شرح دعاء الصباح 7- القسم الأول

img

(7) ﴿يا مَن دَلَّ عَلى ذاتِهِ بِذاتِهِ﴾

هذه كلمة عليّة صدرتْ من معدن الولاية، ومنبع المكاشفة. نعم، أمثال هذه الكلمات من مثل «كلمة الله العليا»([1]) و«الآية الكبرى»، عليّ العالي الأعلى، ليست بعزيزة. وبيانها مع ضيق المقام بوجوده:

[طريقة الإلهيين في إثبات الواجب تعالى]

أوَّلها: أنّ الطرق إلى الله تعالى وإن كانت كثيرة، بل بعدد أنفاس الخلائق؛ لأنّه تعالى ذو فضائل جمّة، وذو جهات نورانيّة لا تُعدُّ ولا تُحصى، لكن أشرف الطُّرق وأوثقها وأخصرها طريقة الحكماء([2]) الإلهييّن، بل المتألّهين الّذين يستشهدون به لا بغيره عليه. وهي طريقة الوجود والموجود من حيث هو موجود، وأمّا الطرق الأُخرى الّتي يستشهد فيها بغيره، فليست كذلك؛ فالطريقة الحقّة الإلهيّة بل التألهيّة أن يقال: الموجود إن كان واجباً فهو المطلوب، وإلّا استلزمه.

وتفصيلُهُ: إنّ الموجود من حيث هو موجود هو الوجود، لكن لا المفهوم العام البديهيّ الّذي هو حيثيّة طرد العدم والإباء، عنه، وجهة ترتّب الأثر، وهو معنون هذا المفهوم ومَحكيّ عنه به. وقد ثبت في الكتب الحكميّة والذّوقيّة التألهيّة أصالته، وأنّه حقيقة([3]) كلّ ذي حقيقة. وكما أنّ لمفهومه عموماً لا يكون شيء إلّا ويصدق هو عليه، كذلك لحقيقته سعةٌ لا يشذّ شيء عن حيطتها ولا ثاني لها. ولذلك لا سبب لها مطلقاً: لا سبب منه، ولا سبب عنه، ولا سبب فيه، ولا سبب به، ولا سبب له؛ لاستلزام وجودها لها الخلف.

وكما أنّ لمفهومه بداهةً، كذلك لحقيقته شدّةَ نوريّة وقوّةَ ظهور لا أظهر منها وهي الظاهر بذاتها، المُظهرة لغيرها؛ فَنَقُولُ: الوجُود الحقيقي إن كان واجباً فهو المطلوب، وإلّا استلزمه، لا لأنّه إذا لم يكن واجباً كان ممكناً فيلزم إمّا الدّور وإمّا التّسلسل أو المطلوب، بل لأنّه يلزم من الرّفع الّذي في النظرة الأُولى وهي حمقاء، الوضع في النظرة الثانية بلا مؤونة زائدة؛ لأنّ حقيقة الوجود لا يتطرّق إليها الإمكانُ بمعنى سلب الضّرورتين ولا بمعنى جواز الطرفين ولا بمعنى تساوي النسبتين بناءً على بطلان الأولويّة؛ لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروريّ، وسلبه عن نفسه محال. ونسبة الشيء إلى نفسه كيف تساوى نسبة نقيضه إليه؟ ولا يتطرّق إليه الافتقار والتعلّق بوجود؛ لأنّ المفروضَ الحقيقةُ بقول مرسل، وكلّ حقيقة جامعةٌ لجميع ما هو من سنخها، عريّةٌ بذاتها عمّا هو من غرائبها، وغرائب الوجود ما هو من سنخ العدم. وبهذه الطريقة كما يثبت وجود واجب الوجود بالذّات يثبت توحيده.

فانظر أنّا لم نستدلّ في هذا المنهج القويم بغيره تعالى عليه؛ فإنّ الوجود الّذي نستدلّ به على الوجوب، ليس غريباً عنه، بل الوجود الحقيقي كاشف عن الوجوب الذّاتي، بل هو هو([4]) لأنّ الشيئية: إمّا شيئيّة وجود، وإمّا شيئيّة ماهيّة، ولا ثالث([5]). وشيئية الماهية حيثية ذاتها حيثية عدمِ الإباء عن الوجود والعدم، ولا تليق هذه بساحة عِزِّ مَنْ لا يحوم حولَه شيءٌ من أنحاء العدم ولو كان عدماً عقليّاً تعمّليّاً، فبقي شيئيّة الوُجود.

وانظر إلى شرافتها؛ لأنّ الوجود منبع كلّ شرافة، ومعدن كلّ إنافة.

وانظر إلى وثاقتها وأخصريتّها حيث لم نتمسّك فيها ببطلان التسلسل، ولا بأخذ حدوث العالم، ولا بغيرهما ممّا يتطرّق إليها المنوع ولو أثبتت المقدّمات الممنوعة ولكن يطول المسافة جدّاً، ولم ندَّعِ الوجود الّذي هو أبدَهُ وأظهر من كلّ شيء، فإنّ عنوانه أوّل الأوائل في الذّهن، يعرفه كلّ غبيّ وصبيّ، ومُعَنونُه أوّل الأوائل في الخارج، وهو الظاهر في كلّ شيء وفيء، ولم نُؤْثِر عليه الأخفياء، ولم نجعلها أوساطاً في البُرهان من الحدُوث والإمكان والحركة ونحوها ممّا جعلت في الطرق الأُخرى مفروغاً عنها، مع خفاء تحقّقها وتعقّلها إلّا بالاكتساب، وبتوسّط الوجود الخارجيّ والذّهني في العاقل والمعقول، في إبراز أحكامها.

ومن كلمات سيّد الشّهداء الحُسين بن عليّ بن أبي طالب’: «أَلغِيَرِكَ([6]) مِن الظُّهُورِ ما لَيسَ لَكَ حَتّى يَكُونَ هُوَ المُظهِرُ لَكَ؟ مَتى غِبْتَ حَتّى تحتاجَ إلى دَليل يَدُلُّ عَلَيكَ؟ أو مَتى بَعُدْتَ حَتّى تكَونَ الآثارُ هِيَ الَّتي تُوصِلُ إلَيكَ؟ عَمِيت عَينٌ لا تَراك ولا تَزالُ عَلَيها رَقيباً، وَخَسِرَتْ صَفقَةُ عَبد لَم تَجعل لَهُ مِن حُبَّكَ نَصيباً»([7]).

______________________________________________

([1]) اقتباس من سورة التوبة: 40.

([2]) الفرق بين الطّريقتين: أنّ المتألهين يعتقدون أصالة الوجود، وأنّ الوجود العامّ البديهي عنوانٌ لحقيقة بسيطة مبسوطة نوريّة، ويقولون: إن كانت واجبة فهو المطلوب؛ فهم ناظرون إلى حقيقة الوجود. والإلهيّون ناظرون إلى مفهوم الوجود، وأنّ له فرداً واجب الوجود، وكونه من قبيل الاستدلال من ذاته على ذاته؛ لأنّ وجه الشيء هو الشيء بوجه. منه.

([3]) إذ من المحقّقات أنّ الماهيّة إذ اعتبر معها الوجود تصير ذاتاً وحقيقةً، فكيف لا يكون الموجود حقيقة، والماهيّة به تصير حقيقةٌ وبدونه ماهيّة؟! منه.

([4]) لأنّ الوجود الحقيقيّ ـ وهو حقيقة الوجود ـ حقيقة مرسلة يمتنع عليها العدم. والحقيقة المرسلة التي يمتنع عليها العدم واجبة الوجود؛ فحقيقة الوجود واجبة الوجود. فالوجود الحقيقيّ دليلٌ، والوجوب الذّاتي مدلول. وهذا لأنّ الأحكام تختلف باختلاف العنوانات كما في الحدود والمحدودات والأوساط والموضوعات في القياسات. وإنما قلنا: «يمتنع عليها العدم»؛ لأنّ القابل يجتمع مع المقبول، والمقابل لا يقبل المقابل؛ فالبياض لا يقبل السّواد ولا العكس، إنّما القرطاس يقبلهما على التّعاقب؛ ولهذا أثبتوا الهيولى؛ إذ الاتصال الحقيقيّ لا يقبل الانفصال ولا العكس؛ والصّورة النوعيّة المائية لا تقبل الهوائية، بل الهيولى؛ فالوجود لا يقبل العدم ولا العكس، بل الماهيّة هي القابلة المجتمعة معهما. منه.

([5]) إذ المقسم هو الشيء الموجود. وأمّا الشيء المطلق فيندرج فيه شيئية العدم، كما يقال: الشيء إمّا واجب الوجود، وإما ممكن الوجود، وإما ممتنع الوجود. وكما يقال: الشيء إما وجود، وإما عدم، وإما ماهية. منه.

([6]) غيره هو الممكنات، وهي شيئيات الماهيّات الإمكانية التي لا تأبى عن الوجود والعدم. وكما أنّ حيثية ذاتها خالية عن الوجود، كذلك خالية عن الظّهور والإظهار بخلاف حقيقة الوجود، فإنّها نور حقيقيّ حيثية ذاتها أنّها الظاهرة بالذّات، المظهرة للغير. وواجب الوجود تعالى حقيقة الوجود البحت ولا ماهيّة له، فلا حيثية خفاء فيه ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. منه.

([7]) الإقبال بالأعمال الحسنة: 660 (ط بيروت)، وفيه: «لغيرك»، وليس فيه: «لا تراك». بحار الأنوار 64: 142 ، 95: 226.

الكاتب الملا هادي السبزواري

الملا هادي السبزواري

مواضيع متعلقة