يعرف الرجال بالحق – الجزء الحادي والعشرون

img

لعل أسئلة حيرى تتدافع كالأمواج العاتية ترمي بظلالها ولا تستقر على حال، أول المائجين تساؤل يدور حول كون النبي محمد (ص )القدوة الحسنة للمسلمين، فما بال المدعين زوراً سدنة الدين يخالفونه قولاً وفعلاً ؟! يرفعون رايته ويخالفون أوامره! يتلبسون عباءة الرسول(ص) ويتبخترون تبختر الشياطين ! يَدَّعون النبي قدوة وخطاهم الشيطانية تفضحهم ، من خالفهم قتلوهم، ومن اعترض على أفعالهم شنقوه! ومن سولت له نفسه التطاول بلسانه عليهم صلبوه !! والرسول(ص) يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وتلك العصابة تنهى عن المعروف وتأمر بالمنكر، الرسول يحافظ على لحمة المؤمنين بلغة العفو والتسامح وهم يفرقون جموع المؤمنين بلغة الجلد والقهر والطغيان والتباغض ؟!يقول الحق سبحانه :” فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ “.( آل عمران -١٥٩)،. وقال الحق :” وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ”.( المائدة -٨١)، ثم إذا كان سدنة الجبت والطاغوت اختطفوا دين الله تعالى لغايات شيطانية، فما حال الباقي أهم أيضاً أُختطفوا؟! أم هم صم بكم عمي ؟!!وأنذرهم الله تعالى إذ قال :” فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ “.( المائة -٥٢)،أم إن لسان حال الرسول(ص) يدعوهم مبارِكاً الصمت والعمى الذي هم عليه ؟! أم لا عزاء لأمة أضاعت قدوتها؟! ورد في الذكر الحكيم قوله تعالى :”سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا “. ( الفتح -١١).

ونواصل المسير مع رسول الله الموعود بنصر مبين وفتح قريب ، فقد حَوطَ النبي مقدمه إلى مكة بعنصر المباغتة، فقد صُمَتْ قريش فلا الأخبار تطايرت   لتحذيرهم! ولا متعاطف علم بنهايتهم فيدركهم !كما حوط الرسول (ص)حملته بالرعب حيث أمر بإشعال النيران على الجبال في محيط مكة بحيث يتراءى للناظر حجمها وعددها، فيتصور جحافل جيش مهول لا قبل لهم به ولا استعداد مسبق لمواجهته يتقدم للإنقضاض عليهم ، ولعله لم يذهب بعيداً لأنها عين الحقيقة ! وهذا ما دعى أبي حنظلة ( أبي سفيان ) إلى تلقف دعوة العباس لإجارته ومن ثم عرضه على رسول الله ( ص ) الذي أمنه ومن غداة الغد قال له :”ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟”، فقال: بأبي أنت وأُمّي ما أوصلك وأكرمك وأرحمك وأحلمك! والله لقد ظننت أن لو كان معه إله لأغنى يوم بدر ويوم أُحد.فقال: “ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله”؟ فقال: بأبي أنت وأُمّي، أمّا هذه فإنّ في النفس منها شيئاً!! قال العباس: ويحك! اشهد بشهادة الحقّ قبل أن يضرب عنقك. فتشهّد.

{.( تفسير مجمع البيان ١٠/٤٧٠):

فقال(صلى الله عليه وآله) للعباس: «انصرف يا عباس فاحبسه عند مضيق الوادي حتّى تمرّ عليه جنود الله».

قال: فحبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي، ومر عليه القبائل قبيلة قبيلة وهو يقول: من هؤلاء؟ وأقول: أسلم، وجهينة، وفلان، حتّى مرّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) في الكتيبة الخضراء من المهاجرين والأنصار في الحديد، لا يُرى منهم إلّا الحدق.

فقال: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ قلت: هذا رسول الله(صلى الله عليه وآله) في المهاجرين والأنصار، فقال: يا أبا الفضل! لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً! فقلت: ويحك إنّها النبوّة، فقال: نعم إذاً!

وجاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء رسولَ الله(صلى الله عليه وآله)، وأسلما وبايعاه فلمّا بايعاه، بعثهما رسول الله(صلى الله عليه وآله) بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام.

قال العباس: قلت: يا رسول الله، إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر فاجعل له شيئاً يكون في قومه، فقال: «من دخل دار أبي سفيان ـ وهي بأعلى مكّة ـ فهو آمن، ومن دخل دار حكيم ـ وهي بأسفل مكّة ـ فهو آمن، ومن أغلق بابه وكف يده، فهو آمن”}.

تطلع أبو سفيان إلى جيش محمد ( ص )مبهوراً بفرسان الوغى الممتدين على مدى بصره فلا يجد لذلك تفسيراً غير الملك!! وذلك له دلالة واضحة على حجم إسلامه الذي لا يتجاوز قيد أنملة كما يدلل على السبب الحقيقي من نطقه الشهادة وهي حقن دمه والبقاء على نفسه !! لا حباً في الله ولا في رسوله وإنما حباً في الحياة الدنيا،ومع ذاك لم نرى رسول الله(ص) معترضاً أو فاضحاً بل على العكس من ذاك ،يُوكلُ إليه قبل دخول مكة مهمة أمن وأمان ورسالة اطمئنان لقريش،أنه من دخل دار أبي سفيان فهو أمن، ومن الملاحظ أن التاريخ أهمل سهواً أو عمداً الإشارة إلى أن أبي سفيان كان بصحبته إثنان من رجال قريش في تلك اللحظات ولقد ثبت أنهما أيضاً دخلا في دين الله قبل دخول رسول الله(ص) مكة ،ولإسلامهما أهمية من حيث أن الشرف لم يكن لأبي سفيان منفرداً في شرف تبليغ قريش فحوى الرسالة تلك !بل الحق أنه قد صدر عن رسول الله (ص) قوله:”من دخل دار أبي سفيان ـ وهي بأعلى مكّة ـ فهو آمن، ومن دخل دار حكيم ( رفيق أبي سفيان في تلك اللحظات ) ـ وهي بأسفل مكّة ـ فهو آمن، ومن أغلق بابه وكف يده، فهو آمن”.ولقول رسول الله(ص) هذا أهمية قصوى إذ هو يعمم الأمان لمكة وقاطنيها من أعلاها إلى أدناها ومن طوقها القريب إلى طوقها البعيد، وأن الرسول(ص) يتعهد لكل من لجأ إلى جدار بيته فله الأمان وعليه لا يقتصر الأمر على دار أبي سفيان البتة! والذي تعمد كتاب التاريخ أتباع السلاطين اختصار الأمان والفخر والتشريف في شخص أبي سفيان !!-ولهذا اقتضى التنويه -،والسؤال هنا لم التركيز على شخص أبي سفيان دون غيره؟ولم التركيز على تشريفه دون الحدث ذاته؟! فالقضية التي لا يحوز لها أن تنسى أن النبي (ص) فتح مكة لا غازياً ولا قاتلاً ولا متجبراً ،وإنما حمل الرحمة والأمن والأمان لكل ملتزم داره ،حمل الأمن والإطمئنان لكل من لا يريد إراقة الدماء، ولا تجديد العداوات والضغائن والأحقاد، فالأمان كل الأمان لمن نظر فأبصر تحول الزمان لصالح الدين الجديد والدولة الفتية، الأمن والأمان لمن تداركته العناية الإلهية فاسترق السمع لأبواق النصر تسبح لله الواحد الأحد، فعلم علم اليقين أن إله أصم أبكم قد فقد صلاحيته وأنه هُزم شر هزيمة، وأنى له النصر وهو حجارة صماء ما نفعت يوماً ولا يكون لها أن تنفع يوماً ،وأن الخطيئة معلقة برقاب من عبدها لا برقبة حجارة جوفاء !وأن دين كهذا لابد أن يولد ميتاً ،وأن رايته الصنمية قد سقطت، وأنها بيد الله ونبيه قد سقطت فلا عزاء لمن عبد سواه!

دخل رسول الله(ص)فاتحاً مكة وأعطى الراية لسعد بن عبادة الذي غلبته أحقاده على قريش، فاعتقد لوهلة أن ينضح اليوم بمكنونات قلبه وما يحمله من أحقاد لقريش دون محاسبة ومعاتبة! فاليوم يوم المنتصرين من المهاجرين والأنصار ،اليوم يوم الفاتحين ،وللفاتحين حسب اعتقاد سعد بن عبادة للحظتها أن الأبواب لجهنم قد فتحت وأن النيران قد أُجْجِتْ، وأن قريشاً ستساق إلى حتوفها وأن نساء قريش ستكون سبايا ومطايا لكل طامع !!وهذا ما ذهب إليه قوله : اليوم يوم الملحمة – — اليوم تُسبى الحرمة.

وعلى أثر ذلك أمر رسول الرحمة والإنسانية (ص) الإمام علي ( ع )بأخذ الراية من سعد بن عبادة وصدح بالقول :” اليوم يوم المرحمة، اليوم تصان الحرمة”.

{في الكافي:٤/٢٢٥ ، عن الإمام الصادق( عليه السلام ) فال: (( لما قدم رسول الله(صلى الله عليه وآله ) مكة يوم افتتحها ، فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست ، فأخذ بعضادتي الباب فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده. ماذا تقولون وماذا تظنون ؟ قالوا: نظن خيراً و نقول خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم ، وقد قدرت ! قال: فإني أقول كما قال أخي يوسف: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة ،….}

{ قال في إعلام الورى:١/٢٢٥ ، ومجمع البيان:١٠/٤٧٢:(( ودخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم ، فأتى رسول الله(صلى الله عليه وآله ) البيت وأخذ بعضادتي الباب ثم قال: لا إله إلا الله أنجز وعده ، ونصر عبده ، وغلب الأحزاب وحده…

ألا إن كل دم ومال ومأثرة كان في الجاهلية فإنه موضوع تحت قدمي ، إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما ، ألا إن مكة محرمة بتحريم الله ، لم تحل لأحد كان قبلي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ، فهي محرمة إلى أن تقوم الساعة… ثم قال: ألا لبئس جيران النبي كنتم ، لقد كذبتم وطردتم ، وأخرجتم وفللتم ، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني ، فاذهبوا فأنتم الطلقاء .

   فخرج القوم كأنما أنشروا من القبور ، ودخلوا في الإسلام ، وكان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئاً ، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء !

   قال: ودخل رسول الله(صلى الله عليه وآله ) مكة بغير إحرام وعليهم السلاح ، ودخل البيت لم يدخله في حج ولا عمرة ، ودخل وقت الظهر فأمر بلال فصعد على الكعبة وأذَّن فقال عكرمة: والله إن كنت لأكره أن أسمع صوت ابن رباح ينهق على الكعبة ! وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أكرم أبا عتَّاب من هذا اليوم من أن يرى ابن رباح قائماً على الكعبة ! وقال سهيل: هي كعبة الله وهو يرى ولو شاء لغير ! قال: وكان أقصدهم ! وقال أبو سفيان: أما أنا فلا أقول شيئاً والله لو نطقت لظننت أن هذه الجدر تخبر به محمداً !

   وبعث(صلى الله عليه وآله ) إليهم فأخبرهم بما قالوا ، فقال عتَّاب: قد والله قلنا يا رسول الله ذلك فنستغفر الله ونتوب إليه ، فأسلم وحسن إسلامه وولاه رسول الله مكة .}

سقطت مكة عزيزة لا تضام، فالفاتح النبي محمد (ص) الذي دخلها لا شامتاً ولا مستخفاً بأحد ممن حضر الفتح من كفار قريش وأتباعها،الذي تسارع تاريخه القبلي والشخصي وتاريخ مكة تواكبانه بدموع حَرَّى وذل مطبق،فكلما نظر لفاتحي الأرض المباركة أم القرى والآه والعبرة تكادان تحرقانه وتخنقانه ومن ثم تطرحانه أرضاً !! فبكة لم تعرف الغزاة إلا النزر اليسير بل إن دعاء أبي الأنبياء إبراهيم المستجاب مظلة واقية حامية من الغزاة والمتوعدين بها الشر، “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا “.( ابراهيم-٣٥)، وأن طيوراً أبابيل دكت جيش أبرهة الذي عصى الله وعزم بعزم الجبابرة الطغاة هدم أركان البيت إلا أن الله كان له بالمرصاد ، إذ قال الحق تبارك وتعالى :” أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ،أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ،وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ،تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ”.( الفيل كاملة )، غير أن الرسول محمد (ص)ليس كمثله فاتح ! فمحمد(ص) نبي الرحمة والإنسانية ومبعوث السماء لم يكن متوعداً بالويل والثبور وعظائم الأمور لمن خالف وولى،ولمن وقع في قبضته، فها هو اليوم يرجع من بعد هجرته القصرية والتي اضطر لها من بعد تهديد أكيد لأمنه ولحياته من قبل سادات الكفر والوثنية ومؤامرتهم على الخلاص منه بيد أربعين فارساً يضربون عنق النبي (ص) ضربة رجل واحد، مما اقتضى خروجه منها مخلوع الفؤاد فمكة المقدسة داره وموطنه وموطن بعثته ،وفيها جوهر القلب والفؤاد بيت الله الحرام وفيها تاريخ المقاومة الإسلامية الأولى لزنادقة الكفر الذي سُجل بدماء زكية ونفوس أبية راضية بما تجري عليهم المقادير وتحمل لهم من صنوف العذاب والقهر، ولكن لا ذل وسيدهم ومولاهم(ص) معهم يواسيهم ويصبرهم ويعدهم عند الله الزلفى وجنان عرضها السماوات والأرض، ولطالما افترش(ص) معهم الأرض وتلحف السماء، وأكل معهم من أديم الأرض وحشائشها وما جادت به بعض النفوس الطيبة الرؤومة عليهم في شعاب مكة لسنين ثلاث ، قاسوا معه وقاسى معهم مرها بنفوس صابرة محتسبة مؤمنة وموحدة الله تعالى، ومن ثم جاء فرج الله المبين فأكلت الأرضة صحيفة معاهدة قريش بالقطيعة لبني هاشم والمسلمين، وكان نصر من الله وعز للمؤمنين بحشرة صغيرة إنه على كل شيء قدير.

لم يدخلها حاقداً ولا شامتاً ولم يحمل معه سجل ذكريات ما مضى وما فعلته ملاحدة قريش فيه وفي الآخرين، إنما دخلها بعزم المؤمن المتوكل على الله ربه وبرغبة المتخلق بأخلاق إلهية، ومتحزماً بنواميس ربانية تنشر العدالة والإخاء والمساواة بين جموع الناس، دخل محمد(ص) مكة حطة ،دخلها خاشعاً لله ربه ومتواضعاً متذللاً لله وحده لعظيم كرم الله الذي “أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده “، دخلها مصداقاً لرؤياه :”لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا”.( الفتح -٢٧)، دخلها رسولاً نبياً، يحمل رسالة ربه إلى الناس كافة فمن قبلها بقبول حسن كان جزءاً لا يتجزأ من النسيج الإسلامي، وله كافة الحقوق وعليه كافة الواجبات والإلتزامات الإسلامية ،وما فعل وما اعتقد قبل إسلامه مجبوب مغفور له ، فالإسلام يجبه كأن شيئاً لم يكن، ولولا سماحة الإسلام ومبدأ العفو والرحمة والتجاوز عما حدث من خلل قبل الإسلام ومن إشكالات تصل حد الجرائم والقتل أحياناً، وقذف المؤمنين والمؤمنات وخاصة رسول الله ( ص ) وأهل البيت ( ع ) بأقذع الصفات والتسميات، لما كان لقريش وخلفائها من القبائل الأخرى فرصة، ليس فقط في الدخول في الإسلام وإنما في الحياة، فبمقدور الرسول الكريم (ص) هدر دمائهم لو رغب في الإنتقام والشماتة وخاصة أن الله منَّ عليه بهدر دمائهم ووهبها له،غير أن الرسول الكريم لم يحتج بها على فراعنة قريش، بل إنه البلسم لكل الجراح النفسية منها والعقلية ناهيك عن الجسدية أيضاً، قد تخلق بخلق الرحمن فعفا وأصلح لهم حالهم، وجعل العفو والتسامح واللين وغض الطرف عنهم وعما جنت أيديهم سابقاً للفتح ولاحقاً منهم مما يمكن تجاوزه لغايات سامية لا تقل أهمية عن الفتح مفتاحاً إلى أفئدة الكثير منهم، والتفضل بإطلاقهم وحرياتهم أعزاء أحراراً كما كانوا وكما يجب أن يكونوا الوسيلة والبوابة لدخول الكثير ممن شهد الفتح أو سمع به في الدين الحنيف !

هذا ولو أحب الرسول الكريم التلذذ بمشاهد الذل والإنكسار ، أو أحب فقط أن يوصل رسالة لمن لم يرحم الرسول ولا المسلمين يوماً، أن اليوم زمن انتصار الإسلام ، وأن الوثنية قد اندحرت في مكة المقدسة وقصمت ظهور ألهتها الصنمية ، وأن اليد العليا لله ورسوله في بطحاء مكة وجبالها وفيافيها فلا مكان للشرك والمشركين في مكة من الآن وحتى قيام الساعة ، وأن السلطة والسطوة والحضوة بيد رسول الله مفوضاً من الله تعالى يقسمها على من يشاء، ويبعد ويدني من يشاء ،وأن بيده الأمر يرفع من يشاء ويذل من يشاء ،وينتقم ممن يشاء إذا شاء، ولو كان كسدنة الدين السقيم وإلههم المسخ وحاشاه أن يكون لسبى من يشاء وهتك أعراض من يشاء، وقطع أوصال من يشاء !!( محض افتراض خيالي) فذاك قراره لإنه اليوم ” مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ “(التكوير-٢١)!! وما أضحى محمد إلا كما أصبح رؤوف رؤوم رحيم ،يقول .           . الحق مادحاً رسوله :” لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ “.( التوبة -١٢٨)،محمد رسول الله( ص)لا تغيره المواقف ولا تثنيه إقبال الدنيا عن أخلاقياته ولا عما نُصب له، فها هو اليوم كمالعادة دمث خلوق عفو ومتجاوز عما بدر منهم، بل ذهب الى أبعد من ذلك إلى حفظ ماء وجوههم وكراماتهم وأعراضهم، بل إنه لم يأذن لأحد من قادته بمقاتلة أو هدر دم أحد إلا من ابتدأهم بقتال ،ثم يقف متسائلاً بحضور فراعنة قريش ما تظنون أني فاعل بكم ؟! فيجيبون متناسين حروبهم ضد رسول الله وتحالفاتهم مع شياطين الجن قبل الإنس لمحاربة الرسول واقتلاعه والمسلمين من صياصيهم ومن الوجود كلية ! يجيبون بلسان ذل أخرسته انتصارات المسلمين، ووقوعهم ومدينتهم صيداً سهلاً نظيفاً خالياً من القتال والدماء بيد المسلمين الذين عَدُّوهم يوماً شرذمة لقريش غاضبون ،موقف ما خطر بوجدانهم يوماً أن الصورة تنقلب ويصار الأمر بيد محمد! ويقفون موقف الذليل الذي يتحين الفرصة لعل قلب محمد يرأف بهم، ولا يساقون كما تساق البهائم ولا يباعون في سوق النخاسة ولا يسترقون ولا يفعل بهم الأفاعيل، فكان جوابهم جواب المستجير بأخبار الماضي الذي سجل للصادق الأمين مشاركته وحضوره مع قريش قبل الإسلام حلف الفضول، والذي بموجبه تحالفت قبائل وبطونها على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه حتى ترد عليه مظلمته، كما ارتكزوا على أخلاق الصادق الأمين صديق الضعفاء والمساكين وجليسهم وأنيسهم ، فتدافعوا بلسان واحد :” أخ كريم وابن أخ كريم”، فقال رسول الله (ص) “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. حقاً يا رسول الله سمحت لهم بالحياة مجدداً دون تأليب ولا تأنيب ؟! ها قد سرت الدماء في عروقهم مجدداً، واطمأنت النفوس فلا الأرواح زهقت ولا الأموال نهبت ولا الدور هدمت ولا النساء سبيت .

فإذا كان الحق ما فعله الرسول الكريم فكيف انساقت طغمة ممن رفعوا الإسلام راية والنبي قدوة إلى سَوْقِ نساء المسلمين وحرائر العرب وأهل الذمة من النصارى؟!وهم يزعمون بكل صلافة ووقاحة أنهن سبايا! ولعل الأمر الإلهي ما بلغهم أن المرأة الحرة الكريمة قد حُرم سبيها ،فالإسلام دين الأحرار ولا عبيد فيه !!وما بالهم يحولون أرض الإسلام والمسلمين أرضاً محروقة يقتل فيها الشباب وينكل بالرجال ويسحلون ويصلبون؟!!ألم يقل الله تبارك وتعالى :”أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ “.( المائدة -٣٢)، وربما يصبحون عما قريب خراف الموائد وزينتها! ويُيتم الأطفال وتهتك الأعراض وتجبر المحصنات من الثيبات والأبكار على البغاء، باسم مسميات ما أنزل الله بها من سلطان! مسميات قذرة تقشعر منها الأبدان، ويصعق منها كل متعفف شريف يخاف الله رب العالمين ،مسميات لا ترتبط بالسماء بأي حال!! ففحواها ينضح بنقيع الشياطين ومصادرها من زقوم !!يقول اللطيف الخبير :وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ “.( الأنعام -١٥١)، فهل يعقلها أولئك المدعون زيفاً سدنة الدين أن الطاهر المطهر يأمر بجهاد يطلقون عليه جهاد النكاح ولا أملك إلا أن أقول والعبرة تتحشرج بين أواتار أضلعي إنه جهاد الفسق والفجور والعهر والعهار!! فمن لحرائر المسلمين والعرب من كل الطوائف والملل؟! اللواتي لسوء طالعهن تواجدن في الأرض التي كانت تعد مقدسة بقدسية الأنبياء العظام أبناء هذه الأرض التي كانت يوماً طيبة وما عادت كذلك ! فمن للنساء إنهن “كالمستجيرات من الرمضاء بالنار” ؟!! ولو اليوم اطلع رسول الله ( ص ) لمصابهن ومظلوميتهن وتكالب الزمان عليهن لرق لحالهن، ولنتفض ولنتصر لهن في حرب ضروس على الزنادقة أصحاب الظلام ودين المسخ- لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ”( المدثر-٢٨)ولكُتب في التاريخ أن المرأة المؤمنة بالله ومحمد والإسلام ديناً عزت وما ذلت إلا على أيدي كتاب ووعاظ المؤامرة الغربية المشرقية!! وكانت حتى حين بمحمد وآله عزيزة لا تضام ولن تذل أبداً ( اللهم صل على محمد وآل محمد ).

إنها عصبة ترفع راية التوحيد، وتمزق باسمها الكتب السماوية والأدهى والأنكى والأمر تُمزق المصحف الشريف الذي بين ظهرانينا، يقول الولي الحميد :” إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ “( الحجر-٩)، وتدعي تلك الطغمة المنحرفة أنه محرف فتلغي سور وآيات وتضيف وتصحح كما تشاء!! كما أنها جنحت إلى إلغاء صلوات تعارف المسلمون على أدائها كصلاة العيد باعتبارها بدعة-ويقول الحق :” قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ “.(ابراهيم-٣١)، ولتحملن إلينا الأيام من بدعهم وكذبهم وافتراءاتهم على الله وعلى الرسول ما يشيب منها الوليد – وتجاوزت خفافيش الظلام كل الحدود والخطوط الحمراء فها هي اليوم تنصب نفسها قيم وحيد على الدين الإسلامي ! يستمد سلطانه ونفوذه من تلك الراية الشمطاء فيحيي ويميت، ويفتي بكل بهتان وزور، فيلعن المقامات ويدنسها، ويحاكمها وَمَنْ في المقام وإن كان نبياً أو إماماً!! غير عابئين بهم ولا بإصلاحاتهم ولا بجميل ما قدموه للإنسانية من تقويم وتصويب وإرشاد إلى الصراط المستقيم ، ولا بإنجازاتهم ولا بمقامهم ولا بمنزلتهم عند الله ، فما عادوا إلا هباء منثوراً !!إنهم المعنيون بالخطاب أنبياء سابقون واليوم هم لا يضرون ولا ينفعون!! الموت أفقدهم أهميتهم!! ولهم بعد الحكم عليهم بالفناء والدمار الإستشكال عند الله تعالى يوم الدين ، وإلى حين البت باعتراضهم لابد من أن تحرق وتنسف مراقدهم وتنسف أجساد طاهرة مقدسة كريمة عند ربهم فقط! يقول الحق :”إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ”. ( المائدة -٣٣)،   بالإضافة إلى تفجير دور العبادة من كنائس ومساجد وحسينيات!! فما الضير من ذلك ؟! مع العلم إن الفائدة أشمل وأعم فلا حاجة تذكر لمساجد شركية صنمية يعبد فيها غير الله تعالى ؟!ثم إن أرض الله واسعة فما الداعي للمساجد وكل الأرض جُعلت مسجداً وطهوراً ؟! ألم يقل الله تعالى :” فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ “.( البقرة-١١٥) ، وقول رسول الله (ص) : ” جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ” . فمن أين لهؤلاء الحجة على صوابية فعلهم ؟ولعل المبكي المضحك أن الطفل الصغير ذا النفس السوية يعلم علم اليقين بظلامية فعلهم وأنها ليست من الله في شيء !!ألم يقل الحكم العدل :” لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ”،( التوبة-٤٨)

في الأرض المقدسة أرض الأديان السماوية كلها، وأرض الأنبياء كلهم اغتيل الدين الإسلامي براية كذب وزور وافتراء ، باسم دين رب السموات والأرض دعوا إلى دين جديد، ورب جديد رب مسخ وشهوة وحيوانية كاسرة فاجرة ،فهل أؤلئك المفسدون في الأرض هم رجال الحق ؟! هزلت ورب الكعبة، فإذا جيء بأنبياء الله العظام وجيء بالمفسدين في الأرض، فهل حقاً أبناء الشجرة الملعونة وأحفادهم طلاب الظلام وخدام الشياطين هم رجال الحق ؟!وهل عُرفوا بالحق ؟! أم إن الحق منهم براء؟! والحق شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء لا يكون لهم منها خلاق ولا يجوز لهم منها الإقتراب وكل إناء بما فيه ينضح !!!يقول الحق :” وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ،أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ”.( البقرة -١١-١٢) ، ويقول الحق :” لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ”.( الأنفال -٨)، كما قال العلي الأعلى :” وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا “.( الإسراء -٨١).

الكاتب ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

مواضيع متعلقة