حول الإنسان (3)

img

وأما من حيث إن هناك أحاديث عن بعض المعصومين^ تنفي ذلك القول، كحديث الإمام الصادق×، فإن هناك أحاديث تثبته كحديث الإمام زين العابدين×، وحينئذ فلا إشكال.

ومن أجل أن تتم الفائدة فإنا سنورد لك الحديثين، فنقول: روى صاحب تفسير (الميزان) في البحث الروائي عن الآية الاُولى من سورة النساء، عن أبي المقدام عن أبيه قال: سألت أبا جعفر×: من أي شيء خلق الله حواء÷؟ فقال: «أي شيء يقولون هذا الخلق؟». قلت: يقولون: إن الله خلقها من ضلع من أضلاع آدم× فقال: «كذبوا».

ثم أخبر× أن أباه أخبره عن آبائه: أن الله خلقها من فضلة طينة آدم×.

قال صاحب الميزان&: «أقول: وروى الصدوق عن عمر ومثله».

ثم قال: «وهناك روايات تدلّ على أن الله سبحانه خلق حواء من خلف آدم، وهو أقصر أضلاعه من الجانب الأيسر». ثم قال: «ومنها ما في (الاحتجاج) عن زين العابدين× في حديث له مع رجل من قريش يصف فيه تزويج بلوزا اُخت قابيل وتزويج قابيل بأقليما اُخت هابيل، قال: فقال له القرشي: فأولداهما؟ قال: «نعم». فقال له القرشي هذا فعل المجوس اليوم. قال: فقال: «إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من الله». ثم قال: «لا تنكر هذا إنما هي شرائع الله جرت، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلّها له؟»…»([1]).

وعلى هذا القول: فقد مرت حواء÷بدور خامس، وهو دور الضلع.

وأما أبناء آدم فقد انتقلوا إلى دور النطفة، ثم إلى دور العلقة، ثم إلى دور المضغة، ثم إلى دور العظام، ثم كسيت العظام لحماً، ثم أنشأهم تعالى خلقاً آخر، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾.

وقد أخبر رسول الله| عن ذلك بقوله: «خلقتم من سبع ورزقتم من سبع»([2]).

فأما السبع التي خلقنا منها فهي ما ذكرتها الآيات الكريمة حيث تقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ﴾، وهو أصلاب الآباء وأرحام الاُمّهات، ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾([3]).

وأما السبع التي رزقنا منها فهي ما ذكرتها الآيات الكريمة حيث تقول: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾([4])… ([5]).

وإذا كان الإنسان من نطفة كما قالت الآيات السابقة، والنطفة من الدم، والدم من المطاعم والمشارب، والمطاعم والمشارب من الماء والتراب ـ كما قالت الآيات اللاحقة ـ فكلنا من الماء والتراب، وهو الطين؛ فلا فرق بيننا وبين أبينا آدم× إلّا أنه خلق من الطين بدون واسطة، وخلقنا نحن من الطين بواسطة الأبوين. وقد أثبت العلم أن نسبة الماء تشكّل في جسم الإنسان من (65 ـ 70%)، وأن التراب يشكّل من (30 ـ 35%).

وعندما ينتقل الإنسان من أصلاب الآباء إلى أرحام الاُمّهات فإنه يكون في مرحلة الوجود النباتي بحيث ينمو كما ينمو النبات، فينتقل من نطفة إلى علقة، ومن علقة إلى مضغة، ومن مضغة إلى عظام، ثم تكسى العظام لحماً. كلّ ذلك وهو في مرحلة الوجود النباتي ليس لديه إحساس ولا إدراك، وهو الدور الخامس.

وعندما تلجه الروح فإنه ينتقل حينئذ إلى مرحلة الوجود الحيواني؛ حيث يحصل له شيء من الإحساس ولكن بدون إدراك.

ومعنى ذلك أن الإنسان في تلك المرحلة يحس بالألم والراحة، ولكنه لا يدرك ما ذلك الشيء الذي يحسه، يعني أنه لا يستطيع أن يشخّص ذلك الشيء، ويبقى في هذه المرحلة إلى ما بعد الولادة بزمن غير قليل. ويستدلّون على ذلك بأنه إذا كبر لا يستطيع أن يصف ما مرّ عليه في أحشاء اُمّه، ولا ما مرّ عليه في حال ولادتها به، ولا يدري أين ولد ولا متى ولد ولا كيف ولد، وإذا علم عن شيء من ذلك بعد ذلك فإنما علمه من غيره، ومع أنه أحسّ بألم الولادة وشدتها إلّا إنه لا يعلم ما هو ذلك الشيء الذي يحسه.

وقد استدلّوا على إحساسه بألم الولادة وشدتها بأنه عندما خرج من اُمّه خرج باكياً صارخاً، وربما خرج مغمى عليه لشدة ما ألم به. وما أحسن ما قاله بعض الشعراء:

ولدتك اُمّك يابن آدم باكياً
فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا
والناس حولك يضحكون سروراً
في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

وقد أخبر القرآن بأن يوم ولادة الإنسان من أعظم أيّامه عليه، فقال تعالى عن نبيّه يحيى بن زكريا×: ﴿وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا﴾([6]).

قال المفسّرون: وإنما سلم جلّ وعلا على يحيى في هذه الأيام الثلاثة، وألهم نبيه عيسى× أن يسلم على نفسه فيها فيقول: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾([7])؛ لأنها أعظم وأشد الأيام التي تمر على الإنسان، واللاحق منها أعظم من السابق. فنسأل الله أن يعيننا على ما بقي منها كما أعاننا على ما مضى، وهو يوم الولادة الذي لا تقل فيه شدة المولود عن شدة اُمّه إلّا إن تلك الشدة تهون على الاُم لفرحها بالمولود، فجزى الله الاُمّهات خيراً.

ثم ينتقل الإنسان بعد ولادته بأعوام إلى مرحلة الوجود الإنساني، وهي مرحلة الإدراك والإحساس، ولا يزال كذلك إلى أن يشاء الله. وقد أشار القرآن الكريم إلى كلّ ذلك الانتقال والتطوّر في المراحل الاُولى فقال: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ أي انتقال بعد انتقال، وتطور بعد تطور ﴿فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ﴾([8]).

قال المفسرون الأوائل: إن الظلمات الثلاث هي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة([9]).

وقال الأواخر: إن التقارير الطبية والاكتشافات العلمية قد أوضحت أن الجنين في بطن اُمّه محاط بثلاثة أغشية صمّاء لا ينفذ منها الماء ولا الضوء ولا الحرارة، وتسمى هذه الأغشية: المنباري([10]) والأمينوني([11]) والحزبوري.

والغشاء الذي لا ينفذ منه الماء ولا الضوء ولا الحرارة يسمى في اللغة: ظلمة.

وقد أشار القرآن إلى تطور الإنسان في المراحل الاُولى والأخيرة، فقال تعالى: ﴿مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾([12]). نعم هكذا الإنسان: لا يرجو لربّه وقاراً، ولا يقيم لتكوينه ولا لتطوّراته اعتباراً:

نسي الطين ساعة أنه طيـ
لبس الخزّ جسمُه فتباهى
ـن مهين فصال تيها وعربدْ
وحوى المالَ كيسُه فتمرّدْ

فكيف به إذا لبس الحرير والذهب، وأكل الحرام، وعاقر المدام، وملك الرقاب، وخامره طيش الشباب؟ ماذا يمنعه بعد ذلك أن يسفك الدماء، ويُبكي الأرض والسماء؟

وعلى الاُفق من دماء الشهيديـ
فهما في أواخر الليل فجرا
ـنِ علي ونجله شاهدانِ
نِ وفي اُولياته شفقانِ([13])

يتبع…

______________________________________

([1]) الميزان 4: 146 ـ 147.

([2]) مستدرك وسائل الشيعة 4: 455/ 5146، الجامع لأحكام القرآن 19: 223.

([3]) المؤمنون: 12 ـ 14.

([4]) عبس: 24 ـ 32.

([5]) الجامع لأحكام القرآن 19: 223.

([6]) مريم: 15.

([7]) مريم: 33.

([8]) الزمر: 6.

([9]) التبيان 9: 9، الجامع لأحكام القرآن 15: 236.

([10]) وهو كيس المح، ويدعى «الردب المنباري» Allantois انظر كتاب خلق الإنسان بين الطبّ والقرآن (د. محمد علي البار): 222.

([11]) وهو كيس السلى. المصدر نفسه.

([12]) نوح: 13 ـ 14.

([13]) البيتان لأبي العلاء المعرّي. مناقب آل أبي طالب 3: 213، درر السمط: 93.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة