه الجمع كالحجّ والجهاد تطوعاً، أو لزيارة مشهد دون آخر، أو صلة أخ‏دون آخر، وصلاة الاستخارة بالفاتحة وما شاء والقنوت، فإذا سلّم قال بعد حمد اللَّه والثناء عليه والصلاة على النبيّ‏ صلى الله عليه وآله :

اللهمّ إنّي أستخيرك بعلمك وقدرتك، وأستخيرك بعزّتك، وأسألك من فضلك،فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علاّم الغيوب، اللهمّ إن كان هذا الأمر الذي عرض لي خيراً في ديني ودنياي وآخرتي، فيسّره لي، وبارك لي فيه،وأعنّي عليه، وإن كان شرّاً [لي] فاصرفه عنّي، واقض لي الخير حيث ‏كان [ورضّني به] ، حتى لا اُحبّ تعجيل ما أخّرت ولا تأخير ما عجّلت، يا أرحم ‏الراحمين، وصلّى اللَّه على محمّد وآله الطاهرين(49).

 

يتبع…

 

الهوامش

34) المحاسن 1/598 :2، وسائل الشيعة 80/8، أبواب الاستخارة، ب7، ح4.

35) الكافي 1/470 :3، وسائل الشيعة 63 :8، أبواب صلاة الاستخارة، ب1، ح1.

36) المحاسن 3/598 :2، وسائل الشيعة 79 :8، أبواب صلاة الاستخارة، ب7، ح2.

37) المحاسن 4/598 :2، وسائل الشيعة 79 :8، أبواب صلاة الاستخارة، ب7، ح1.

38) الكافي 2 / 335 :2، وسائل الشيعة279:15 ،أبواب جهاد النفس،ب32،ح3 .

39) المحاسن 1/598 :2، وسائل الشيعة 80 :8، أبواب صلاة الاستخارة، ب7، ح4.

40) النساء: 65.

41) في المخطوط بعد: (سبحانه) زيادة: (فيما) .

42) الفتح: 6.

43) الحج: 11.

44) فتح الأبواب: 285 – 283، بتفاوت .

45) المحاسن 8/599 :2، وسائل الشيعة 66 :8، أبواب صلاة الاستخارة، ب1، ح8.

46) فتح الأبواب: 298.

47) فتح الأبواب: 143، وسائل الشيعة 77 :8، أبواب صلاة الاستخارة، ب5، ح7.

48) وفي الأصل: كيف.

49) عنه في: فتح الأبواب: 177 – 176، مستدرك الوسائل247:6، أبواب صلاة الاستخارةب/ح13

الكاتب الشيخ أحمد بن صالح بن حاجي الدرازي ‏البحراني

الشيخ أحمد بن صالح بن حاجي الدرازي ‏البحراني

مواضيع متعلقة