يعرف الرجال بالحق – الجزء التاسع عشر

img

هل ركن الذين ظلموا من الجاهلية الأخيرة إلى ظهير متهالك وإلى نصر موهوم على غفلة من الزمن ،فاعتقدوا بأن الله غافل عما يعملون ؟! وأن الجبت والطاغوت على نصرهم لقدير ؟! وأن الزمان المنافق قد ضحك لهم فماجوا في هرج مريب يتخطفون الشهوات حلها وحرامها لا يفرق الأمر عليهم، بل إن الحرام منها لأشد طلباً ورغبة لديهم من حلال مزهود عنه! وأن مناظر الحرام تحرك غرائزهم فيستبقون أبواب الحرام قرعاً بلا هوادة! وما برحت دموع وآهات الثكالى والمهتوك أعراضهن والضحايا واليتامى تزيدهم شهوة وإثارة ورغبة في الدم الحرام والعرض الحرام والمال الحرام؟! وبلغ هيجان الشهوة الحرام أن فُتح الحرام الذي يهتز له عرش السماء عبر فتاوى الزنادقة من سدنة الجاهلية الأخيرة فيتهالكون بإباحة اللواط والزنا والفسوق والمجون في أي موضع ومكان لكل مجتهد يخدم الجبت والطاغوت؟! فلا شرع إلا ما شرعه رسول الجبت والطاغوت، وأما شرع السماء فذاك شماعة المستضعفين والملجومين ممن لجموا بلجام النور غير أن نورهم أَفُلَ وأن رسولهم قد مات من قرون !! وأصبح دينهم وقيمهم موضة معتقة أن أوان استبدالها!! ( استغفر الله رب وأتوب إليه فناقل الكفر ليس بكافر ) وليعلو من اليوم فصاعداً هبل واللات والعزى أصناماً يعبد من خلالها الجبت والطاغوت حتى يوم انتصارهم الشامل ، فيكشران عن أنيابهما ومخالبهما !! فهل لتصورهم المريض هذا أساسات على أرض الواقع؟! ولنعد لرسول الله ( ص ) ولنرى هل حقق الله مراد قريش بالقضاء على الإسلام وأهله أم العكس هو الصحيح؟! ولنبدأ من رؤيا رسول الله( ص ) بالحج إلى مكة المكرمة ، يقول العلي الأعلى :”لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا “.( الفتح -٢٧).

تكللت رؤيا رسول الله (ص) والتي تعلقت ببشرى الله تعالى له وللمؤمنين بالحج إلى بيت الله الحرام، مما يعني أن دولة رسول الله ( ص ) باتت قوية عزيزة وآن لها أن تمارس شعائرها علناً دون مخافة من أحد أو خشية على نفوس أتباعها، وآن لها أن تنطلق من منطق العزة والقوة فهي عزيزة لا تضام، وتتنامى عزتها بحول الله تعالى على مدار الأيام المتعاقبة سراعاً، ولها الحق   بفرض حكمتها ومنطقها مراعية حقوق الآخرين واختياراتهم ، فهذه الدولة الفتية المنتصرة أضحت قادرة على انتزاع حقها في الحياة وحقها في حماية شعائرها ودينها وممارسة شعائرها في كل مكان وأي مكان ، ولن تحسب بعد اليوم حساب العتاة القساة من قوى الأحزاب المنهزمين يوم الخندق، يوم اقتلعت جند الله رياح عاتية قواهم من حول مدينة المنصور المؤيد رسول الله ( ص ) بعد أن أقدم خير البرية بعد رسول الله علامة الإيمان على قتل علامة الكفر والنفاق عمرو بن ود ، فأعز الله محمداً(ص) بعلي سيفاً لا كمثله سيف ( ع )، ورياحاً عاتية هي هبيبات من هواء لا قنبلة محرمة !! ريحاً اقتلعتهم فولوا الأدبار ولكن الأرض وما عليها زهرت وانتعشت بلفظهم وهجرهم عنوة وقصراً عن مناكبها، فذلوا أولئك الكفرة ورجعوا ديارهم فلا هم انتصروا وقضوا وترهم من الرسول (ص) وأتباعه والقضاء عليهم ورفع راية اللات والعزى!ولا هم أبقوا على اتحاد أحزابهم !فأول الفارين من الريح العاتية شر خلق الله ابن الشجرة الملعونة أبي سفيان، فكسرت شوكتهم وكانت البداية لنصر الله المبين .

وعوداً على بدء حيث تكللت رؤيا رسول الله(ص) بالمسير إلى مكة بنية الحج والعمرة تسابقهم هديهم إلى مواضع رحمة الله ،ولكن تناهى إلى مسامع قريش أن محمداً (ص) في طريقه إلى أداء الحج والعمرة وأنه ينوي دخول مكة دون أن يضع في اعتباره قريش وهيبتها وردة أفعالها! فما يترشح عن دخوله مكة دون أذن قبائل قريش يفقدها هيبتها بين القبائل في الجزيرة العربية، ولهذا عزم أولئك العتاة الظلمة منع محمداً(ص) وأصحابه من دخول مكة فلا عمرة ولا حج بدون رضاها- أي رضا قريش- فأرسلوا مجموعة من فرسانهم بقيادة خالد بن الوليد يتحسس الأمر وينفذ فيهم رأيه الميداني الآني حسب رؤياه لواقع ما يرى، لكن الله تعالى لم يمكنه من المسلمين، إذ أنزل الله على رسوله الأمر بصلاة الخوف والتي تمكن المسلمين من الصلاة مجاميع تباعاً وبحيث تمكنهم هكذا كيفية من حراسة وحماية أنفسهم فلا يأخذهم العدو على حين غرة كما كان خالد بن الوليد ينوي الهجوم عليهم حال الدخول والتفاعل بصلواتهم،ولقد أمر رسول الله ( ص ) المسلمين بتغيير مسارهم تفادياً الإصطدام بخالد وكتيبته إشارة لحسن نوايا النبي ( ص ) والمسلمين لمغازيهم وغاياتهم النبيلة بالحج والعمرة لا الغزو والحرب،فالغايات والحِكَم من مقدمهم إلى مكة محض عبادية تنتفي بها نوايا الحرب والغزو ، ولا يفهم من ذاك أنها نابعة من موقع ضعف وإنما من مواضع الرحمة والرأفة وصلات الأرحام ،غير أن الكفرة يتمادون في تعنتهم وغيهم فيحبسون عثمان بن عفان رسول رسول رب العالمين إليهم الذي وفد إليهم شارحاً غايات النبي (ص) العبادية النبيلة من مقدمهم ،ويستأذنهم السماح لضيوف بيت الحرام بالعمرة بسلام ! كما أنهم حبسوا مجموعة من المسلمين قدموا مكة لذات الأسباب ! وعليه أرسلت قريش طلائعها تمنع الرسول من دخول مكة فما استطاعوا ،وردهم الله إلى العمق المكي ثلاثاً على يد رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله كرار غير فرار إنه علي (ع )، ردوا خائبين دون قتال ، يقول تعالى :” وَهُو الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ “.( الفتح -٢٤) ، ومع ذاك يرسلون مفاوضيهم الواحد تلو الآخر وآخرهم سهيل بن عمرو يلعبون وتر صلات الأرحام بينهم وبين رسول الله (ص) بمنتهى الخبث والدهاء في لحظات ضعفهم وعز محمد( ص ) متكئين على خُلقه الذي لا يبارى وحيائه المطرد والمعروف للقاصي والداني ،واعتمادهم على أنه لن يردهم في أمر يحقن الدماء- ولعلهم من حيث لا يدرون ولكن يريده الله تعالى في نهاية المطاف، يفتحون باباً إلى نصر يعز الله به نبيه والإسلام أيضاً وهكذا كان -، فقد تبخترت كلمات وأوامر هذا المدعو سهيلاً ممثل المشركين من أهل قريش إلى صحيفة المصالحة والمعاهدة تبختر الطاووس في رقصاته!! إذ رفض ابتداءً ذكر بسم الله الرحمن الرحيم عنواناً تشريفياً للمعاهدة حيث لا يقر هو ولا من هم وراءه بالله العلي الأعلى كفراً وإلحاداً، ولا أن يذكر رسول الله لقباً لمحمد (ص)؟لأن هذا الخسيس لا يراه كذلك !ورضي رسول الله وهو القوي الذي لا يضام وهو المنتصر والذي بلغ انتصاره الخافقين فعلم القاصي والداني أن محمداً المسدد يواكبه النصر والسؤدد ويحل معه حيث يشاء ،وأن الله ربه ليس بخاذله ومخزيه ، يقول الحق :” يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ”.( التحريم -٨،)، ومن منطلق التسامح ومن منطلق نشر سياسة التفاهم ولغة الحوار لا لغة الحديد والنار،ومن مفهوم التقريب بين الأمم والناس ،ومن مبدأ العيش المشترك ضرورة حتمية في مجتمعات متعددة الأعراق والديانات والمذاهب والطوائف ولا سبيل غير ذلك ،كما أن حياتنا الدنيا هذه حياة ممر قصير يعمل فيها المرء كلٍّ على شاكلته وكل حسب مفاهيمه واختياراته ويتموضع فيها الإنسان على طريقه الذي خطه لنفسه فإما صراط مستقيم وإما إعوجاج وسبل متفرقة حتمية المصير إلى سقر، فلم التباغض والتباعد وحروب تدميرية لا غايات منها إلا استعراض القوى وسحق النفوس البرئية وهدم ودمار ينتشر في كل زاوية تلعن الرافضين لغة العقل والمنطق !! ألم يقل الله تعالى :” فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ،لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ “. ( الغاشية -٢١-٢٢)كما يقول الحق :” إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا”.( النازعات -٤٥)،

وعوداً على بدء- مرة أخرى -رضي رسول الله محمد( ص ) الخضوع لإملاءات قريش وشروطها وكأنها المنتشية نصراً ،وكأنها القادرة من مواضع القوة والهيمنة وكذلك الهيبة أن تبسط إرادتها فتنتزع بإملاءاتها ما لم تنتزعه بفرسانها الذين خذلوها وأضاعوا هيبتها !!وركنوا إلى رحمة محمد( ص ) وتسامحه يلملمون هيبتهم وكرامتهم، فها هي أماليهم تتراكض إلى صحيفة الصلح ورسول الله(ص) يقرها !

ولا يجوز لنا أن نغفل اليومين اللذين سبقا كتابة المعاهدة إذ تخللهما الكثير من التجاذبات بين الإعتراض والرفض والتصحيح والإضافات وحبس الأنفاس من قبل كلا الطرفين لشروط وطلبات الآخر،ومع ذاك أرادت مشيئة الله للمعاهدة أن تبصر النور وأن تتم بحول الله وقوته ، وأن يوافق رسول الله( ص ) عليها!! وأن يظن صغار العقول وذوي الفكر الأني وعديمي بعد النظر والحمقى وفاقدي خاصية التأني والصبر، وكذلك الذين نُزع الإيمان المطلق -بحكمة الله ورسوله من وراء الأحداث الجارية – من صدورهم!! إذ يظن هؤلاء بالله ورسوله الظنونا!!! حتى بلغ بأحدهم أن يشكك بنبوة محمد ( ص )! فلا الصبر يعينهم ولا إيمانهم يزكيهم فيقرون لله ورسوله بقيادة الأمة والبشرية إلى صوالحهم!! ولا يعقلون الأمر بخواتيمه !ولا يسلمون لله ورسوله بالريادة المطلقة للأمة وأن الله لن يسلمهم إلا لخير ،وأن نصرهم بانت بشائره بين سطور تلك المعاهدة لو كان لهم بصيرة فيعقلون !! ولقد كانت شروط قريش على لسان ممثلهم سهيل بن عمرو قاسية على رسول الله وكاتب الصحيفة علي ( ع ) والمؤمنين وكان مما اتفق عليه :

١- إيقاف الحرب بين الطرفين لمدّة عشر سنين.

٢- التخيير بين الدخول في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، أو الدخول في عهد قريش، وكذلك من جاء محمد ( ص ) مؤمناً من أهل قريش رد إلى قريش طواعية وأما من جاء قريشاً من أتباع محمد مرتداً عن دينه فلا يرد للنبي ،وهنا علق النبي محمد( ص ) بأنه لا حاجة للمسلمين بهكذا مرتد يتربع بين ظهرانيهم، وهذا ما ألزم الرسول به نفسه الشريفة إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو فاراً بدينه من أهله وقريش، لكن الرسول قد أبرم عهداً مع قريش لتوه، فلا شمائله تسمح ولا خلقه يقر أمراً خلاف ما اتفق عليه أو يخادع، وعلى القطع لا يمارغ في كلمة اقتطعها على نفسه، بهكذا كيفية يعرف رجال الحق بالكلمة الصادقة والموقف الشريف فلا مجال للكذب والمراوغة والإلتفاف على ما عاهدوا الله عليه، أولاً لأنهم وجه الله الذي يؤتى منه فلا يصح لممثليه إلا الصحيح ،ولهذا أرجع رسول الله أبي جندل بن سهيل بن عمرو إلى قريش مواسياً إياه بفرج من الله، إن الله على نصره لقدير .

{وفي المناقب:١/١٧٤:(( فقال النبي(صلى الله عليه وآله ) : من جاءهم منا فأبعده الله ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً.. إذ جاء أوفي المناقب:١/١٧٤:(( فقال النبي(صلى الله عليه وآله ) : من جاءهم منا فأبعده الله ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فلو علم الله الإسلام من قلبه جعل له مخرجاً.. إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده ، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أفاوضك عليه أن ترده ! فقال(صلى الله عليه وآله ) : إنا لم نقض بالكتاب بعد ، قال: والله لا أصالحك على شئ أبداً ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله ) : فأجره لي ، قال: ما أنا بمجيره لك. قال مكرز: بلى أجرناه ، فقال النبي(صلى الله عليه وآله ) : إنه ليس عليه بأس إنما يرجع إلى أبيه وأمه فإني أريد أن أتم لقريش شرطها }.

٣- أن يكون الإسلام ظاهراً بمكّة، لا يُكره أحد على دينه ولا يؤذى ولا يُعيّر.

٤- أن يرجع رسول الله(صلى الله عليه وآله) هذا العام، ثمّ يعود إلى مكّة في العام القادم بلا سلاح ويقيم بها ثلاثة أيّام.

تم الصلح فأعطى رسول الله أوامره للمسلمين بالنحر والحلق، إذ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله ) لأصحابه:” أنحروا بدنكم واحلقوا رؤوسكم ، فامتنعوا وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة “؟!

وإنه لمن عظيم الألم توجيه سهام ذوي القربى- باعتبار المسلمين عائلة واحدة بحكم الدين – إلى صدر رسول الله ( ص ) جراء تذبذب مواقفهم وترددهم في تلبية نداء الرسول (ص) ،وصلافة تساؤلاتهم، وكأن عِبَرَ الأيام الخوالي ما أحدثت خرقاً في عقولهم ، تلك العقول التي بها ولوا الأدبار يوم أحد إلا النزر اليسير ممن هانت عليهم أنفسهم في سبيل الله ورسوله (ص)، وأيضاً بها في يوم الخندق عصوا الرسول (ص) وزهدوا بالجنة ورضوان الله تعالى!! فهل في صفوف القوم يوم الحديبية من تنهاه نفسه عن الزيغ والشطط، وتأمره الإنابة إلى الله تعالى، فينحر ويحلق دون تردد وإن لم تتضح له الرؤيا ولم يدرك الحكمة الإلهية من كل ما يدور حوله ؟! ولم يجد لرؤيا رسول الله تفسيراً ؟! ويتولى تطويع النفس الأمارة بالسوء التي تستصرخه محرضة إياه ضد مولاه رسول الله (ص) ومشككة في أقواله ، كما تستصرخه يمنة ويسرى إن كنت على ثباتك وموقفك من نبوة محمد فأين العمرة الموعودة إذن؟!

ورغم هذا الحجم الهائل من إعتراضات المسلمين ، هـل خرج النبي عن أخلاقياته ورصانة حكمته ومنطقه ومن ثم أطلق العنان للسيف يرتوي من دماء العاصين أمره للعقاب والعبرة ؟! مع ملاحظة أنهم قبل قليل من الزمن قد أقدموا على بيعة رسول الله على السمع والطاعة والقتال في سبيل الله ثابتين مرابطين فلا فرار ولا تراجع وسميت بيعتهم تلك بيعة الرضوان، ولقد قال الله تعالى في ذاك :”لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا “.( الفتح -١٨)، فما عدا مما بدا ؟!! فالمستعد للثبات والرباط في سبيل الله لا تغيره العناوين !! فكون العمرة أجلت عاماً أو بعض أعوام أو لم تتم أصلاً ،لا تزعزعه المستجدات المبهمة آنياً فلله في خلقة شؤون !! فإقراره بالأولوية والأهمية القصوى لأولياء الأمر الله جَلَّ شأنه ولرسوله(ص)، والقائم على حب سرمدي لله ورسوله ( ص ) والمفترض أنه خالط كيانه ودمه، وتملك هذا الحب الخالد من مفاصل العقل والفؤاد منه تمنعنه وتحصنه من زلات كتلك التي اجتاحت بعض من مسلمي الحديبية!! فالتبس عليهم الأمر وإذ بزوبعة في فنجان الإعتراض تشل حركاتهم وتُرْبِكْهم على حمل أوامر الرسول وتنفيذها على نحو فوري دون جدال قد يفضي إلى مالا يحمد عقباه !!وقد وقع المحظور !!

مما تسبب بجرح عميق لرسول الله(ص) وكظة وخيبة أمل مفجوعة بأمة ما ورد عليها وارد وحدث إلا وغربلها، فميز بين المؤمن حقاً والمسلم الذي ما زال ينتظر حدثاً يثبته على الصراط المستقيم تثبيتاً حازماً ونهائياً !!ولقد قال تعالى :” وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ “.( يوسف-١٠٣).

ورغم شدة ألم سيد الخلق لم يتبعه ردة فعل مضادة لها من رسول الله عقاباً ولا تأليباًً ، وعلى سنا خلقه (ص) تجلى ، فما تفوه بغير النصح والرشد والكلمة الطيبة ولا تهدد ولا توعد مخالفيه أو المعترضين على أمره ولا المتململين تنفيذ أمره دون السماح لومضة من الحكمة أن تبصر طريقها إليهم !ومع ذاك لم يسمع لرسول الله (ص) أن أزبد وأرعد وتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ،ولا بجلدهم ولا بنحرمهم ،ولا باستئصال شأفتهم إذا ما ركنوا إلى حيرتهم تضللهم وتقذفهم في موج الريبة والظنون !!وإنما كظم غيظه وصبر ثم احتسب ،ونحر ليمتثل من في قلبه ذرة من إيمان متأسياً بسيد خلق ربه (ص)، وتوكل (ص) على الله العلي الأعلى تاركاً حساب من في قلبه مرض على الله الحسيب الرقيب ؟! قال الحق : “حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ “.( الأعراف -١٠٥). يقول العلي الأعلى :” فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ،لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ “.( الغاشية -٢١-٢٢).

{   قال القمي في تفسيره:٢/٣١٠:(( ورجع حفص بن الأحنف ، وسهيل بن عمرو إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله ) وقالا: يا محمد قد أجابت قريش إلى ما اشترطت عليهم من إظهار الإسلام وأن لا يكره أحدٌ على دينه. فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله ) بالكتب ودعا أمير المؤمنين وقال له: أكتب… ثم كتب: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله والملأ من قريش وسهيل بن عمرو ، واصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين ، على أن يكف بعض عن بعض ، وعلى أنه لا إسلال ، ولا إغلال ، وأن بيننا وبينهم عيبة مكفوفة ، وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل ، وأن من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل ، وأنه من أتى من قريش إلى أصحاب محمد بغير إذن وليه يرده إليه ، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمد لم يرده إليه ، وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكة لا يكره أحد على دينه ولا يؤذى ولا يعيَّر ، وأن محمداً يرجع عنهم عامه هذا وأصحابه ، ثم يدخل علينا في العام القابل مكة فيقيم فيها ثلاثة أيام ، ولا يدخل عليها بسلاح إلا سلاح المسافر السيوف في القراب. وكتب علي بن أبي طالب ، وشهد على الكتاب المهاجرون والأنصار… قال: فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة فقالت: نحن في عهد محمد رسول الله وعقده ، وقامت بنو بكر فقالت: نحن في عهد قريش وعقدها .

   وكتبوا نسختين نسخة عند رسول الله(صلى الله عليه وآله ) ، ونسخة عند سهيل بن عمرو ، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم .}

ونعود لرسول الرحمة وأبي الأخلاقيات فهل تساءلنا لم لا يشذ رسول الله عن أخلاقياته قليلاً فيعتمد سياسة الأمر والجبر والإكراه؟! فقائد كل جيش مخول بل له مطلق السلطة في أصدار أوامره حسب تقديراته ورؤاه، ومن حقه الملازم لكونه القائد الأعلى للجيش أن يتوقع نفاذ أوامره على النحو الذي يرتئيه ،وإلا فقانون عقوبات صارم بين يديه يطلقه على المخالفين لضمان الحزم والجزم وسلطة غير مهزوزة، ونتائج الحزم تلك مضمونة معفية العواقب، وهي صمام أمان أكيد لجيش قوي متماسك، ولكن جُبِلَ الرسول على سياسة مخالفة لتلك، فسياسته اللين والرحمة، والخيار ولا إكراه ولا إجبار فيها بالمطلق، حيث سياسة الإله رب العالمين تقوم على قناعات الفرد لا المجموعة فيما يتعلق بشعائر الله أولاً، مع عدم الإستهانة على حرص الإسلام على تطبيع مجتمع إسلامي منضبط وفق المعايير الإلهية ،مؤمن متبن لتعاليم السماء السمحة كلها، ملتزم بشرائع دينه ومُحكمات كتابه كلها لا إلتزام من عبد الله على حرف! غير مغال ولا جاحد بنواميس السماء ولا متبع الهوى في تطبيقاته،ألم يقل العلي الأعلى :” كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ “.( المدثر -٣٨)، كما قال الحق :” وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ “.(الجاثية-٢٢)، وقال الحق أيضاً:” وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ “.( البقرة -٤٨)، وكيفية تبني المسلم لتعاليم السماء وإقراره بجوارحه وكيانه للخالق ومبعوثه وخضوعه وخشوعه واستيعابه لها طواعية، ثم مخالطة بوتقة من الحب اللامتناهي لله ورسوله وقناعات ذاك المسلم بما أُنزل على رسول الرحمة نبيه المؤمن به ،والمسلم له، والمعتقد بأنه الآمر الناهي برسم السماء بحيث أن هذه البوتقة تخالط دمه وقلبه وفؤاده، فتقلبه ذات اليمين وذات الشمال حسب دفة رسول الله قائد الأمة ،والحق يقال أن نعمة العقل ونعمة التبصر في الأمور ومستجداتها ونتائج التمسك بها ومن ثم عواقب التخلف عنها تحمل المرء مسئولية تبعات إختياراته- كما هو الحاصل في الغموض الذي ترتب على صلح الحديبية ورؤيا رسول الله بالحج والعمرة والتي فهمت على أن الحدث واقع لا محالة على نحو فوري- ،فكٌل بما كسبت يداه رهينة !!

فالفرض والإجبار في المعتقد والإلزام به لا يؤتي أكله، ولكن هذا لا يبرر الإندفاع دون حساب العواقب ،ولا يبرر شقاق الرسول (ص) ،بل نتائجه كارثية على فاعله وعلى أمة صامتة احتملت بصمتهاالمفجع وزر الآخرين بصفتها شريك صامت راض ، يقول العلي الأعلى :” ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ “.( محمد -٢٨) ، وقال الحق أيضاً :” وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ “.( الأحزاب -٣٦).

ولكن ما بال المسلمين يتعثرون في كل اختبار وموقف لهم مع رسول الله( ص )، كما يزيد الأمر حيرة وبلبلة رفضهم بشائر الضمانات الإلهية الموعودة !ويتمنون مواقف توافق تصوراتهم وتأملاتهم وطموحاتهم وصبرهم الذي نفذ قبل أن يولد !!وتتفاقم الأوضاع سوءاً إذ يواعدهم رسول الله بالعودة والعمرة في وقت لاحق ونصر من الله تعالى بدايته صلح الحديبية ولكن لقد اسمعت إذ ناديت حياً–ولكن لا حياة لمن تنادى !!فهل انقلبت الصورة ؟! يقول الحق :” وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ۚ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ”.( الأنفال -٤٢)، كما قال :” إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ “.( النمل -٨٠) ، ولقد قال رسول الله (ص): ” الصبر نصف الإيمان “. وقال (ص): ” من أقل ما أوتيتم اليقين وعزيمته الصبر، ومن أعطى حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار، ولئن تصبروا على مثل ما أنتم عليه أحب إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم، ولكني أخاف أن يفتح عليكم الدنيا بعدي فينكر بعضكم بعضاً، وينكركم أهل السماء عند ذلك، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه ” . وقال الحق :” مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ ۖ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ۗ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.( النحل -٩٦).

وما من خُلِقٍ سامٍ إلا وله تأثير آني على الطرف المتلقي وتأثير لاحق عليه وعلى أطراف أخرى على القطع، والملاحظ تتابع ردات ليونة المصطفى ( ص ) وتساهله مع المفاوض باسم كفار قريش ، وتجاوبه مع شروط وصلت حد الإملاءات الغير متناسبة وضعف قريش المهزومة في واقعة الأحزاب ومجموعتها المهزومة ثلاثاً برجوعها إلى بطون مكة مدحورة من قبل سيف الله الغالب علي (ع) وكتيبته دون قتال ! ورغم ذاك من حيث ضعفها تجبرت واستغلت إنسانية النبي وأدابه وحياءه وشغائف رحمته لتملي بكل وقاحة طلباتها ورسول الله يجيبها،ويرضخ لإرادة الرحمن الذي أمره بالرضا بالصلح، إلا أن من المفارقات العجيبة التي لو علمتها قريش سابقاً ما أقدمت على صلح نزع الرسول (ص) بمرونته أنيابها، وأيضاً بتنازله كان سبباً مباشراً ودافعاً لدخول الكثير ممن رفض حتى تلك اللحظة الإسلام ديناً،بدليل الفارق الهائل بين الأعداد التي صاحبت رسول الله ( ص ) إلى العمرة الموعودة والتي أفضت إلى صلح الحديبية، والأمواج البشرية المتلاحقة والتي صاحبت رسول الله (ص) إلى نصر الله المبين وفتح مكة .

[ من موقع سماحة الشيخ علي الكوراني :السيرة النبوية عند أهل البيت (ع) ـ ج ٢ – الفصل التاسع والأربعون : غزوة الحديبية وتوقيع الهدنة مع قريش:-

{   وقال الأحمدي في مكاتيب الرسول(صلى الله عليه وآله ) : 1/181: (( لما تم صلح الحديبية في شهر ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، رجع رسول الله(صلى الله عليه وآله ) إلى المدينة.. فعندئذ كتب إلى الملوك من العرب والعجم ورؤساء القبائل والأساقفة والمرازبة والعمال وغيرهم ، يدعوهم إلى الله تعالى وإلى الإسلام ، فبدأ بإمبراطوري الروم وفارس وملكي الحبشة والقبط ، ثم بغيرهم ، فكتب في يوم واحد ستة كتب وأرسلها مع ستة رسل.. قيل: يا رسول الله إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا إذا كان مختوماً ، فاتخذ رسول الله(صلى الله عليه وآله ) خاتماً من فضة ، نقشه ثلاثة أسطر: محمد رسول الله.

   وقيل: إن الأسطر الثلاثة تقرأ من أسفل فيبدأ به محمد ، ثم رسول ، ثم الله ، فختم به الكتب. وفي مسند عبد بن حميد عن أنس قال: كتب رسول الله (ص) إلى ملك الروم فلم يجبه ، فقيل له: إنه لا يقرأ إلا أن يختم ، قال: فاتخذ رسول الله خاتماً من فضة وكتب فيه: محمد رسول الله…

   وهذه الكتب بأجمعها تتضمن معنى واحداً وتروم قصداً فارداً وإن كان اللفظ مختلفاً إذ كلها كتب لمرمى واحد ، وهو الدعوة إلى التوحيد والإسلام…

قال قيصر لأخيه حين أمره برمي الكتاب: أترى أرمي كتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر. وقال لأبي سفيان بعد أن سأله وتكلم معه في النبي(صلى الله عليه وآله ) كما يأتي: إن كان ما تقول حقاً فإنه نبي ليبلغن ملكه ما تحت قدمي.

   وخرج ضغاطر الأسقف أسقف الروم بعد قراءة الكتاب إلى الكنيسة والناس حشد فيها ، وقال: يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب أحمد ، يدعونا إلى الله ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن أحمد رسول الله.

   وقال المقوقس: إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى عن مرغوب فيه ، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكذاب. وكتب فروة عامل قيصر على عمَّان إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله ) بإسلامه ، فلما بلغ ذلك ملك الروم أخذه واعتقله واستتابه فأبى ، ثم قتله فقال حين يقتل: بلغ سراة المسلمين بأنني سلَّمت ربي أعظمي وبناني

   وكتب اليه هوذة بن علي ملك اليمامة: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

   وأجابه جيفر وعبد ابنا جلندي ملكا عُمَان ، بالإسلام وخلوا بينه وبين الصدقة.

   وأجابه المنذر بن ساوى ملك البحرين وحسن إسلامه. وأجابه ملوك حمير ووفدوا. وأجابه أساقفة نجران وأعطوا الجزية ، ولباه عمال ملك فارس بالبحرين واليمن، ولباه أقيال حضرموت ، ولباه ملك أيلة ويهود مقنا وغيرهم ، إما بالإسلام أو الجزية. وكتب إليه النجاشي بإسلامه وإيمانه..}]

ولو اقتصر الأمر على ضمان سلامة المسلمين والحرية التي انتزعها رسول الله (ص) واكتسبها لهم في صلح الحديبية والتي بموجبها يُكفل للمسلمين المتواجدين في مكة حرية ممارسة شعائر الإسلام دون خوف ولا ارتباك في كل موقع ومكان جهاراً ليلاً ونهاراً، لكان نصراً وفتحاً عظيماً، إنه بالفعل مكسب جَدُّ عظيم وصمام أمان للمسلمين ولمن رغب بالتعرف على الإسلام السمح والداعي لمكارم الأخلاق وللتكافل كما أنه يلزم بصلات الأرحام وحسن الجوار، كذلك هو الدين السلام المسالم المتجنب للحروب ما أمكن ،والدليل رضا الرسول(ص) بهدنة سلام بين المسلمين وقريش التي لا يأمن غدرها لمدة عشر سنين ،والتي لم تستطع قريش الإلتزام بها! فأوعز على أثرها الرسول للمسلمين للتوجه بقيادته إلى مكة فاتحين ولسان حالهم يقول :” وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ “.( الصف -١٣) و:” وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا “.(الإسراء-٨١).

           للحديث بقية

الكاتب ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

مواضيع متعلقة