من الذي خلق الإنسان؟ ـ القسم الأول

img

 
قال تعالى:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾([51]).

نبّه الله سبحانه الإنسان في الآية السابقة لهذه الآية إلى أنه مرّ عليه حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، وهذا الشيء لا يستطيع الإنسان أن ينكره بحال من الأحوال، ثم أخبره في هذه الآية أنه هو الذي خلقه من نطفة أمشاج. وهذا هو الشيء الذي يوجد في بني الإنسان من ينكره، ولكنه إذا أنكره فعليه أن يعيّن من هو الذي خلقه: هل خلق نفسه؟ لا شك أن الشيء لا يوجد نفسه، وأن المعدوم لا يوجد موجوداً، فلابد أن يكون الذي خلقه غيره، فمن هو هذا الغير؟ أهما الوالدان؟ كلا إن الوالدين إنما هما سبب في وجوده لا إنهما الموجِدان له، وكيف يكونان الموجدين له وهما يعلمان من أنفسهما أنهما لم يوجدا لأنفسهما المادة المنوية التي يتكون منها الجنين، قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾([52]).
وكيف يكونان موجدين له وهما لم يحيطا علماً بكيفيته إلّا بعد أن يخرج من أحشاء اُمه، ولو افترضنا أن العلم قد استطاع أن يشخص لهما ذكورته من اُنوثته وهو في أحشاء اُمه فإنهما سيبقيان جاهلين بسواده أو ببياضه، وكماله أو نقصانه، وذكائه أو بلادته، وعقله أو جهله، وغير ذلك من الخصائص والمواصفات.
وهذا دليل على أنهما لا علاقة لهما بتكوينه؛ لأن من خلق الشيء لابد أن يكون عالماً به: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾. روي أن ابن أبي العوجاء تغوّط في قارورة وتركها حتى تعفنت وتكون منها الدود، فجاء به إلى الإمام الصادق× فقال له: هذا خلقي أنا أوجدته. فقال×: «إذا كان هو خقلك وأنت الذي أوجدته فكم عدده؟ وكم فيه من ذكر واُنثى؟ وكم فيه من جوارح وعضلات؟ وكم فيه من أطراف وأدوات؟». وكم؟ وكم؟ وكم؟ فبهت الذي كفر([53]).
وبعد هذا كله فمن هو الذي خلق الإنسان العجيب الذي سابح الحيتان، وطاير النسور، وفجّر أعماق الأرض، وغزى آفاق الفضاء، وحقّق المستحيل؟ ربما يحصل من يجهل، فيقول: خلقته الطبيعة! وحينئذ فعلينا أن نسأله: ما هي الطبيعة؟ إن كثيراً ممن يقول هذا القول لا يستطيع الجواب على هذا السؤال؛ لأنه لا يعرف من الطبيعة إلّا اسمها، وأقل من القليل من يستطيع أن يقول: «الطبيعة قوة كامنة وراء الكون ليس لها حدود ولا أطراف».
وحينئذ فعلينا أن نسأله سؤالاً آخر، وهو: هل إن هذه الطبيعة التي ذكرتها توجد الأشياء بقصد وحكمة وإرادة وتدبير، أم إنها توجد الأشياء بالصدفة؟
فإن قال: إنها توجد الأشياء بقصد وحكمة وإرادة وتدبير، فقد اعترف بالله جلّ وعلا إلّا إنه سماه الطبيعة؛ لأن المؤمنين بالله لا يقولون عنه سبحانه أكثر من أنه قوة كامنة وراء الكون توجد الأشياء بقصد وحكمة وإرادة وتدبير، وأنه جلّ وعلا كما وصف نفسه: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾([54])، وأنه لا يعلم أحد كيف هو إلّا هو. وأنه تعالى كما قال مولانا أمير المؤمنين×: «كلّ ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك»([55]).
وكما قال الإمام الباقر×: «كلّ ما تصوّره وهمك فهو مخلوق مثلك، ومردود عليك»([56]).
قال الشاعر:

كلّ ما يرتقى إليه بوهم ** من جلال وعزّة وسناءِ
فالذي أبدع البرية أعلى **  منه سبحان منشئ الأشياءِ([57])

وإن قال: إن تلك القوة توجد الأشياء بدون قصد ولا حكمة ولا إرادة ولا تدبير، فقد ادعى المستحيل؛ لأن الصدفة لا تستطيع أن ترسم صورته على ورقة، فكيف تستطيع أن تخلقه بأجهزته وجوارحه وعضلاته وأطرافه ومداركه وأفكاره؟.
قال الإمام الصادق× لتلميذه المفضل بن عمر: «يا مفضل لو رأيت تمثال الإنسان مصوراً على حائط، وقال لك قائل: إن هذا التمثال ظهر هاهنا من تلقاء نفسه، لم يصنعه صانع ما كنت تقبل منه بل كنت تستهزء به، فكيف تنكر هذا في تمثالٍ مصوّرٍ جمادٍ، ولا تنكره في الإنسان الحي الناطق»([58]).
ولو أن الجهات الرسمية كلفته بأن يأتي لجوازه أو جنسيته بصورة رسمتها له الصدفة فقد كلفوه مستحيلاً؛ لأن الصدفة لا تستطيع أن ترسم له صورة، فكيف يدعي أنها أوجدته؟ إنها أعجز من أن توجده أو توجد ما هو أدنى منه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾([59]).
إن الإنسان مهما جهل فإنه لا يجهل أنه في تكوينه وتصميمه لم يكن أقل شأناً من ساعاته الحاسبة وآلته الكاتبة، فهل يستطيع أن يؤمن أن شيئاً من ذلك خلقته الصدفة؟ كلّا ثم كلّا، إنها مكابرة حمقاء، وما أحسن ما قاله بعض الشعراء:

إن النكات السود في ساعتي *** والعقرب الدائر حول النكاتْ
أحصت حياتي ساعة ساعة *** بالضبط فالساعة رمز الحياةْ
دقات قلب المرة دقّاتها  *** والسكتة السكتة عند المماتْ
دوراتها في نبضها مثلها الـ *** ـدورة في عروقنا النابضاتْ
آلات جسمي مثل آلاتها *** أقاصدات هنّ أم غافلاتْ
مدبّر الأوقات في جريها *** دلَّ على مدبر الكائناتْ

الهوامش

([51]) الدهر: 2.
([52]) الواقعة: 58 ـ 59.
([53]) قريب منه ما في التوحيد: 295 ـ 296/ 5.
([54]) الشورى: 11.
([55]) نسبه جماعة لبعض العلماء، وذكروا أنه مأخوذ من قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ الشورى: 11. انظر: دفع شبه التشبيه: 135، التنديد بمن عدّد التوحيد: 65.
([56]) في كتابي سير أعلام النبلاء 11: 535، تاريخ الإسلام 18: 268: سمعت ذا النون يقول: مهما تصوّر في وهمك، فالله بخلاف ذلك.
([57]) المستطرف في كلّ فن مستظرف 1: 15.
([58]) التوحيد (المفضل بن عمر الجعفي): 47.
([59]) الحج: 73.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة