حول الإنسان (4)

img

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا﴾([1]).

قال بعض المفسرين: يحصل من يقول: إن الماء المذكور في هذه الآية هو ماء النطفة نظراً إلى قوله تعالى: ﴿ فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾، ولكن هذا القول ضعيف في الاعتبار؛ لأن الماء إذا اُطلق عرف منه الماء المطلق.

وقد قال العلماء: إن الماء يمثّل في جسم الإنسان والحيوان من (65 ـ 70%)، والباقي للتراب. ويمثل الماء في النبات نسبة (80%).

ولم تكن هذه الآية هي الاُولى والأخيرة التي قالت: إن الإنسان وغيره خلق من الماء، بل هناك آيات اُخرى، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ([2]).

 

وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ([3]).

بل ورد أن السماوات والأرض خلقتا من الماء فالأرض من زبده، والماء من دخانه كما تقدم.

وبخلق الماء انتقل الإنسان من مرحلة العدم الكلي إلى مرحلة الوجود المائي، وهو ما أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا﴾. فما هو هذا الماء؟ الماء هو هذا السائل العجيب الذي أودع الله فيه سرّ الحياة، وقد مرَّ على الناس زمن طويل وهم يظنونه مخلوقاً بسيطاً يعني أنه من مادة واحدة فقط، يعني أنه جوهر فرد، ولكن العلم الحديث توصل بالطرق العلمية إلى معرفته بأنه مركب من مادتين:

1ـ جزء واحد من الأوكسجين، (O).

2ـ جزأين من الهيدروجين، (H).

والأوكسجين عبارة عن جسم هوائي محرق، إذا أدخلت فيه شيئاً قابلاً للاحتراق احترق بسرعة، والهيدروجين عبارة عن جسم هوائي طيّار كالأول، ولكنه مخنق؛ فإذا أدخلت فيه حيواناً اختنق بسرعة.

وهذان الجسمان (المحرق والمخنق) إذا اتحد بتلك النسبة المذكورة فقد كلّ واحد منهما صفاته الخاصّة، وحدثت لهما صفات لم تكن لهما من ذي قبل، وهي صفات الماء الذي به حياة كلّ شيء بطعمه وهيئته وما له من صفات وخصوصيات.

ومن العجيب أنه لو تركب من جزأين من الأوكسجين، وجزأين من الهيدروجين لحصل منهما سائل كاوٍ محرق أكال لما يحل فيه يسمى (ديتوكسيد).

فانظر إلى الفرق بين الإحياء والإماتة تجده جزءاً واحداً في النقص والزيادة، وبذلك يتبيّن معنى قوله تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ([4]).

وقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ([5]).

قالوا: وإذا قدر لهاتين المادتين أن تنفصلا عن بعضهما البعض ـ ولابد أن يكون ذلك في النهاية ـ فإنهما سيلتهبان ناراً، وذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ([6]).

أما متى خلق الله تعالى الماء، فإنه خلقه بلاشك قبل خلق السماوات والأرض؛ بل إن السماوات والارض خلقتا من زبده وبخاره كما تقدّم، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ([7]).

قال مغنية& في تفسيره (الكاشف): «تدلّ هذه الآية على أن الماء كان موجوداً قبل خلق السماوات والأرض».

وقد جاء في أقوال أهل البيت^: «إن أول ما خلق الله الماء»([8]).

«أما من أين جاءت مادته، وهل كان قائماً على قرار أم لا، فلا نصّ على شيء من ذلك في آية أو رواية، والعقل وحده لا يملك العلم بذلك، ولم يبقَ بعد ذلك إلّا الحدس والتخمين»([9])، ولا مجال إلى استعمالهما فيما لا يعلمه إلّا الله.

أما لون الماء فإنه لا لون له؛ ولذا فإنه يحكي كلّ لون، وأما طعمه فطعم الحياة، وأما كميته فإنه يغطي ثلاثة أرباع وجه الأرض؛ لأن الله سبحانه كلما أحوج المخلوقين إلى شيء أكثر أوجده لهم أكثر. وأما مفعوله، فإنه نظافة وطهارة وحياة، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا([10]).

 يتبع…

الهوامش

([1]) الفرقان: 54.

([2]) النور: 45.

([3]) الأنبياء: 30.

([4]) الرعد: 8.

([5]) القمر: 49.

([6]) الكوير: 6.

([7]) هود: 7.

([8]) في التفسير الأمثل 11: 133: «وفي بعض الأحاديث»، وفي تفسير النسفي 3: 151: «وقالوا: إن أول ما خلق الله الماء».

([9]) التفسير الكاشف 4: 210.

([10]) الفرقان: 48.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة