من الذي خلق الإنسان؟ ـ القسم الثاني

img

وذكروا أن الدولة الهندية أعلنت في بعض الأعوام أنها ستقيم بعاصمتها «نيودلهي» معرضاً صناعياً وطنياً عامّاً للمواطنين وغيرهم، فتحفّز أحد الدعاة إلى الإسلام ممن كان يمتهن الصناعة إلى صناعة صورة شجرة وضمّنها صوراً كثيرة من المخلوقات، لا سيما بعض الأشياء التي يعبدها الناس بالهند وغيرها؛ كالشمس والقمر وبوذا والبقر والفيل الأبيض، وغيرها من الأشياء، فصنعها بشكل عجيب وصورة جميلة، فعرضها في ذلك المعرض منورة بالكهرباء ومزينة بالصور الجميلة، فاستهوت الناظرين واستجلبت أعين المتفرّجين، فكان همهم الأكبر أن يعرفوا من هو صانع هذه الشجرة، في الوقت الذي كان صانعها قد استتر عن المتفرّجين، وأوقف عندها من يقول لهم: إن الذي صنعها هذا، ويشير إلى الفيل الأبيض، وآخر يقول لهم: إن الذي صنعها هذا، ويشير إلى صورة البقرة، وآخر يقول لهم: إن الذي صنعها هذا، ويشير إلى صورة بوذا، وقال آخر: ربما تكون الشجرة صنعت نفسها أو صنعتها الطبيعة بنوع من الصدفة.
فجعلوا يقولون لهم ذلك، ولكن الناس لا يصدقونهم.، ثم لما رأوا الجدّ من الناس في أنه لابدّ أن يكون للشجرة صانع غير هؤلاء، وأن هؤلاء لا يقدرون على صنع ما هو أقل منها، ذهبوا إليه فأخبروه بذلك، فأقبل إليهم، فازدحموا عليه وشكوا إليه ما قاله لهم اُولئك النفر؛ لأنه مما يشبه السخرية، فقال لهم: إن هؤلاء تلامذتي، وقد قالوا لكم ما قالوه بأمري؛ من أجل أن ينبّهوكم لخطئكم في عقائدكم، فإن فيكم من يعبد الفيل الأبيض، وفيكم من يعبد البقرة، وفيكم من يعبد الشمس، وفيكم من يعبد بوذا، وفيكم وفيكم، وتعتقدون أن الصدفة العمياء هي التي أوجدت هذا الكون وما فيه.
وإذا كانت هذه عقائدكم، فلماذا لا تصدقونهم فيما قالوه؟ وكيف تحسبون أن قولهم نوعاً من السخرية بكم؟ أليس هذا نوعاً من التناقض؟ ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾.
وحكي أن ملكاً من الملوك كان يؤمن بخرافة الطبيعة والصدفة، وكان له وزير مؤمن عاقل يحبّ أن يعدل به عن هذا الرأي؛ ولكنه لا يجرؤ على ذلك؛ خوفاً منه على نفسه. فما زال يفكّر في أمر يقنعه به، فأدّت إليه فكرته أن يأمر ببناء وحدة سكنية تشتمل على عدّة قصور في جهة معينة من الأرض نائية عن بلد الملك وعلى غير علم منه.
فلمّا انتهت أجرى فيها الأنهار، وغرس فيها الأشجار، وزيّنها بكل زينة، ثم زيّن للملك أن يخرج إلى الصيد والتنزّه، فلما خرج مرّ به على تلك المنطقة التي فيها تلك القصور، فلما رآها الملك أعجبه حسنها، وراقه جمالها، فسأل الوزير قائلاً: لمن هذه القصور؟ ومن الذي بناها في هذا المكان؟ فقال له الوزير: لعلها بنت نفسها أو بنتها الطبيعة بنوع من الصدفة!
فقال له الملك: إن كنت مجداً في قولك، فإني قد أضعت عمري مع من لا يستحقّ ذلك. فقال: ولم أيها الملك؟ قال: لأن هذا أمر لا يكون، فإن الشيء لا يوجد نفسه؛ لأنه كان قبل ذلك معدوماً، والمعدوم لا يوجد موجوداً. وأما الصدفة فإنها أعجز من أن توجد شيئاً مثل هذا.
فقال الوزير: وكيف تكون الصدفة أعجز من أن توجد شيئاً مثل هذا، وهي على رأي الملك قد أوجدت هذا الكون وما فيه من أرضه وسمائه، وشموسه وأقماره، ونخيله وأشجاره، وذرّاته ومجرّاته، وحركاته وسكناته، وبشره وحشراته؟
فعند ذلك تنبّه الملك إلى ما أراده الوزير، وشكره على ذلك، وعدل عن القول بالصدفة.
ونحن لا نشك أنه قد يحصل بالصدفة أن يجتمع المتفرّقان أو يتفرّق المجتمعان مثلاً، فقد قيل: «رب صدفة خير من ميعاد». ولكنا نعلم ويعلم الناس كلهم أنه لا يمكن أن يحصل بالصدفة كلّ هذا الكون وما فيه من مخلوقات ومعادلات وحركات وسكنات ومفارِقات ومتشابهات، وإنما أوجده القدير الحكيم. قال أمير المؤمنين× في خطبته عن النملة: «فالويل لمن جحد المقدّر وأنكر المدبّر، زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع، ولا لاختلاف صورهم صانع، ولم يلجؤوا إلى حجة فيما ادّعوا ولا تحقيق لما أوعوا. وهل يكون بناء من غير بانٍ أو جناية من غير جانٍ»([60]).
أما من قال: إذا كان الله هو الذي خلقنا، فمن خلق الله؟ فقد ردّ على نفسه بنفسه؛ فقد ورد أن رجلاً عصرياً سأل بعض طلبة العلوم الدينية فقال له متهكّماً: إذا كان الله هو الذي خلقنا، فمن خلق الله؟ فأجابه العالم بجواب يتناسب مع عقله، فقال: خلقه إله قبله. قال: فمن خلق ذلك الإله؟ قال خلقه إله قبله أيضاً. فسأله ثالثة ورابعة وخامسة وهو يجيبه بمثل ذلك. فقال ذلك العصري: إن هذا أمر لا ينتهي، فلابد أن يكون هناك إله كان ولا شيء قبله، وإلّا فلن ننتهي إلى نتيجة.
فقال له العالم: صدقت، إن هذا الذي ذكرته هو الله جلّ وعلا الذي نعبده ونؤمن باُلوهيّته.
وإنما قال: وهذا أمر لا ينتهي؛ لأن التسلسل لا ينتهي؛ ولذلك فهو جائز في جانب المستقبل والأبد كالأعداد فإنها تقبل الزيادة، ولا يمنع العقل من عدم تناهيها. أما التسلسل في جانب الماضي والأزل بحيث لا يكون لها أول فمحال؛ لأن الأفراد المتسلسلة إذا لم تنتهِ إلى موجود أزلي بالذات يلزم ألّا يوجد شيء أبداً. ولذلك فالتسلسل باطل كبطلان الدور.
والدور هو أن شيئين أو أكثر يكون وجود كلّ واحد منهما سبباً لوجود الآخر، وذلك كما قال الشاعر:

مسألة الدور جرت *** بيني وبين من اُحبْ

لو لا مشيبي ما جفا *** لولا جفاه لم أشبْ([61])

فإنه يقول: إن حبيبه جفاه لمشيبه، وأن مشيبه حصل لجفاء حبيبه، وحينئذ يكون كلّ واحد من الشيب والجفاء متقدّماً على صاحبه تقدم السبب على المسبب، ومتأخراً عنه تأخّر المسبب عن السبب، وهذا شيء لا يكون.
وأما قول من قال ـ وهو ابن أبي العوجاء المتقدّم ذكره، والذي قتله المنصور الدوانيقي سنة (155) هجرية ـ : فما منعه إن كان الأمر كما يقولون ـ يعني فما منع الله سبحانه إن كان موجوداً كما يقولون ـ أن يظهر لخلقه وأن يدعوهم لعبادته؛ حتى لا يختلف فيه اثنان؟ ولم احتجب عنهم وأرسل لهم الرسل، ولو باشرهم بنفسه لكانوا أقرب إلى الإيمان به؟
فقد قال له الإمام الصادق×: «ويلك، كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك: نشوئك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك وفرحك بعد حزنك، وحبّك بعد بغضك وبغضك بعد حبّك، وعزمك بعد إنابتك وإنابتك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك ورهبتك بعد رغبتك، ورجائك بعد يأسك ويأسك بعد رجائك، وخاطرك لمن لم يكن في وهمك، وغرور ما أنت معتقده عن ذهنك؟».
قال: وما زال يعدّ قدرة الله التي هي في نفسي حتى ظننت أنه سبحانه سيظهر فيما بيني وبينه. فما هذا ببشر، إن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهراً ويتروّح إذا شاء باطناً، فهو هذا([62]). نعم إنهم الدعاة إلى الله، والأدلّاء على طاعة الله، فمن أراد الله بدأ بهم ومن وحَّده أخذ عنهم.
وهذا جدّه الإمام الحسين× يقول في دعائه يوم عرفة: «متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً. وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيباً»([63]).

الهوامش

([60]) نهج البلاغة / الخطبة: 185.
([61]) تاج العروس 2: 132 ـ شيب.
([62]) الكافي 1: 75/ 2، التوحيد: 127/ 4.
([63]) بحار الأنوار 64: 142.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة