يعرف الرجال بالحق – الجزء الثامن

img

نبي الله إبراهيم (ع) غني عن التعريف ، فمن لا يعرف الأمة إبراهيم الخليل (ع )؟!يصدح الفرقان العظيم بنور وعظمة الخليل (ع)فيقول:” إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ “( النحل-١٢٠) ، ومن لا يعرف من ارتقى سلالم المجد والتزكية قفزات ناطحات حملته إلى أعلى عليين في مراقي خاصة الله من الأنبياء الصفوة (ع)؟!وما كان سنا النبي (ع) والهالة القدسية المحيطة به نزعة عنصرية ومحابة إلهية لعنصر من عباده غير مفهومة !!ولا هي مكرمة إلهية تفتقر إلى العلل والأسباب!!وإنما مكتسب لهذا العظيم جراء مواجهته أعور زمانه ذاك المدعو نمرود المدعي زيفاً وبهتاناً رب العالمين ، ولأكثر من أعور ممن لهم صلات أرحام بأبي الأنبياء(ع )،أو ممن هم من محيطه أو رهطه ، وعقبات كؤود واجهها الخليل بيقينه بربه رب السموات والأرض وما بينهما الكبير المتعال ، وبالحلم والعقل،وصبر جَلُود،وخلق خلوق، وتباسط معللٍ ،وحكمة متدحرجة في مستوياتها حارسة محتويةً المخاطبين من خَطْب ورزيا ودواهي الخوف والحرص والتردد ومصير مجهول ومغتصب للحياة،وجلاد لا يرحم ،وسلاب للمال والولد ، ومستعبد للرجال والنساء والولدان ، وآلهة صماء لا تضر ولا تنفع، وآلهة من كواكب ومخلوقات مجبورة أن تعبد !!

ولكن لنعد أدراجناإلى بدايات نبي الله إبراهيم ( ع) الذي ساق لناأمثلة حججاً متكاملة دامغة غير قابلة للدحض أو التشويه في العدالة الربانية وممثلية السماء التي تفتح أبوابها مشرعة لا توصد، مرحبة لا تطرد ، مخيرة لا تفرض، موصلة لا تبتر، صائنة لا مؤذية ولا متخلية،معطاء لا تحرم، رافعة غير خافضة،مزكية لا مُحِطَة،مُكَرِمة لا مذلة .فقد قال علام الغيوب :” سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ”.( فصلت٥٣)

ولنا ثلاث شرائح مجتمعية تعامل معها نبي الله إبراهيم (ع )بصبر جلد، وبخطوات حكيمة طيعة صريحة سلط فيها الضوء على مثالب الخنوع لآلهة صماء بكماء، ندلل فيها على عمق وثبات الحق،ومعانقته للسلم،وامتناعه كلياً لانتفاء الحاجة عن السطوة والقهر، وعن سيوف مستلة للتنكيل والتمثيل ، فالحق مبراس لا سيوف مشهورة ،والحق عبودية كرامة ونور

وعز ،لا عبودية ذل وامتهان ولا عبودية صماء ظلماء لا قبس فيها،والحق رفيق العقلاء ودرب النبلاء ،وغاية الحلماء، وجليس الحكماء ،ولقد ورد في الذكر الحكيم :”إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ( فاطر-٢٨)، وقال اللطيف الخبير “وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ “.( لقمان -١٣)، وقال الإمام علي أبن أبي طالب عليه السلام :”العلم خير من المال،لأن المال يحرسه والعلم يحرسك،والمال تفنيه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، مات خازنو المال وهم أحياء،والعلماء باقون ما بقي الدهر،أعبائهم مفقودة و آثارهم في القلب موجودة”.

الحق يحتاج إلى العلم والقلم لا للجهل والدم ، والحق يحتضن نفوساً سوية لا نفوساً مضلة أو مصرة على الضلالة، ومن لا ينضم إلى طريق الحق ونوره وقوافل المؤمنين والمؤمنات طواعية ،فلا حاجة له مكرهاً،ولا حاجة له وخلجات قلبه تضطرب رفضاً، ودون مواربة لا حاجة ترجى منه وهو مضرج بدمائه ،ولا يؤمل منه خيراً وهو معبأ بنوازع شيطانية وأحقاد وترسبات وثنية ، وعليه فسلوك طرائق العقل ودروب السلام والكلمة الطيبة دعوات تجني ثمارها وإن طال السنين، ولنتأمل ملياً تلك الأساليب العقلائية :

-يُصدم نبي الله بأناس هانت عليهم كراماتهم وإنسانيتهم، فامتهنوا صناعة وتجارة كارثية في فحواها، فبضاعتهم التي يصنعوهابأيديهم مجسمات وتماثيل يبيعونها في الأسواق لتكون آلهتهم الصنمية التي ذُلت لها جباههم وكراماتهم !! وكان من ضمن هؤلاء أبيه آزر وإخوته الذين يقتاتون من بيع تلكمو الضلالة !! وأُريد لإبراهيم الإنضمام لقافلة الدجالين الذين يبيعون النور بالظلام !غير أن إبراهيم (ع) الحنفي لم يترفع عن ذاك فحسب ولكن وجدها فرصة لا تفوت لتبيان طبيعة البضاعة المزجاة ، بضاعة ليست بالخسيسة من صنع البشر فقط ،وإنما ألعوبة شيطانية مكشوفة !! ولا يجوز بل لا يعقل أن تُقَلَدَ سفهاً مقام الرب المعبود حتى وإن طُيْعَت ضمائر ميتة لأوامر الجبت والطاغوت وانحطت مدارك غائبة ،وبِيعتْ الآخرة بزخرف الأولى، وزاغت الأبصار بوعود سرابية لن تُجنى أبداً!-” ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ”. (الحج -٧٣)

ألم يقل الله تعالى على لسان إبراهيم الخليل ( ع):” إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ،قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ،قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ،أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ “( الشعراء -من ٧٠ -إلى -٧٣)، وقال أيضاً :” إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا”.( مريم -٤٢)، فسمة البيان الإبراهيمي السمح قائم على مناداة العقول للتحاور الإيجابي،والتساؤل عن مبررات عبادة لا جدوى منها بل مضارها سقيمة مريرة، ولم يلجأ المنطق الإبراهيمي إلى فرض سياسة الأمر الواقع بالقوة والإكراه ، رغم تصدي أقرب الناس رحماً لحكمة إبراهيم الخليل ( ع ) إذ انتهره أبوه ،وتوعده بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم ينتكس متراجعاً عن إهانة عصب حياتهم الدينية البهيمية الصنمية، وحذره من غضب آلهة القوم حال استمراره في السلوك المشين المريب- وذاك كله من زاوية نظر الأب الأعمى البصر والبصيرة – ،قال تعالى:” وَمَنْ كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا “.(الإسراء-٧٢)

يقول الحق :” مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ”.( هود-٢٤)، ومما لا يعقل بل لا يصدق أن يُخْتَصَ ذاك الأب آزر بدعوة خاصة من نبي حكيم حليم كإبراهيم ( ع ) فينعق رافضاً متغافلاً ونابذاً دعوة نجاة له ولعشيرته! رغم روحانية العرض وشفافية الغايات ومبررات الدعوة الخاصة، يقول الولى عز وجل :” يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا، يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا، قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا”.(مريم -من ٤٣-إلى -٤٦). ثم يجرؤ أن ينبري متوعداً من الدعوة العامة ،فلا يحق لأحد هز أركان دولة الغي والضلالة ،وإن كان ذاك الفارس حكيم زمانه ،وطبيب العقول والأفئدة الرباني ابنه إبراهيم ( ع )، ورغم التهديد والوعيد الذي جوبه به إبراهيم الخليل ( ع ) إلا أنه قابلها برياحين ونسائم وعد بالدعاء لأبية بالعفو والمغفرة، ولقد قال الله تعالى :” قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا “.( مريم -٤٧)   .

ولكن ،السؤال الذي يفرض نفسه : ما نصيب دعوة أبي الأنبياء( ع ) من السهام والسيوف والدماء والمغانم والمرام من مسكرات زهرة الحياة الدنيا الحرام منها قبل الحلال لإرساء المنطق الرباني ؟!ولم لم نرى نصل سكاكين إبراهيم ( ع ) تحز روؤس الكفرة كالخراف معاقبة تجبرهم ورفضهم اليد الرحمانية الممدودة لهم ؟! ولِم لم تضحى البيوت ركاماً على رؤوس قاطنيها ؟! ولم لم تساق النساء جوارٍ لخدمة إبراهيم الجبار المنتقم امتهاناً لرجال الكفر والإلحاد ؟!! فهل يجيب فطاحل العصر الدموي الحديث متزعمي نصرة دين الله بالنار والحديد وبوسائل ما أنزل الله بها من سلطان ؟!!

-وحوار مصطنع يتجاذب فيه النبي ( ع )في ظاهره رسالة عقلانية إلى عقله ووجدانه عن النجوم والأفلاك عاقداً آماله في حقيقة الأمر إلى مساعدة القوم في تحديد هوية الإله الحق المعبود، ومعرٍ زيف توجهات تنصيب شموس وكواكب أرباباً من دون الله! لعل الحاضر المشاهد يحظى بعقلية واعية فينتفض على الضلالة والعمى، فتدركه عناية السماء ويتلقف رسالة الرحمة السماوية بكيانه كله والتي مفادها أن الخالق الرب خالق الحياة والموت، وهو حي لا يموت دائم سرمدي، وأن من كينونة المخلوقات وجودها في هذا الكون الرحب مدة محددة وعمر قصير اكتتبها عليها رب القضاء والقدر ،يقول رب الملك والملكوت :” فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى”. (الزمر-٤٢)، كما قال :” أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ “.(النساء-٧٨)، ويقول أيضاً :”كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (الأنبياء-٣٥)، كما يذهب إلى تقرير حقيقة ثابتة لا تتغير وأنها من سنن الله في الخلق أن الأفول من طبائع المخلوقات لا من مقومات الخالق الباقي بعد فناء الأشياء ، يقول مالك الملك :” اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ “.(البقرة-٢٥٥).

لعل حقيقة وضاءة كالشمس في رابعة النهار تشرق على أفئدة فتنعشها وتحييها ثم بعد هذا تنقذها من الهلكة ، ومضامين الحوار التمثيلي وغاياته تتجلى في قول المولى :”وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ،إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ،

وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ، وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ”.( الأنعام – من ٧٥- إلى -٨١)،

هنا أيضاً يطلع علينا الحق مستصرخاً سفه طغمة وقحة تتجرأ فتنسب مقام الألوهية إلى مخلوقات حقيرة -“أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ “.(النمل -٦٣) ، ولابد للهراء من نهاية ولابد للحق أن ينبلج ويعلو ، فالحق أحق أن يعرف طرائقه ويقرها ويعمل على بيانها، ولا يحق لأحد باتباع طرائق الشيطان وينسبها للواحد الأحد بغياً وبهتاناً،يقول الحق سبحانه :” وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ “.(البقرة-٢٣)

هذا ولقد كاد نبي الله إبراهيم لألهة القوم يوم الزينة إذ حاول استثارة عقولهم بتوجيه صدمة مدوية لها عبر تحطيمه لأصنام المعبد ونسبة ذاك الجرم إلى كبير الأصنام !!لعل الحدث يرشح عن تجليات الحقيقة الساطعة، كون تلك الخرقاءالمدعوة آلهة جوفاء صماء بكماء لا تضر ولا تنفع، فكيف لهم إستيعابها ألهة يرتجى منها شيئاً ؟! وما كان لإبراهيم ( ع) أن يكرههم على ترك عبادة الأصنام والسجود للواحد القهار ،ألم يقل الله تعالى :” فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ،لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ”.( الغاشية -٢١-٢٢)، وغاية المنى إعادة الأمور إلى نصابها وعودة العباد إلى محراب الرحمن ،ولهذا فعل فعلته التي استدعت تداعي القوم وتضافر جهودهم- بغياً وعدواناً- لوضع حد للمتآمر على وجود آلهتهم وإنهائها بقذفه ( ع)في النار والتخلص منه نهائياً، وتمت الجريمة وابتلعت النار إبراهيم ( ع )لولا عناية السماء، ولقد ورد في الذكر الحكيم قوله تعالى :”وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ،قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ،قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ،قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ،قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ، وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ،فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ،قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ،قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ،قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ،قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ،فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ،ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ،أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ،قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ،قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ”،( الأنبياء – من ٥١- إلى -٦٩) ، ومع ذاك الحقد كله والإجرام كله ، لم يوجه لأولئك الضآلون المضلون ناراً بنار ! ولا سددت سهام العقاب أو الانتقام نتاج جحودهم ونكرانهم لجميل دعواه ! ولم يحول الأمر بأي حال إلى ساحة حرب يقوم فيها الفاسق، ويقطع فيها رأس الجاحد ويهتك فيها عرض العاقة ، ويعلق فيها قلوب العصاة ،ويروع فيها الأطفال ،وتبقر فيها الحوامل، وتعلق أجنتهن فوق روافع على مرأى الأشهاد عبرة لمن يعتبر !فهل لما سبق من معاليق الحكمة والحلم شيئاً؟! يقول اللطيف الخبير :” قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ “.(الأعراف-٣٣)، فلِم لم يفعل يا مصاصي دماء الأبرياء ؟! وهل يحق لسدنة الدين الجديد مطلق اليد للتسلط والتجبر وفعل ما لا يفعل؟! ولا يحق لمفوضية السماء ومؤمنين تقاة فعل بعض منه؟! وهل حقاً محرابهم الملطخ بأنواع الموبقات شتى ناجع في فرض دين الله على الفجرة المردة-حسب زعمهم- ؟! وهل عرف الحق حقاً بأيد جبارة ملطخة بدماء حمراء قانية بريئة ؟!أم هل هم رجال الله أولئك المترعون غدراً في أعراض النساء المحصنات ؟! وهل السلبة وقطاع الطرق هم علامات بالنجم فهم هداة مهديون ؟! يقول الحكيم العليم :” قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ “.(يونس -٣٥)، حقاً إنها مؤامرة وضيعة تزول منها الجبال !! قال تعالى : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ”.( الصف -٥).

-والخطوة العظمى التي تفوق بها إبراهيم الخليل (ع ) على أعور زمانه   عندما تصدى في دعوته لنمرود الإمبراطور المدعي الألوهية الطاغية المتجبر المتغطرس ، ذاك الأحمق الذي لم ينفع معه النذر الإلهية ، والرؤى التي ساقت إليه البشارة بضياع ملكه على يد مولود مبارك طاهر يولد فيحول مملكته إلى أثر بعد عين ! فتجبر وطغى وأمر بقتل كل مولد ذكر حال مولده في عام شؤم عليه ، ومع ذاك ها هو المولد المرتقب- بعد سنين-هو ذاته النبي المعصوم يحاوره ويناصحه ويثبت له بالدليل القاطع والبرهان الساطع، أنه الطاغية نمرود لا يعدو كونه مخلوق دون المستوى، يقول رب الخلق أجمعين :” إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا”. (الفرقان-٤٤)،بل هو مخلوق ساقط من القيم ،جاحد آيات ربه،وما هو إلا مدع كاذب مهين لا حول ولا قوة له إلا بمولاه وخالقه ، وأن دلائل وقرائن كونه عبداً لا رباً واضحة للعيان لا لبس فيها بإستثناء عصبة منافقة مضلة   ، فكينونة الخالق تتعدى الزمان والمكان والأشياء وهو سبحانه يمتلك من الصفات والقدرات المنعدمة في أي من المخلوقات ،والتي يستحال تطاول نمرود الإدعاء أو الحلم بها ولو سفه نفسه، بل إنها مما لا يدركه ولا يستسيغها عقله ولا قبل له بها، ورغم الحقائق الساطعات حاوره حتى تغلب عليه بالضربة القاضية دون إراقة نقطة دم واحدة نجسة لذاك المدعو الطاغية نمرود، ولا حتى ضربة قاصمة على جبين الإله المسخ ، فلماذا يا ترى لم تستخدم الدروع والمدرعات لقتال القوم وسحقهم والتنكيل بهم من صياصيهم على يد النبي ( ع )؟! ولم الأمر كله بيد الجبار المنتقم رب السموات والأرض؟! يقول المحي المميت :”أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة -٢٥٨).

-ومن دروب السماء بناء بيوت الله في قلوب المؤمنين أولاً بالحكمة والموعظة والكلمة الطيبة ، ثم يتلوها عمار بيوت الله عند كل حجر ومدر قابل للحياة،وها هو النبي الكبير أبو الأنبياء يتقدم بناءً فيرفع وابنه إسماعيل ( ع ) أركان بيت الله الحرام ببكة حجراً حجراً، ويداورها بصلوات وابتهالات إلى الله لتعريفهما والناس بنسكهم وعباداتهم ،قال تعالى :” وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ،وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ”.( البقرة-من ١٢٧-إلى -١٣٠) ، ويختتما هذا العمل التشريفي بتطهير البيت الحرام من الرجس والوثن لكل خاشعة جوانحه لله الواحد الأحد ،يقول المولى:” وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ”.(البقرة -١٢٥).

فإذا كان مقام النبوة قد زكي وشرف ببناء بيوت لله خالصة يردها المؤمنون والمؤمنات، غير أن سدنة محاريب الشياطين المدعين زيفاً ولاءً لله -غير ظاهر للعيان!! -يهدمون صوامع ومساجد ومعابد لله ومراقد الأنبياء(ع) ويفجرون كنائس ويذبحون قاصدي وجه الله أكباشاً !! فهل دعاة التيه والزييف رجال يعرف بهم الحق ؟!غابت وضاعت الحقيقة !!ولكن أين وكيف تاهت الحقيقة عن قوم لا يعقلون ؟!يقول الحق :” أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ “.(الشورى-٢١)

                       للحديث بقية

الكاتب ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

مواضيع متعلقة