يعرف الرجال بالحق – الجزء السابع

img

لا بد لنا من سبر أغوار بعض من الأحداث التي مر بها رجال عظام هم خير من لقب بهداة الناس إلى الله جل جلاله ،والذين هم العلامات الفارقة لمعرفة الحق ودروبه ومتطلباته وطرائق الدعوة إليه ،ألم يقل الله تعالى :” ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ “.( النحل -١٢٥)، وكان الله قاطعاً في توصيفه لأنبيائه إذ قال :” أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ “.( الأعراف -٦٢)، كما قال :”قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ”.( الأعراف -١٤٤)، وقال الحق :” الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا”.( الأحزاب -٣٩)، وقال أيضاً :” أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ”.( الأعراف -٣٩).

وفي سياق بحثنا لنعرج على أولئك المدعين زيفاً سدنة الدين وقُوامه الجدد لنتحقق من فحش ما ذهبوا إليه !! وهول دعواهم وانحطاط فرياتهم وعظيم زيفها!!! لنتلمس وإياكم مرابط الحق من السلوكيات والمحاور التي اتبعها سفراء السماء لإستنهاض البشرية وتصحيح اعوجاجها والعود بها إلى صراط مقومات وجودها، وإلى طريق الحق ، كما ستتضح الرؤيا حول انعدام كل ذاك عند فُؤُم ( جماعات )همجية رعناء تنافق ساداتها، وتفتري على رب السموات والأرض جهاراً مجردة من كل وازع ورادع بزعمها قيادة الدعوة إلى سبيله عبر بوابة مستعرة من أخماصها حتى وراء الحجب   !! يقول الحق :” قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”.( النمل -٦٤).

ولنتأمل بتعمق مسيرة الصبر والحق لنبي من أنبياء أولي العزم ( ع ) في قومه ، يقول الله تعالى :” إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ “. ( العصر -٢-٣)، ويحق الله الحق إذ يقول :”وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ “.( الأنعام -٣٤)،

فهذا النبي الذي ابتلاه ربه بقوم لهم أحلام عقول في أفضل التقادير أما في أدناها فلا عقول لهم، فنبي الله نوح عليه السلام كان كغيره من الأنبياء ذا صبر ملحوظ وأناة ثابتة وحكمة بالغة ومنطق لا يُضحض، هكذا كان ولكن قدر له أن يمضي المئات من السنين في دعوة قومه فما استكان وما عرف للهدوء سبيلاً ،ولقد ذهب القرآن الكريم إلى ذاك فقال :” وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ “.( العنكبوت -١٤)، وكانت دعوته تقتضي كغيرها من دعوات السماء الأخرى قدوة حسنة وحاضنة حضوناً، ووجهاً بشوشاً، وصبراً متواصلاً لا هوادة فيه، وعملاً متفانياً ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، وخدمات إنسانية وأخلاقية ومجتمعاتية متواصلة مجانية لا يروم من ورائها حمداً ولا شكوراً ، يدلل المولى على تلك الحقيقة إذ يقول :” أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ “.( الأنعام -٩٠)، وقال الحق : “اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ “.( يس -٢١)،

في مقابل طاقات نورانية وعطاءات ريحانية طواعية لرجل السماء، حرب إجحادية ضروس لا أناة فيها،حرباً ضد النبي وفكره النوراني ودعوته المقدسة !! حرب ضد مبدأ التوحيد ونفي تعدد الآلهة ، فمن المسلمات التي لا يعيها المارقة الجحدة قوله تعالى :” وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ “.( البقرة -١٦٣)، كما وجه أصابع الإتهام إلى أولئك الذين يؤمنون بتعدد الآلهة الخشبية الصنمية وأمثالها من المخلوقات التي أضحت آلهة لسبب أو آخر إذ يقول :” وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ “.( البقرة -١٦٥)، وقال أيضاً :” وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ “. ( الأنعام -٧٤).

وتلك الحرب المسعورة موجهة ضد أتباع النبي المؤمنين المستضعفين المنعوتين من قبل الجحدة المردة بالأراذل والنكرات، حربهم تلك تجلت غبارها عن قلة عاقلة لبت النداء وخشعت لله الواحد الأحد، كما كشفت عن عواقر كفر وإلحاد وشرك ،وأولئك لبوا نداء الجبت والطاغوت وتناصحوا بالتمسك بآلهة صماء إنها ود ويغوث ويعوق وسواع ونسراً، وجاهروا بالكفر والعصيان ، يقول العلي الأعلى :” فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ”.( هود -٢٧ )، كما تنادوا ألا يستمع أحدهم إلى نداء الحق وإن قدر لأحدهم سماع صُداح الحق فعليه الفرار والنجاة بجلده قبل وقوعه ضحية في مصائد النور، يقول الحق :” قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً “. ( نوح -٥-٦-٧ )، كما قال تعالى :” وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً ، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (نوح -٢٢-٢٣).

ومع كل ذاك كان النبي نوح (ع ) مطالباً بالتسامح والتسلح بالحكمة والموعظة الحسنة وتذكير الناس -بكرة وأصيلاً وبإلحاح دؤوب – بالخالق العظيم وقدراته، وفي المقابل يطمعهم برحمته ورضوانه وينقل لهم صور ناطقة عن وعود إلهية وجوائز فوق مدارك التصور وجنان لم ولن تخطر على قلب بشر، يقول الحق :” وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ”.( آل عمران -١٣٣)، ثم يحذرهم غضب العزيز الحليم وسخطه وسطوته وعقابه ونار وقودها الناس والحجارة أعدت للقاسية قلوبهم، ولا شفاعة لهم وإن ارتقوا في الحياة الدنيا سلالم السلطنة والحظوة وتمرغوا في رغد من العيش وثير وكانوا ذا مال وبنين ، يقول الجبار المنتقم :” إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ، قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ “.( آل عمران -من ١١-إلى -١٢ )، يقول الحبار المنتقم :” مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ “.( النحل -١٠٦)،

وفي المقلب الآخر يحذر داعية الله الناس غضب القادر المقتدر الجبار المنتقم في حال إصرارهم على ما هم عليه من مواقف خاطئة مارقة وفحش بين وظلم للنفس وعواقب وخيمة غير محمودة جراء إصرار على عمىً! يقول الجبار المنتقم :” انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ( يونس -١٠١)، ولقد ذكر القرآن الحكيم :” إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ “.( آل عمران -١٠-١١)، كما قال الحسيب الرقيب :” وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ “.( الأنفال-١٣).

والجدير بالذكر أن رسول السماء يحذرهم انتقام وغضب الملك الجبار لا غضب نبيه ،وانتقام المنتقم لا مبعوثه ،ففي الذكر الحكيم :” اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ”. ( المائدة-٩٨)، وما كان له ولا يحق له بداهة أن يأخذ الناس بالقهر والسطوة ويجبرهم على إتباع الحق بالجبروت واستعراض العضلات، ولا بالسباب والقذاع والشناع، فمن شرائط العقل -الذي جعله الله الواحد الأحد مخلوقه المختار -حق الإختيار وحرية الإختيار ، فالحق بين والباطل بين ، وعلى المرء إعمال العقل في التحليل والتدقيق وإرجاع الآيات والحقائق إلى مصدرها ومنبعها الحق وهو الحق النور الذي “لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ” . ( الشورى -١١).

ولقد مر نبي الله نوح ( ع ) بالكثير من المواقف المزلزلة والتي لم يراعى له مكانة أو حرمة وعلى النقيض من ذاك عاصر مراحل وفترات من جحيم الإستهزاء به شخصياً كتلك التي جعلوه فيها مادة للسخرية حين أقدم على بناء السفينة خضوعاً لأمر الله تعالى ببنائها في موقع الكل يعلم أنه بعيد كل البعد عن البحار أو الأنهار، فرمي بالجنون، وجعل مادة دسمة للسخرية لسنين طوال ، ومع هذا ما كان له إلا الحكمة والصبر جواباً ، قال علام الغيوب :”وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ”.( هود -٣٨)، وقال علام الغيوب :” قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ”.( هود-٢٨).

وما كان لنوح وهو المرسل من ربه أن يقتص من معانديه أو الرافضين لدين الله رغم تعرضه للإهانة بوصمه بالكذب والإفتراء، كما لم يرحم من التصريح أو التلميح بكونه معتوهاً ومجنوناً، وكان نصيبه من الألفاظ النابية من أولئك الجهلة الفسقة الكثير ،كما أن نصيب أتباعه من الضرب المبرح لا يقل عن السباب حجماً !! وما انعدم عبدة ياغوث ويعوق ونسراً وسيلة إلا واستخدموها للإيذاء والإنتقام ممن يريد لهم الخير ويطمعون لجولات من التسفيه والتجريح لدعواه ولشخصه الكريم أيضاً بحركات تنم عن ظلامية غائرة في العمى وصبيانية متشيطنة جهلاء وإلا فبماذا تفسر أفعالهم :” فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا”. ( نوح-٦-٧-)،ثم إذا تغاضينا عن ضلالتهم وجحدهم الإستكباري الأعمى للحظة فإن أعذارهم الواهية الهشة الفظة تنم عن عقلية عنصرية منظورها السيد والعبد نقيضان لا يتحدان ولا يتوافقان وعلى القطع لا يتساويان ، فهاهم رهط نوح ( ع ) يبررون سفههم الرافض للنور والفرقان بإنضمام الطبقات المستضعفة من القوم إلى صفوف المؤمنين فذاك مقام يسيء إلى النخبة من القوم وجريمة لا تغتفر !!مما يرتب عليه رفضهم الدخول فيه لإنعدام الكفاءات التي تتماهى والمقام العالي !! ويذهب الذكر الحكيم إلى التصريح بردات أفعالهم وتصرياتحهم اللئيمة المارقة كمروقهم :”فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ “.( هود -٢٧)،

وأقصى ما استطاع نبي الله نوح أن يواجه به أعداء الله دعاءه عليهم بعد يأسه من إيمانهم وما كان له أن يقتص منهم بسلاحه أو بيديه لتعارض ذاك مع مبدأ حرية الإختيار و حرية المعتقد أولاً ، قال تعالى :” قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ”. ( هود -٢٨) كما قال العلي الأعلى :” وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ”. ( يونس -٩٩)،   “.

ثم الأهم أنه يتعارض مع مبدأ الحساب والعقاب فكلا الأمرين بيد الواحد الأحد، وما كان لأحد أن يتدخل في مسألة شديدة الخصوصية بين العبد وربه، فركائز الإيمان أو الكفر متعلقة جذورهما ببواطن الأمور التي لا يعلمها ولا يزكيها إلا الواحد الأحد ! قال تعالى :” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً”.( النساء -٤٩)،   وقال الظاهر الباطن :” إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (النجم -٣٢)، وقال العلي الأعلى :” وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ “.(هود-٢٥) .

وما كان لأحد الحق الإدعاء بعلم الغيب وقراءة بواطن النفوس والعقول إلا من اختصهم الله بذاك العلم الإلهي الملكوتي، وتلكمو فئة مستثناة، وحلقة ضيقة محصورة في ثلة من مبعوثي السماء ومن رحم ربي، وإليه ذهب سبحانه بقوله :” وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء “.( آل عمران -١٧٩)، كما قال أيضاً :” أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَٰنِ عَهْدًا “.( مريم -٧٨)،وقال سبحانه :” أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ “،( الطور-٤١) ، ولا يحق للعامة من الناس أن يتماروا بإدعاء ذاك العلم والحق فيستعرضون عضلاتهم على أحدهم فيرمونه بالكفر والنفاق،أو أن يقيمون المحاكم الشرعية لإصدار أحكاماً جائرة على الآخرين فتُسلط عليهم أسواطاً من العذاب والآلام ما أنزل الله بها من سلطان وما أذن بها لأحد من قبل، وعلى القطع لم ولن يأذن بها لأحد من العامة !! وحتى مع التسليم أن لأحدهم الحق في إنزال القصاص والعقاب على من لا يرضخ لأمر الله من المعاندين والمارقين فلا يكون ذاك إلا بأمر من الله تعالى صريح جلي:” إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ “.( الأحقاف-٩).

والحق يقول :” وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ “. ( القصص -٥٩)،

حتى إذا ما استوفيت النذر والحجج على قوم نوح وتبين أن لا أمل يرجى منهم وما هم بمؤمنين ، رفع أمره وأمرهم إلى الله العلي الأعلى !”قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا “.( نوح -٥-٦-٧)، استصرخ نوح ( ع ) عدل السماء وانتقام الجبار من زنادقة صم بكم عمي هم عبدة الجبت والطاغوت فقال :” وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا “.(نوح-٢٦)، وما كان الله ليذر الكوافر في غيهم يعمهون إلى يوم يبعثون ، فحل عقاب -الذي يمهل ولا يهمل- عليهم بالطوفان العظيم وبسيل من السماء كان نذير شؤم عليهم فكان ظاهره بَغر( المطر الشديد ) وباطنه العذاب الأليم ! “وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ”.( الأنعام-١١٥).

ومما يثير العجب إن الله يمهل قوم نوح متسع من الوقت يقارب العشرة قرون إلا بضع من العقود، ليتعقلوا ويتفكروا ويتدبروا في كينونة الدعوة السماوية وقيمها وأطروحاتها وغاياتها والغاية من خلق الإنسان ووجوده       في هذا الكون الرحب، مهلة بعد مهلة ومدة بعد مدة ، ويضيق صدور أولئك الدعاة إلى الله زيفاً وخزان الوحي الجدد كما يزعمون -فيقيمون حد الحرابة على كل من يرفض دعواهم المسخ ، ومن عجب العجاب بل المضحك المبكي أن حد الحرابة لديهم متنوع في شراسته مقزز في مثوله مفجع في ألوان التعذيب لديهم !! وسؤال العقلاء موجه لهؤلاء لم أمهل الله قوم نوح كل ذاك الوقت الثمين ليراجعوا قراراتهم! ثم لا يمهل المسلمين فسحة من الوقت ؟!مع ملاحظة أن قوم نوح كفرة مردة ، والمسلمين هم المعتنقين الإسلام والموحدين الله والمقيمين الفرائض وإن إختلفت مذاهبهم ! وإن اعتقد حراس المعبد عدم صوابية منهجهم وحاجتهم إلى تصحيح ما لابد منه !! فهل المسلمون أحق بالطوفان والدمار والتنكيل من كفرة فسقة ؟! وهل المسلمون أجدر بعذاب رادع قاسي بطئ تمشيطه ؟! تلك والله قسمة ضيزى !!

فإن اتفقنا على أن الرجال لا يعرفون إلا من خلال موازين ومعايير الحق ،فهل حقاً أولئك رجال الحق ؟!! وهل استوفوا أياً من شرائط ومتطلبات رجال الحق ؟! سؤال برسم العقلاء !!!!إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (الرعد-١٩).

للحديث بقية

الكاتب ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

مواضيع متعلقة