البشارة لطلّاب الاستخارة (3)

img

ضرب ابن طاووس ‏رحمه الله – في كتابه (فتح الأبواب بين ذوي الألباب وبين ربّ ‏الأرباب) – أمثالاً يعرف بها فضل مشاورته تعالى:

منها: أنّه لو بنى لك البنّاء داراً وفرغ منها فرأيت فيها خللاً، أما كنت تسأله عن ذلك، وأنت تعلم أنّه بنى لك دار الدنيا العظيمة العالم بأسرارها السقيمة والمستقيمة، فكما تستعلم من البنّاء مصالح دارك اليسيرة فاستعلم منه دارك الكثيرة.

ومنها: أما تعلم أنّك لو اشتريت عبداً له عند مولاه الأوّل عشر سنين مثلاً، ثمّ مرض ‏العبد عندك تلك الليلة، ما كنت تستعلم من سيّده الأوّل عن سبب مرضه وتقول: هو أعلم منّي به لإقامة العبد عنده أكثر منّي؛ واللَّه قد خلقك قبل النطفة تراباً [ثمّ ] أودعك أصلاباً حتى نشأت، فمالك لا تستعلمهُ؟! وهلّا جعلته كسيّد العبد المذكور، وتستعلم منه مصالح الأمور؟!

ومنها: لو أردت سفراً في أحد الفصول الأربعة، فهل يعلم في تلك الحال ما غلب ‏على باطن مزاجك – من حرارة أو برودة أو رطوبة أو يبوسة – غيره. فإذا قلت ‏لأحدٍ من العباد: أريد السفر في الشتاء فهل ترى في ذلك صلاحاً، فإنّه لا يعلم هل‏الحرارة قد ابتدأت عليك وغلبت، فتوافقك البرودة أو بالعكس، فعلام لا تستعلم ‏هذا من اللَّه سبحانه وهو أشفق من كلّ شفيق(20).

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ الاستخارة من أشرف الأبواب إلى معرفة صواب ‏الأسباب، حتى إنّ المعصوم عدل عن نفسه لمّا استشير إلى الأمر بالاستخارة؛ ألا ترى إلى الرضا عليه السلام كيف أمر علي بن أسباط بالاستخارة لمّا سأله عن الخروج براً أو بحراً(21)؟! وكذلك الجواد عليه السلام لمّا سأله علي بن أسباط- هذا- في أمر ضيعتين له ‏تعرّض له فيهما السلطان، أيبيعهما أو يتركهما؟ فكتب إليه‏ عليه السلام يأمر بمشاورة الباري عزّ وجلّ(22).

وانظر إلى جواب الرضا والجواد عليهما السلام كيف عدلا عن مشورتهما- مع ما هما عليه‏ من التأييد والمزيد- إلى الاستخارة، وهما أبواب مالك الحساب، ومن ذا يقدم‏ على مخالفة قولهما، وهو حجّة على كلّ من عرفه؟!

وعن الصادق ‏عليه السلام: «ما اُبالي إذا استخرت [اللَّه] على أيّ طرفي(23) وقعت، وكان أبي ‏يعلّمني الاستخارة كما يعلّمني السورة من القرآن« (24).

وعنه ‏عليه السلام: «صلّ ركعتين واستخر اللَّه، فو اللَّه ما استخار اللَّه مسلم إلا خار اللَّه له‏ ألبتّة«(25)، فكيف تعدل نفسك عن ضمان الصادق ‏عليه السلام بالقسم الذي أشار إليه(26)؟!انتهى كلامه.

من (المكارم) عن جابر بن عبداللَّه: كان رسول اللَّه‏ صلى الله عليه وآله يعلّمنا الاستخارة كما يعلّمنا السورة من القرآن يقول: «إذا همّ أحدكم بأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثمّ ليقل: اللهم إنّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من‏فضلك العظيم، فإنّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علاّم الغيوب، اللهمّ إن‏كنت تعلم [أنّ] هذا الأمر- تسمّيه- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فأقدره ‏لي ويسّره وبارك لي فيه، وإن كنت تعلم أنّه شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عنّي واصرفني عنه، وأقدر لي الخير حيث ما كان ثمّ(27) رضّني‏به« (28).

وروى أنّ رجلاً جاء إلى أبي عبداللَّه‏ عليه السلام فقال له: جُعلت فداك إنّي ربّما ركبت‏ الحاجة فأندم عليها، فقال له: «أين أنت عن الاستخارة؟» فقال الرجل: جُعلت‏ فداك فكيف الاستخارة؟ فقال: «إذا صلّيت صلاة الفجر فقل بعد أن ترفع يديك ‏حذاء وجهك: اللهمّ إنّك تعلم ولا أعلم، وأنت علّام الغيوب، فصلّ على محمّد وآل محمّد، وخر لي في جميع ما عزمت به من اُموري خيار بركة وعافية« (29).

فإذا فكّر العاقل اللبيب والموفّق المصيب في قول الأئمة الأعلام والهداة الكرام، وجد دلالتهم على الاستخارة واضحة وهدايتهم للعمل بها لائحة، فهي الطريق إلى ‏الصواب والرافعة لغواشي الحجاب، والموصلة لمسبّب الأسباب. وفّقنا اللَّه وإيّاكم ‏للهداية، وعصمنا وإيّاكم من الشكّ والغواية.

الإشارة الثالثة: الرضا بما يأتي به الأمر الربّاني ويخرجه الحكم الرحماني ‏ويختاره الحقّ السبحاني من حلو الخيرة ومرّها ومحبوبها ومكروهها ليعدّ من أهل السعادات، ويفوز بالمطالب الهنيّات والمواهب السنيّات، وتدركه العناية الأبدية والرحمة السرمدية.

وإيّاك أن يخطر ببالك خطرات الشيطان، فتكون من الهالكين، ولو ظهرت لك – -بحسب عقلك الكاسد وظنّك الفاسد – أسباب المصالح، فإنّها ولعمري مع ‏المخالفة من آثم القبائح، وسأضرب لك مثلاً لعلّك به تتّعظ: لو أنّ ملكاً دعاك‏ لمؤازرته ومؤانسته، ورغبت نفسك في إجابته وتحقيق طلبته، وظهر لك بالوهم‏ النفساني الفوز بالأماني، ووافقتك في ظنونك العامة، وكان للملك وزير من‏خاصّته ونديم من أهل مودّته وأنت ترى أنّه لك ناصحّ شفيق وبك برّ رفيق، فأخبرك في باطن الأمر بالسرّ المصون أنّ الملك يريد بك سوءاً وإنّما طلبه لك مكر وحيلة. ألست كنت تسمع كلامه وتعتقد صحّة نظامه، وتترك ما كنت تحبّه وتهواه، وسوّلت لك نفسك طلبه وهواه، وتطلب الحيلة في إبعاد نفسك وتغييب شخصك‏ من محبوبك الذي كنت متعلّقاً بمحبّته، خوفاً من الوقوع في البلاء بعد نصح الناصح ‏والخير الواضح؟

فإذا كنت تركن إلى نصح المخلوق مثلك، فكيف تستغش الخالق وتكره اختياره ‏ونصحه؟! فإذا ظهرت الاستخارة بما تكره نفسك ويحبّه هواك وطبعك أظهرت ‏الغضب والأسف والندم والكآبة، فهل تجد أحداً أعلم بأحوالك وصلاحك من‏ربِّك؟! بل هل تجد أحداً أرفق بك وأشفق بك من ربِّك؟! بل هو أبرُّ بنا من الآباء والأمهات، وذلك أمر بديهي عند أهل السعادة، ولم تعلق يدك بأذيال تلك الوفادة، وغلب عليك الطبع الشيطاني والهوى النفساني، فألزم الصبر وتكلّفه وإن لم يرض ‏قلبك الوبيّ وطبعك الدنيّ، فإن لم تفعل ولزمت طريق الخلاف، فأنت من أهل‏الخلاف فاستعد للندامة جلباباً وللكآبة أثواباً، عصمنا اللَّه وإيّاكم من الهوى، ووفقنا وإيّاكم لما يحبّ ويرضى.

فقد روى الشيخ في (التهذيب) بإسناده إلى محمّد بن علي بن محبوب، عن محمّد ابن الحسين، عن محمّد بن عبد اللَّه بن زرارة، عن عيسى بن عبداللَّه، عن أبيه، عن‏جدّه، عن علي‏عليه السلام قال: «قال اللَّه عزّ وجلّ: إن عبدي يستخيرني فأخير له ‏فيغضب« (30).

وروى البرقي في (محاسنه) عن أبي عبد اللَّه ‏عليه السلام قال: «قال اللَّه عزّ وجلّ: من شقاء عبدي أن يعمل الأعمال فلا يستخيرني«(31)، فقد ثبت الشقاء لمن عمل الأعمال بغير استخارة، فكيف حال من يستخير ويهتم ويخالف ما أمر وينخرم؟!

وروى البرقي في (محاسنه) أيضاً عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، عن عبداللَّه بن مسكان، عن محمّد بن مضارب قال: قال أبو عبد اللَّه‏ عليه السلام: «من دخل في أمر بغير استخارة ثمّ ابتلي لم يؤجر« (32).

فالداخل في أموره بغير مشاورة محبوبه مغرّر بنفسه للشقاء والتعب والعناء وعدم‏ الأجر عند البلاء، والداخل في أموره بالاستخارة بعد الرضا متعرّض للنفحات ‏اللاهوتية منسلخ من الأهواء الناسوتية، داخل في صفاء الحبّ، واصل حجاب ‏القرب، بعيد من الشكّ والارتياب، خالص من غواشي التهمة والحجاب.

وروى البرقي أيضاً في (محاسنه) عن اليقطينيّ وعثمان بن عيسى، عمّن ذكره، عن ‏بعض أصحابنا قال: قلت لأبي عبد اللَّه ‏عليه السلام: من أكرم الخلق على اللَّه؟ قال:«أكثرهم ذكراً للَّه وأعملهم بطاعته». قلت: فمن أبغض الخلق إلى اللَّه؟ قال: «من ‏يتّهم اللَّه» قلت: وأحد يتّهم اللَّه؟! قال: «نعم، مَن استخار اللَّه فجاءته الخيرة بما يكره فسخط، فذلك الّذي يتّهم اللَّه« (33).

يتبع…

_______________________________________

(20) فتح الأبواب: 226 – 224، بتفاوت.

(21) الكافي 5/471 :3، وسائل الشيعة 64 :8، أبواب صلاة الاستخارة: ب1، ح5.

(22) فتح الأبواب : 143، وسائل الشيعة 77 :8، أبواب صلاة الاستخارة: ب5،ح8.

(23) في المصدر: «جنبي» بدل: «طرفي».

(24) فتح الأبواب : 148وسائل الشيعة 81 :8 ،أبواب صلاة الاستخارة، ب1، ح9 .

(25) الكافي 1/470 :3، وسائل الشيعة 63 :8، أبواب صلاة الاستخارة، ب1، ح1.

(26) فتح الأبواب: 160.

27) من المصدر، وفي المخطوط «و».

28) مكارم الأخلاق: 323 .

29) مكارم الأخلاق: 320 .

30) تهذيب الأحكام 958/309 :3، وسائل الشيعة 80:8، أبواب صلاة الاستخارة،ب7،ح6.

31) المحاسن 3/598 :2، وسائل الشيعة 79 :8، أبواب صلاة الاستخارة ب2 _7.

32) المحاسن 4/598 :2، وسائل الشيعة 79 :8، أبواب صلاة الاستخارة، ب7، ح1.

33) المحاسن 5/598 :2، وسائل الشيعة 79 :8، أبواب صلاة الاستخارة،ب7، ح3.

الكاتب الشيخ أحمد بن صالح بن حاجي الدرازي ‏البحراني

الشيخ أحمد بن صالح بن حاجي الدرازي ‏البحراني

مواضيع متعلقة