يعرف الرجال بالحق – الجزء الحادي عشر

img

 ماالنبي إلا الوجه المشرق للقدوة الحسنة ولمكارم الأخلاق ولراية النصر على ما حرم الله تعالى من الفحشاء والمنكر،{ ورد في تفسير الطبرسي” مجمع البيان “: إن الحواريين كانوا يرافقون المسيح في رحلاته ، وكلما عطشوا أو جاعوا رأوا الماء والطعام مهيئا أمامهم بأمر الله ، فكانوا يرون في ذلك فخراً لهم أيّ فخر ، وسألوا المسيح : أهناك من هو أفضل منا ؟ فقال : نعم ، أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه. وعلى اثر ذلك اشتغلوا بغسل الملابس للناس لقاء أجر وانشغلوا بذلك”.

ولقد قال الله تعالى :” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا “.( الأحزاب -٢١)، وكل ذاك يتجلى في قوله الله جلت قدرته :”وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ، وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ،وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ”.( آل عمران -من -٤٨- إلى -٥١). قال النبي محمد صلى اللّه عليه وآله: “عليكم بحسن الخلق، فإنّ حسن الخلق في الجنة لا محالة، وإياكم وسوء الخلق، فإ ن سوء الخلق في النار لا محالة”.(عيون الأخبار -للصدوق) ،وقال النبي محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم : “أبى اللّه لصاحب الخلق السيئ بالتوبة، قيل: فكيف ذلك يا رسول اللّه؟ قال: لأنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه”.(الكافي ).

وإنه وإن كان عيسى ابن مريم ( ع ) معجزة الله تعالى، حيث تصور وتجلى عبر نفحات إلهية في رحم أمه الطاهرة المطهرة المصطفاة من الله تعالى لهكذا تشريف ومقام رفيع، لم ولن يكون لغيرهما من العالمين – إنها السيدة العذراء مريم وابنها روح الله وكلمته عيسى -عليهما السلام- المخلوق من غير أب بقدرة الله تعالى ولكن بكن فيكون- سبحان الله أحسن الخالقين- ، يقول القدر المقتدر :”قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ”.(آل عمران -٤٧)، يقول الحق :” إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ”.( آل عمران -٥٩)، إلا إنه مبعوث من الله تعالى إلى الناس بمقاليد النور والفرقان ومؤيد بمعاجز وآيات ناطقات موحدات رب السموات والأراضين ومحال على الطاهر المطهر أن ينقلب على عقبيه فيكون جباراً عصياً ! قال تعالى :” قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا “.( مريم -٣٠-٣١-٣٢ ) ،

نعم هو معجزة الله إلا إنه عبد الله أيضاً، أتاه الله الكتاب والحكمة ، وجعله مستودعاً لمعاجزه-، فبإذن الله حقق أحلاماً للآخرين ظنوها يوماً من المستحيلات من علاجات للمستعصيات من الأمراض والعاهات وإحياء للأحبة الأموات الذين فُقِدَالأمل بلقائهم مرة أخرى في الحياة الدنيا ، ورغم الهالة القدسية التي أحاطته ومعاجزه،لم يغفل النبي عيسى التواضع لله- المنعم عليه وعلى والدته- والتباسط والخنوع لله والإعتزاز بعبوديته للواحد الأحد ، فقد سعى سعياً حثيثاً في دعوة الناس إلى الله بالكلمة الطيبة والحكمة والمعاملة الحسنة ،وما كان له ولا يكون لغيره إخضاع الآخرين لعبادة الله قسراً وتسلطاً! وما كان له الحق أن يخيرهم بين طاعته طاعة عمياء أو القتل انتقاماً وحقداً ! وما كان له أن يتطاول على الذات الإلهية فيفرض على الناس باسم الرب أعرافاً وأتاوات وعقوبات زواجر لمن لا يتقيد بما يقول ويؤمن بما يفعل، وإن كان يخالف شرع الله وكلماته !( وحاشاه أن يفعل ) وما خطر بباله يوماً أن يكون وما كان على القطع شيطاناً مريداً ولا جباراً حتى يدعو الناس لاتخاذه إلهاً من دون الله، ولا أن يشرك بالله فيدعي زيفاً أنه ابن الله ( استغفر الله رب وأتوب إليه) أو أن يستغل صفته وامتيازاته باعتباره نبي الله فينصب نفسه فرعوناً يزهق روح العاصي ويزج المتطاول عليه في غياهب السجون ، أو يبيح لنفسه ما حرم الله على الناس قاطبة ، أو يتقلب باسم الرب في الفحش والمجون !أو يتخذ ولايته وقيمومته على الناس كنبي شماعةً لاستعباد البشر أو يستخدمهم سخرة له -وحاشا للنبي المعصوم فعل ذاك وما هو إلا محض افتراض-.يقول الملك الحق :” وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ”.( المائدة – ١١٦).

فمن وصايا الله تعالى لنبيه عيسى ( ع ) :” يا عيسى أنا ربك ورب أبائك، اسمي واحد وأنا الأحد المتفرد بخلق كل شيء وكل شيء من صنعي وكل خلقي إلي راجعون. يا عيسى أنت المسيح بأمري وأنت تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني وأنت تحيي الموتى بكلامي فكن إلي راغبًا ومني راهباً، فإنك لن تجد مني ملجأ إلا إلي “. فخيار النبي عيسى كغيره من رجال الله العظام الرحمة ، وكذا خيار رفقائه الأبرار الذين يحلو لهم التتلمذ على يديه والتخلق بتعاليمه وأخلاقياته، والتحلي بمواعظه والتمسك بوصاياه من غير ضغط ممارس عليهم ولا إكراه ولا إجبار، وإنما الخيار البوابة الوحيدة والسليمة التي يرتضيها الله لعباده الصلحاء منهم والطلحاء ، وهي ذاتها التي يرتضيها لذاته كل ذي لب وقلب سليم سباقة نفسه إلى التقرب لله زلفى ،يقول المولى :” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ “. ( البقرة -٢٥٦)، وقال سبحانه وتعالى :” فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصيْطِرٍ “.( الغاشية-٢١-٢٢) .

فساح وساح ( ع ) طويلاً بين القرى والضياع شارحاً القيم الإلهية ناثراً بذور الخير في أرجاء الأرض المقدسة ،فهو ناثرها وهو زارعها وهو ساقيها وهو القيم على حفظها ورعايتها وحضانتها،فبالكلمة الطيبة والتحريض عليها وعلى العمل الصالح والتوازن والتباين بالخلق والقيم والتباسط والثبات على الصراط المستقيم ، قد ساق إلى بني إسرائيل تعاليم السماء وحياة سلام ووئام وإخوة مُحِبَة في الله ومناصرة للحق ومعاداة للباطل، وبدأ بنفسه فكان خير قدوة لقوم يعقلون، { قيل : لكل شيء مطية ومطية المرء العقل ، ولكل قوم راع وراعي العابدين العقل ، ولكل تاجر بضاعة ، وبضاعة المجتهدين العقل ، ولكل خراب عمارة وعمارة الآخرة العقل ، والعاقل من وحد الله … }،ومن وصايا الله تعالى لعيسى ( ع )ولغيره من المؤمنون :” يا عيسى ليكن لسانك في السر والعلانية واحداً وكذلك فليكن قلبك وبصرك ، واطو قلبك ولسانك عن المحارم ، وغض طرفك عما لا خير فيه فكم ناظر نظرة زرعت في قلبه شهوة ، ووردت به موارد الهكلة ! يا عيسى كن رحيماً مترحماً وكن للعباد كما تشاء أن يكون العباد لك ، وأكثر ذكر الموت ومفارقة الأهلين. ولا تله فإن اللهو يفسد صاحبه ، ولا تغفل فإن الغافل مني بعيد ، واذكرني بالصالحات حتى اذكرك”. ( من مواعظ الأنبياء )،.

   وروي عن إمامنا الرضا عليه السلام أنه قال لابن السكيت : العقل ، يُعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه ، وقيل : الدين هو العقل ، ومن لا دين له لا عقل له . ( ميزان الحكمة -ج٦-ص ٤١٩)

وما نبي المحبة ابن مريم العذراء ( ع ) إلا مثلاً حياً لتعاليم السماء بحسن المعاملة واللطف في الدعوة ومهادنة سامية ودعوة لمحبة الآخر من خلال محبة الله جل علاه ، ورغم مراوغة بني إسرائيل وتضافر جهود الأحبار وكهنة المعبد بعد استنفارهم لحماية مصالحهم الشخصية والكهنوتية السلطوية ! ومصاب الأحمر الرنان من طارئ يتهددها عبر قَيمٍ يدعي تقشفاً وزهداً، ويطالب الكهنة والأخبار التواضع والتباسط والخوف من الله فلا يستبدوا ولا يستخفوا ولا يستنزفوا حقوق الناس فيلزموهم فوق طاقاتهم باسم الرب المعبود !

ووقعت الطامه وخططت القاسية قلوبهم من الأحبار قتل عيسى (ع ) بعد عروض مكافأت سخية سالت لها لعاب من لا يؤمن بالآخرة ولا يراقب الله في نفسه، كل ذاك لمن يأتيهم بخبر عن “الإرهابي” الذي خطط لمشروع هدم معبدهم الزائف فوق رؤوس الجُشَعِ والمتأمرين على الدين وأهله ، ومحاولتهم المستميتة قتل النبي ،وأياً كانت النهاية!! فما منعهم عن قتله إلا إرادة الرحمن ولكن رغم أحقادهم على النبي ودينه وعلى أتباعه ما رفع النبي يداً ولا خنجراً ولا دعا قومه لمحاربتهم العين بالعين والسن بالسن ،ولكن أسس لمبدأ العفو والتسامح والرحمة ،فالطريق إلى الله يبدأ وينتهي بنور وضياء يشرق على الآخرين فتنير على أثرهاالآفاق، فتزهو الدنيا ببشائر الله وآلائه محبة وتسامحاً ووئاماًوعدالة وعزاً وسلاماً على خلاف طرائق الجبت والطاغوت من أدناها إلى أقصاها موت ودماء مسفوكة وخراب ودمار !

فأين أولئك المدعين زيفاً كهنة المعبد وخزان الدين من تعاليم المسيح ؟! وأين هم من الأخلاق إلهية ؟!وأين هم من سياسات السماء لا فرض ولا إكراه ، ولا سفك دماء نقية برئية كل ذنبها أنها وجدت في طريق الصعاليك وقطاع الطريق وسدنة الدين الجديد السقيم ؟!فهل حقاً هم طلاب الحق وسدنته والقائمون عليه ؟! وهل حقاً اتبعوا منهاج الله في الدعوة إلى الله كما يحلو لهم توصيفه؟ وهل أحداث فواجع أصابت الأمة على أيديهم ،فقتل فيها الرضع ويتم فيها الصغار ،وشاب فيها الأطفال، وهرم فيها الشباب، ومات مفجوعاً صعقاً الشيوخ ،واستبيحت أعراض الشباب ذكران وإناثاً، والأدهى والأفجع من ذلك سوقت كل جرائمهم تحت مظلة الدين والإله ! فهل يعرف الحق إلا برجاله ؟!يقول تعالى :”

وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ”.( الأعراف-٢٨ ).

فهل بلغهم أم ارتعددت فرائصهم لقوله تعالى :” قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ”.(الأنعام -٩ )،قال تعالى :” أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ “( الزخرف -٤٠)

ومن قول النبي عيسى ( ع ) ننتهي وتنتهون بمعرفة رجال الحق وطلابه ، ورجال الزيف والتيه والباطل وخدامه ، إنه( ع) يقول :” ويلكم عبيد الدنيا لا كحكماء تعقلون ، ولا كحلماء تفقهون ، ولا كعلماء تعلمون ، ولا كعبيد أتقياء ، ولا كأحرار كرام ، توشك الدنيا أن تقتلعكم من أصولكم فتقلبكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم ، ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ويدفعكم العلم من خلفكم حتى يسلمكم إلى الملك الديان عراة فرادى فيجزيكم بسوء أعمالكم .

ويلكم يا عبيد الدنيا أليس بالعلم أعطيتم السلطان على جميع الخلائق فنبذتموه فلم تعملوا به ، وأقبلتم على الدنيا فبها تحكمون،ولها تمهدون ، وإياها تؤثرون وتعمرون فحتى متى أنتم للدنيا ليس لله فيكم نصيب” ؟

           – للحديث بقية –

الكاتب ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

مواضيع متعلقة