يعرف الرجال بالحق – الجزء التاسع

img

كلما بلغت الأمور ذروتها وكلما أشعل الكفرة الجبابرة نار الحرب أطفأها الله بنور الحكمة وجواهر المنطق وراية سلام ونفائس حب وغاشية من طمأنينة ومصالحة وتوافق مبثوث للأمم عبر بوابات رحمانية، وحراس دعوة قلوبهم ملائكية وأدواتهم رحمانية وقيمهم ربانية ،وغاياتهم تطبيقات سامية لكوكبة من نواميس الله رافعة الإنسانية فوق الملائكية مراتب لا تعد ولا تحصى ، تتقلب في رضوان الله تعالى في الدنيا والآخرة، وغاية أخرى هي وليدة من رحم تلكمو التطبيقات ، وهي النصر على عدو الله وعدو بني آدم برفع راية لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وبالعبودية له وحده لا للجبت والطاغوت ،وعلامات تراكمية تتابعية لذاك النصر المؤازر، منها السجود لا يكون إلا لله وحده ،والتذلل لا ينبغي إلا له، ولا تخشع القلوب إلا له وحده دون سواه ،ولا تشعر الأفئدة بلذيذ المناجاة إلا مع الظاهر الباطن البعيد القريب ،ولا تتسابق الأرواح طيعة طائعة ملبية غير جامحة ولا مكبلة بحور الشوق إلا للحبيب الباقي الدائم، ومحال أن تنهزم قرائنها من جباه خاشعة وعيون ساهدة معاينة رضا الرحمن، وتتجافى أجسادها عن مراقدها قد سلب الحب الإلهي منها مواضع راحتها فصيرت الفراش ساحة تبث من خلالهاأعذب التسبيحات والتهليلات والتكبيرات ،

وتوصل الليل بالنهار بحثاً عن وسيلة يرضاها الرحمن الرحيم تكون عَبَارة إلى مرتبة زلفى في ملكوت المليك الأعظم ،ولا يكون لها ذاك إلا من بعد تفكر وتعقل في مكنونات دعوات مبعوثي السماء وعدالتها، ودحر جيوش الشيطان وفكره الظلامي الظالم، ومن بعد مواجهات مريرة بين العقل والقلم والنور والضياء والحكمة والعفة ،وبين حبائل ومكائد ومصائد وخبائث الشيطان ، ونوازع إغوائية، وملذات استحضرها الجبت والطاغوت وهيجها في صدور الناس، ومفاسد وأرجاس إنغمس فيها الشيطان وأولياؤه، ودعا الآخرين لاقتناص الفرصة الحرام واللذة الحرام ، والإنضمام لهم في بحور الرذيلة والكفر والإلحاد ، وأرواح مزهوقة جبراً، ونفوس موءودة ،وأموال مغصوبة، وديار بلاقع، وبيوت ومساجد لله خاوية من الإيمان إن لم تمتد يد قاهرة غاشية فتحيلها ركاماً!وللغاية الأخيرة صولات وجولات وهزائم متلاحقة لعدو الله وأتباعه من شياطين الإنس والجان “لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا “.( الأنفال-٤٤)

هكذا كان الحال في زمن كل نبي ،وما تبدل وما تغير شيء في زمن النبي موسى ( ع ) ،يقول عز من قائل :” سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا”.( الفتح-٢٣)،كليم الله الذي عاصر قلوباً قاسية متمردة لا تقبل للحق مستقراً ومترعاً ،صُمت أذانها عن سماع نداء الإستواء والإستقامة وزاغت أبصارها عن تجليات الحقيقة !!وتجاذبت الشياطين أذيال أثواب أطماعها و ضعفهاوحرصها على الحياة الدنيا، فصيرتها تتأرجح بين كفتي التردد جنة أم نار؟! فكلما جنحت طائفة للإيمان تسربت بعد حين مجاميع منها كالزئبق من حلقات الإيمان منتكسة مرتدة إلى مصائد الشيطان ! يقول الحق :” وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ “.( يوسف-١٠٣).

غير أن الله سبحانه يعلم أين يضع رسالاته ، فهذا النبي المؤتمن على رسالة التصحيح الموجهة إلى بني إسرائيل والمدعي الربوبية فرعون -عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين -، ما وهن وما استكان وهو يجاهد القوم رافعاً الحكمة والمنطق شعاراً ودثاراً ، والحلم والصبر واقية وعزاء ، والإبتسامة والمواساة سلاحاً فعالاً وجابراً لألام المستضعفين المضطهدين ، ومتأزراً أيات الله وبيناته صُرُوداً (الصَّرْدُ : البخْتُ الخالِصُ من كل شيءٍ )ومصيراً، ولنتتبع بعض من خطى نبي الله موسى ( ع )في قومه :

– قال تعالى :” اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (طه -٢٤) وقال أيضاً:” اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ، فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى، فَكَذَّبَ وَعَصَى، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنَادَى ، فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (النازعات من -١٧-حتى -٢٤)،.

لفرعون الطاغية زاويتان لابد من الحديث عنها حتى نتفهم حجم وثقل تعب نبي الله موسى ( ع )، فرعون الإله المسخ ! وفرعون الطاغية الجبار!! وعلل فرعون الطافية على السطح تكفي عبرة لمن يعتبر فهذا الشقي عانى من طغيانه وتسلطه بني إسرائيل أحفاد يعقوب النبي وأولاده ( ع ) ، فكيف كان ذاك ؟! فمن خلال عروجنا على دعواه الساقطة ،والتي ادعى فيها الربوبية وأجبر خلق الله باتخاذه رباً بالجور والضيم، وإخضاع الرقاب له دون رحمة ولا هوادة ، قال تعالى : وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ “.( البقرة -٤٩).

فجرائم فرعون متعددة لا تقتصر على إدعائه الألوهية وإنما صب جام حقده على بني إسرائيل فمزقهم شيعاً وبطوناً تصارع بعضها بعضاً، وتتنازع فيما بينها وتحقد إحداها على الأخرى، وتتلهى فيما بينها بأضغان وأحقاد وبتلك المخطط الخبيث تمكن فرعون من إحكام السيطرة عليهم وعلى مقدراتهم ، وتجلت وحشية وإنحطاط مؤامرته في نواياه الشيطانية الواضحة في إبادة نسل بني إسرائيل واجتثاث جذورهم من الأرض عبر ذبح الرجال كالخراف! وقتل مواليدهم الذكور دون الإناث ، ولا يخلو الأمر من دسيسة دبرت بليل ! للنساء من بني إسرائيل ، فالإبقاء على المواليد الإناث لا يعدو كونه وسيلة لإستعبادهن سخرة ومحضيات، ويا له من فكر شيطاني لا يرحم تقتل فيه المواليد الذكور وتسترق الإناث !! وبث الرعب والخوف من سطواته وجلاديه في كل زاوية من ديار بني إسرائيل ! وتم المخطط لفرعون كما يحب و يشتهي فقد وضع عصب الحياة لبقائه وهيمنته على مصر وكنوزها وعلى البشر قبل الحجر ،وتربع على كرسيه مطمئناً، طالما القوم في دوامة هم وغم نتاج حياة لاعزة ولا كرامة فيها! ولا مطالب ولا نصير يسترد حياتهم وحقوقهم من متسلط لا يرحم وجاحد لا يشكر! والشكر مردود إلى مكائد الإله المزعوم وحبائله التي أضنت القوم وهدتهم !!! وما كان لهم الخيار من أمرهم فإما العبودية لفرعون مرغمين ،وإما الجحيم عذاباً وهوناً ! جحيم الطاغية ونديمه هارون وعسسه ،المفسدون في الأرض ، ألم يقل الله تعالى :” إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ “.( القصص -٤)، كما قال سبحانه :”وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (الأعراف -١٤١كما قال ).

في خضم ظروف جائرة مخيفة جاء رسول الله وكليمه ( ع) بالبشارة والهدى والنور والخلاص لبني إسرائيل ، ولقوم فرعون، ولفرعون الطاغية إن استحب الهدى واتبع سبيل الرحمن واعتبر بمعاجز الله وآياته ولكن !! يحدثنا القرآن الكريم عن رحلة موسى ( ع) إلى فرعون:”وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ” ( الأعراف -١٠٤-١٠٥)، ولكن كان جباراً عصياً ، فاستعرض عضلاته مختالاً ،وأوهامه تخادعه !وتيجانه تتلألأ فوق رأسه والنيل وأرض مصر تغذي تمرده وجحوده ،وهامان وجنوده من أتباع الجبت والطاغوت يبثون فيه فكراً حنضلاً ! فقد قال النور :” وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ ، فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ “.( الزخرف -من -٥١- حتى -٥٣)، كما يقول الحق :” قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ، قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ،يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ”.( الأعراف -من -١٠٩-إلى -١١٢)، فدعا السحرة إلى يوم منازلة وتحدي يتبين فيه عظمة فرعون وسحرته ويُضحض فيه فرى موسى وربه ( استغفر الله رب وأتوب اليه) ،فجاءت السحرة مزهوة متبخترة بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون وإنا وإلهنا فرعون لمنتصرون ! وبذل لهم الزنديق العطايا وسيل من الوعود تسيل لها لعابهم ولعاب شياطينهم وترفعهم زلفى للمليك المعبود!!! وإذ يصور الفرقان إتفاقهم المهترئ فيقول :” ” وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ،قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ “.( الأعراف -من -١١٣- حتى ١١٥)

ورغم تعالي فرعون وجرأته الفجة على الله وعلى رسوله ، وتحدي الطاغية السافر ونكرانه الآيات البينات وخاصة الآية الكبرى،قال تعالى:” فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَىٰ ( النازعات-٢٩،)، وتنازل الآيات الإلهية على القوم متتاليات وفي كل ابتلاء كان القوم وبالذات فرعون يستصرخون نجدة من نبي الله موسى( ع ) ليدعو ربه متوسلاً رفع العذاب عنهم فإنهم مصبحين مؤمنين بإذن الله تعالى، فقد تيقنت الأفئدة من معاجز الله وما لهم من محيص ! حتى إذا ما رفعت الأية لورود العبرة محلها ارتدوا على أعقابهم كافرين ! يقول الحق :” فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ، وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ “.(الأعراف-من -١٣٣-حتى-١٣٥) ، ورغم ذاك الحجم الهائل من الجحود والنكران والكفر بآلاء الله وآياته ما اختلفت مفردات النبي ( ع) في معالجة الصعاب ومواجهة القوم ولا حاد عن منهج السلم والكلمة الطيبة رسالةً ، وما أمسى نبي الله شاهراً سيفه معلناً الحرب على العصاة المردة،ولا واجه الإستكبار الفرعوني وأزلامه بعصاه محولاً إياها أفعى تلتهمهم واحداً تلو الآخر، ولا جابههم بأسواط وكرابيح تتلاعب بين يديه انتقاماً ومهيجة ظهور جاحدي آلاء الله ونعمه ، وما سَمَرَهم بأوتاد تمزق أحشاءهم كسوابق ذاك الجبار فرعون وجرائمه ،وما سولت له نفسه – وحاشا النبي (ع )وهو المعصوم من فرية كتلك التي نحن بصددها- التعدي على حدود الله بتحليل المحرمات كالزنا واللواط وشرب المسكرات تحت أياً من الذرائع الواهية كأن تندرج إقامة شرائع وحدود الله في دائرة المؤمنين من أتباع النبي !أما غيرهم من خارج تلك الدائرة فلا يُحفظون بحدود لله ونواميسه ، وما هم إلا كالأنعام لا كرامة لهم ولا حق يذكر! فجائز بل مطلوب ذبحهم ونحرهم والخوض واللعب بأعراضهم وامتلاكهم وما يملكون بضاعة مزجاة !!!

وعلى النقيض من ذاك كان مبعوث السماء ( ع )أهلاً للتحدي المنشود، فكانت يمناه قابضة على شرائع الله وقيمه وأخلاقياته وفي يسراه الحلم والعلم ويرسم على شفاهه البسمة بلسماً، ودعواه لنفسه وللمؤمنين المستضعفين بالصبر والتصابر، وبكلاٍ من عصاه المعجزة الإلهية وإسلوبه الحكيم ذاك، حول خدعهم إلى حجة عليهم ،إذ ابتلعت عصاه أكاذيبهم وصيرتها مادة لخنوعهم ،ودلالة على زيف دعواهم وهزالة حججهم ، وما فتىء يسعى مناصحاً داعياً للإيمان بالله الواحد الأحد، وحقيق على السحرة بعد معاينتهم معاجز الحق الدخول في دين الله أول القوم ،ودون حاجة لإذن مستعبدهم ومن اعتبروه لحقبة من الزمن إلههم، ومن ثم يتبعهم الناس أفواجاً مؤمنين مسلمين لله الأمر من قبل ومن بعد ، إيمان لا رجعة فيه مستهينين بالعذاب المرتقب محتسبين ذاك طاعة وكفارة عما جنت أيديهم آثاماً شريكية مخجلة من قبل ،طاعة وقربة إلى الله تعالى:”فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (طه-٧٠)،فإذا بلغ الأمر إلى التقطيع والتصليب فهي شهادة في سبيل الله تعالى،يقول المولى :” قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ،قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ،قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ،لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ،قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ،وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ “. ( سورة الأعراف – من ١١٦- إلى ١٢٦).

حتى إذا ما استيأس النبي موسى ( ع ) من إيمان فرعون وملائه أمره الله تعالى والمؤمنين من بني إسرائيل بهجر مصر إلى أرض الله الواسعة ، ومن أجل مساعدتهم وتسهيل هجرتهم شق موسى بعصاه البحر فجاوزوا الى الضفة الأخرى ،غير أن الظالم المستبد لم يطب له الأمر فتبعهم وجنوده ،

فأغرقهم الله في اليم ما عدا فرعون الذي نُبذ على الشاطئ غير مأسوف عليه ،وليكن عبرة لمن يعتبر ، قال تعالى :”آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ”.( يونس -٩١-٩٢).

فكان ذاك عقاب إلهي لا عقاب النبي ، يُعاقب المردة العصاة بيد الله لا بيد الإنسان أياً كان مقام ذاك الإنسان أو منزلته عند ربه ، فالدعوة إلى الله تطل دائماً عبر بوابة الرحمة والحكمة والسلام ،يقول الحكيم العليم :” ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”. ( النحل -١٢٥) .

جاءالنبي موسى ( ع ) يحمل الحرية والعتق من براثن طاغية موغل في استبداده ،ومبحر في وهمه المزعوم الربوبي ،ونجاة من سحرة وأرباب وحراس معابد زائفة ،كماجاء يحمل حلم الخير لبني إسرائيل وسعادة منقطعة النظير تحت مظلة العبودية لله الواحد الأحد، وعقد مصالحة ومبايعة من القوي المتين إلى عباده الفقراء الضعفاء، وعقد عفو ومغفرة من العفو الغفور إلى الخطائين التوابين،يقول اللطيف الحليم :”وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ “.(الشورى-٢٥) ، ويقول أيضاً :”وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى “(طه-٨٢) ، ولكن الكثير من رهط موسى تمردوا على الإيمان وعلى طاعة الرحمن العديد من المرات، وفسقوا ومجنوا، وما ارتدعوا رغم خطاياهم الفجة المريرة التي فقد الزمان متعة إحصائها وعدها !!ورغم الكرم الإلهي الذي منحهم العفو والمغفرة مراراً وتكراراً إلا أن العمى استفحل بينهم والصمم استشرى فيهم فأضلهم عن السبيل، فعبدوا العجل وقست قلوبهم إلى درجة الوقاحة فتطاولوا على الرحمن فوصموه بالضعف والعجز والفقر ، يقول تعالى: ” وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ “.( المائدة -٦٤)، كما قال سبحانه :” لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ”.( آل عمران -١٨١)،وما دعواهم على أن الجنة لليهود أو النصارى فقط إلا محض هراء متسق مع فريتهم بأن النار لن تمسهم مطلقاً وإن حدث ومستهم فلأيام معدودات، يقول مالك يوم الدين :” وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ۚ قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ ۖ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ “.(البقرة -٨٠)، لكن إن دل على شيء فإنما يدل على فرياتهم اللامنطقية وشططهم اللامتناهي ، وتصنيفاتهم للبشرية من علياء غلوائهم ونظراتهم الفوقية لأنفسهم والدونية لغيرهم ، يقول المولى :” وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى”.(البقرة -١١١ )،والطامة العظمى جرأتهم الفظة المفرطة على الحضرة الإلهية باشتراط رؤية الله جهرة – تعالى الله عما يشركون – مقابل الإيمان به والتسليم له !! يقول الحليم العليم :”وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ “.( البقرة -٥٥)، ومع هذا شملتهم رحمة الله تعالى بالعفو والمغفرة ولكن غلظة قلوبهم لا حدود لها !!قال تعالى :” فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ”،( المائدة -١٣)، وقال الحق :ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ”.( البقرة -٧٤).

وما فتئ الله يغشاهم بطائفة من لطائفه رحمةً ورأفةً وعفواً وغفراناً ، حتى أذن لهم بدخول المدينة المقدسة شريطة ولوجها بخشوع وخنوع لله تائبين ومتطهرين غير أن رعونتهم طفت على السطح لتتخايل وتزين لهم منازلهم من الله، وتخيل لهم انقلاب الصورة فتكون لهم فيها اليد العليا دون الله تعالى ونبيه ( ع ) (استغفر الله رب وأتوب إليه ) فيصدرون الأمر إلى النبي وربه بإخلائهما المدينة من قاطنيها الجبابرة بنفسيهما أولاً، ثم لكل حادثة حديث !! يقول القادر المقتدر :” وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ ، يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ،قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ”.( المائدة -من -٢٠ -إلى -٢٤)، فكتب الله عليهم التيه عقاباً من العلي الأعلى الذي بيده ملكوت كل شيء وإلى الله عاقبة الأمور، قال تعالى :”قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ”.( المائدة -٢٦).

فهل عدنا إلى الخطوة الأولى لنسأل وإياكم من جديد لم أعطى السدنة الجدد أنفسهم حق محاسبة الخلق وتكفيرهم وسحلهم في الشوارع وهدم مدنهم وقراهم والتنكيل بهم ، والفجور بالنساء والصبيان والرجال على حد سواء، وبيع العذارى في سوق النخاسة ؟!! وإقامة محاكم شرعية للقصاص من الطوائف الأخرى؟!!! لاعتبارات وموازين هم واضعوها ما أنزل الله بها من سلطان، وما لهم من حجة على إدعاءاتهم وأباطيلهم، غير كلام سوقي باطل باهت غير منمق لا يعقله غير المفسدين !! مخالف كل المعايير الإلهية ضارباً عرض الحائط كل القيم والأصول التي رعتها واحتضنتها السماء، واضعة موازين الشياطين نصب أعينهم ، فكيف عميت عليهم ؟!وإن لم يكن الحق طريقهم، فأي طريق إذاً هم سالكوه ؟! يقول السميع العليم:”فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”.( الأنعام -١٤٤).

                 للحديث تتمة

الكاتب ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

مواضيع متعلقة