يعرف الرجال بالحق – الجزء الرابع

img

٢- الصبر والأناة :

للصبر مفاعيل السحر على مجرى التصحيح والإصلاح والتوجيه والتنوير المراد تحقيقه على أيد كريمة كالأنبياء والرسل والأئمة والدعاة إلى الله عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم ،وتسديد الآخرين إلى صراط الله المستقيم مهمة تكاملية يراد لها النجاح الحتمي ، كما وأن تحقيق نقلة نوعية في الفكر الإنساني بتوجيه ملكوتي على يد أولئك العظام ليس بالمهمة التي يستهان بها ، ولا هي بالسلسة الطيعة ، فانتشال البشرية من حياة صنمية جامدة متلاعب بقيمها ، مدلسة النظرة لمعتقداتها ومغبونة في تقاليدها وسلوكها ! ومتلاعب في حقوق الغالبية العظمى منها، ومصادرة حقها في الاختيار أو المطالبة بها وخاصة حق المعتقد !! ألم يقل الحق :”وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ “.( البروج -٨)، وقال مالك الملك :”إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا “.( الكهف -٢٠)، وقال جل شأنه :” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ “.( التوبة -٢٣)، وقال الحكم العدل :” وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ “.( إبراهيم -١٣)، كما أن العامة المستضعفة منها متحكم في مقاليد ومجرى حياتها وخواتيم أعمارها ، مقهورة مجبورة السجود لألهة من صنيع يدها ! أو من بنات أفكارها الظلامية !! ألم يقل الله العلي الأعلى على لسان فرعون ( لعنه الله ):”وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي”.( القصص -٣٨) .

ومن سخريات القدر أن تلك الطغمة الإستكبارية الظلامية الظالمة المتسلطة على رقاب البشرية -في أحقاب طويلة من عمر التاريخ -انكسرت فَذُلت هاماتها !! بمُضيها وعُكُوفِها وجُثُوِها لمخلوقات خُلقت وَسُخرت لخدمتها !غير أنها فاقدة البصيرة أو غافلة بفعل ترهات وأباطيل فجَّة- من موروثات أجيال شاطحة في غياهب الجهل والتخلف من الأجداد والأباء الذين لا يعقلون ، ناهيك من ملوك وفراعنة ومشايخ قبائل تسلطوا على الرقاب لعبادتهم والسجود لهم ، قال تعالى في مقتفي أثر رواد الجهل وقادة النار :” وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون”.(البقرة- ١٧٠ْ)،كما قال الله على لسان فرعون المدعى الألوهية :” فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى

( النازعات -٢٤ ) ،تلك الفئة الظالمة نفسها مُضَلَلة ومُغَيبة عن حقائق لو عَقِلَت سرابيلها ومضامينها لغيرت في مفاعيل علائقها وسائر الكون !! ألم يقل الله تعالى :” إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَ عَاكِفُونَ،قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ،قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ”.( الأنبياء -٥٢-٥٣-٥٤)

فكيف لرجالات الله العظام إحداث صواعق وزلازل موجهة إلى عقول الناس وأفئدتهم في محاولة ايقاظهم من سبات سوداوي طال أمده ، وما جنوا منه غير البعد عن جوهر وجودهم ، وما حصدوا غير الفرقة والكراهية والضغائن والإستبداد والإنغماس في ملذات حيوانية زائفة آنية لا تورث إلا المهانة والإنحطاط، مفارقين الحق والنور، وطامسين الحقيقة، وحاملين جنازة العقل ناعيين إياه في متاهات الظلمات ، وكأنهم أنعام تساق إلى حتوفها مسلوبة الإختيار والإرادة ، معصوبة البصر والبصيرة ، فاقدة الوعي والإدراك ! ذُلتْ فيه الكرامة الإنسانية التي أُكرهت من قبل الضمائر الميتة وقرائنها من شياطين الغواية ، المعتقلة عقولها في سجون جماجم عظمية متحجرة ، وفيها اغتيل المنطق واستبيحت الحكمة ، واغتصبت الفطرة السوية، ونعيت فيه الكرامة الإنسانية والحرية ، فأضحت البشرية رقيق مختوم على أقفائها العبودية والخنوع لسجانيها ألا وهما الجبت والطاغوت!! أضف إليهما توابعهما من شياطين الإنس والجان ، وباسم أولئك جُلهم عُبد وسُجد لغير مالك الملك !! قال الحق :”وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ”. (البقرة -١٧٠).

وقامت دعائم الرسالات السماوية على ظروف طبيعية تخلق لهداية البشرية وقيادتها على نحو اختياري فلا إجبار ولا إكراه ولا تفويض ولا نيابة عن الآخرين ، فالكل مسئول عن طريقه الذي اختطه لنفسه، وما الرسل إلا معلمين وموجهين ومصححين مسالك الأمم وما هم إلا قادة مبشرين ومنذرين ، لكنهم على القطع ليسوا بمنفذي حكم الله بحد السيف، وعليه قال الحق سبحانه :”وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ”،( الأنبياء -٢٥)، وقال الحكم العدل :” رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا”.( النساء -١٦٥)، كما قال جل وعلا :” وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ۖ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”.( الأنعام -٤٨) .

ولأن رسل السماء بشر لا ألهة، فتغيير الواقع لن يتقرر بكن فيكون ! ولا هم بالملائكة فتبهر العقول بنورانيتها وطاعاتها التي جبلت عليها ، ولا ببثهم الرعب في وجدان البشرية بأحجامها وقدراتها التي مَنَّ الله بها عليها دون البشر !! وتجبرهم على العودة إلى خطٍ خطه الله تعالى لعباده الصلحاء والمتصالحين مع فطرتهم وسويتهم !! وما رُسل الله إلا بشر من ذات الطينة البشرية التي جبل عليها سائر البشر، فهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ، يقول اللطيف الخبير :”وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا”.( الفرقان -٢٠).

نعم هم تفوقوا على الملائكة بيقينهم وإيمانهم بالله تعالى – ولكن ذاك مبحث مختلف لا مقام له في مبحثنا هذا – ووطنوا النفس على إيصال رسالة الله إلى الناس كاملة لا نواقص فيها مهما تطلب الأمر جهداً شاقاً دؤوباً، وعمراً مسفوحاً مبذولاً رَخُصاً في سبيل الله ورسالاته التي لابد لها من أن تصل إلى العقلاء، وإلى قلوب مضمونة صحوتها من بعد غفلة ملبية نداء الحق، مهمة شاء الله لها أن تصل وتنتصر رغم أنوف الحاقدين ، فقد قرر الحق :” كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ “.( المجادلة -٢١).

وعوداً على بدء ،فليس في قاموس الرسل لمسات سحرية لفرض دين الله   بخزعبلات وخدع براقة جاذبة للعقول لاغية للإلحاد والشرك ، ولا مقابض الأسياف مسلطة على الرقاب مخيرة إياها بالجبر والإكراه الإيمان بالله وإلا فكؤوس من دماء الرافضين عروضهم مَشرعةً للناهلين العطاشى من دماء الكفرة الفسقة ، يقول الله تعالى :”قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ “. ( إبراهيم-١١-١٢) .

وإنه لمسار صعب المسالك شديد الإنزلاقات وعقباته كؤود ! فالخطاب الرسالي ذا طبيعة عقلانية وحكمة وضاءة ومنطق سديد كما أسلفنا، غير أن كل ذاك لا قيمة له دون ركائز الصبر والتأني والنفس الطويل ، ومحاكاة تدريجية متدحرجة ذات خطىً ثابتة وجرعات بسيطة من مضامين الحكمة ودلالات بينة صادقة وآيات وقرائن واضحات، ولكن تيسيرية لا قفزات بهلوانية تحرق الحقيقة لبزوغها في غير أوانها، فإحداث شرخ في المعتقدات البالية تحتاج إلى نظرة ثاقبة هادئة وادعة حصيفة في مخاطبة مختلف العقول، فالتفاوت النسبي في مراتب الذكاء والفطنة كما الفطرة المُتَقَبِلَة لتغييرات فاعلة مؤثرة ،لا بل مزلزلة مؤثراتها، ناسفةً القيم الربانية سقيم مظاهرٍ حياتية مصطنعة صورية زائفة مسيطرة على مفاصل مجتعمها بمقابض شيطانية سلطوية مخادعة ، تحتاج على نحو حتمي إلى دراية ومدارة بطيب الخلق وجواهر الصبر ولُبَابَ الأناة ، وإيضاحات نورانية وعلامات وبينات حاسمة جازمة حتمية لكسر قيود الكفر والإلحاد بصورة تلقائية قيداً قيداً، ومتابعات رصينة ومساعٍ حثيثة وإمضاءات متلاحقة لبناء جسور المعرفة بالله تعالى وبشرائعه وإلى الله جلت قدرته ، ومن ثَمَّ تشيد علائق منظمة ثابتة متميزة بين دوائر المؤمنين خاصة ، قال الحق :” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ “.( الحجرات -١٠)، وعلاقات دنيوية متينة قائمة على أساس من العدل والمساواة في الحقوق والواجبات مع أولئك المنظوين تحت مظلة العبودية لله الواحد الأحد ، وعامة البشر ممن ارتضوا لأنفسهم اختيارات عقائدية مغايرة، سنن مترشحة عن حسن الجوار والأخوة في الإنسانية ، شريطة أن تكون تلك العلاقات ومكوناتها ضمن الحدود التي خطها الله سبحانه .

ولابد أن نستدرك فنقول أن منظومة الوجود وأساسها قائمة على علاقة العبد بمولاه خالق الوجود، فتلك الآصِرَة لا تبنى بجسور مادية فقط وإنما الجسر الأعظم في نياط القلب وحشى الفؤاد ، جسور قائمة بلا عمد ترى بالعين المجردة ، جسور معنوية ذات سمات شديدة السرية في مجملها لا يعلم في الأغلب الأعم بمكنوناتها سوى خالقهاالظاهر الباطن ، يقول الحق :” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً”.( النساء -٤٩)، وقال علام الغيوب :” وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ”.( الأنعام -٥٩).

ولابد من إصرارٍ متوالٍ لحوح في ادراج نواميس الله متجذرة في كيان الأمم ، واعتمادها دستوراً إصلاحياً ومرجعاً وحيداً، ومنهجاً عاماً وخاصاً لبني آدم، كل ذاك الأمر نتاج حيثيات صبر وأناة لا تتزعزع أساساتها من جمود القوم أو من تحجر عقولهم ، أو من فرياتهم على رب الوجود ورسله ، أو هجومهم السافر على الرسل وأتباعهم أو دفوعهم الهزلية الصنمية محاكاة لتحجر ألهتهم المزعومة .

حقاً إنه لجهاد في سبيل الله اصلاح البشرية وتقويمها ، بالدعوة القائمة على تدارك ما عطُب من علائق نَفِيسَةٍ بين العبد وربه ، فآن الأوان للرجوع إلى حظيرة الخالق من خلال إلتزامات عقائدية ، وأخلاقيات سامية، وشرائع محصنة بالأمر المعروف والنهي عن المنكر .قال تعالى:” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ “.( آل عمران -٦٤)، ويأمرنا عظيم السموات والأرض فيقول :”. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ “.(آل عمران -١١٤ ).

غير أن مهادنة عقول القوم لاستدراجهم رويداً رويداً إلى ساحة الإيمان والحق المبين ،بمعسول حقائق الأمور ، وبريق المنطق ،وسنا لفائف الحكمة ولطائفها، وبقرع همسات يقينية وادعة ، ونسائم رحمة مظللة جموع الخلق ، مدغدغة مكامن الرحمة والألفة في بواطنها ، ومرغبة مواضع الأنا فيهم، ورغائب وأطماع العيش الرغيد، وأحلام البقاء أحراراً أشرافاً ، ومُوَجِهَةً مقاليد الأنفة والعزة والكرامة في محياهم، والخلود السرمدي يوم الخلود، ومترادفات من الأحلام الدنيوية والأخروية مؤكدة منجزاتها تصيرها السواعد المؤمنة واقعاً معيشياً ومكتسباً شرعياً، تعتمد كلياً على فطنة وحنكة سفير الله إلى الناس القدوة الحسنة ،وها هو الإمام علي زين العابدين ( ع ) يقول:” العالم من عمل بعلمه ووافق علمه عمله “، إنه المرابط الصابر المتصابر الذي يهون عليه مقومات زينة الحياة الدنيا من الروح والمال والولد في سبيل انتشال الناس من فكي الجبت والطاغوت والرسو معهم بسفينة النجاة في موانئ الإيمان ورضا الرحمن وجنان الحنان المنان ، قال تعالى :” وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ “.( هود -٤١)، وقال أيضاً :” إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ “.( العصر -٣)، هذا ولقد قال رسول الله ( ص ):” العلم خليل المؤمن ، والحلم وزيره، والعقل دليله ، والعمل قيمه، واللين أخوه ، والرفق والده ، والصبر أمير جنوده “. ( رسالة الحقوق -ص-٤٩٤).

فكم من الخَطَل (الهُرَاء،المَنْطِقُ الفاسد) لفحشه وبذاءته مزق سكون الليل بصرخات مؤمنة مستغيثة مستجيرة بالله متحيرة من وضوح البينات والآلاء ورعونة القوم وعمى بصائرهم وانحطاط تأملاتهم ودونية كينوناتهم، ورغم ذاك يزداد سفراء الله تصميماً وعزيمة لتوضيح الواضح ، ورغبة في تسيير ومساعدة العقول الضآلة المتحيرة المضطربة للإستدلال على مواقعها الإيمانية المعقودة لها !!

وكم من ولوعة بالفؤاد لا يذاع لها سر حفاظاً على مسيرة الدعوة وحيثياتها ورتابتها ، وكم من مرارة في شجى الروح قُتلت في مهدها، فلم تُقدم لها ذرائع للإنتقام والتسلط والتجبر، ولم يُجَوَزُ لها أن تتغذى أو تقتات بالحقد والدم والعدوان ، وتلك سنة من سنن الله الفاعلة التي لا تتغير ولا تتبدل ،ألم يقل الله تبارك وتعالى :” وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا”.( الأحزاب -٦٢)، وكم من قذى في مقلة البصيرة أضحت دافعاً جارفاً لبزوغ النور في صدور عُدت من فرائس الشيطان ،قال الحق :” وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ “.( آل عمران -١٤٦)، وكم آهات متواليات من جراحات أدمت الأقدام الطاهرة وأبكت العيون الساهرة المنتظرة بزوغ فجر الحق ، فانقلبت دعوات ومناجاة للمرابطين الصابرين المتطلعين إشراقات في غرر العائدين التائبين إلى مولاهم الحق ،هذا ولقد ناجى الإمام زين العابدين ( ع ) ربه فقال:” إِلـهي ظَلِّلْ عَلى ذُنُوبي غَمامَ رَحْمَتِكَ، وَأَرْسِلْ عَلى عُيُوبي سَحابَ رَأفَتِكَ إِلـهي هَلْ يَرْجِعُ الْعَبْدُ الأبِقُ اِلاّ إِلى مَوْلاهُ، أَمْ هَلْ يُجيرُهُ مِنْ سَخَطِهِ أَحَدٌ سِواهُ، إِلـهي إِنْ كانَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ تَوْبَةً فَإِنّي وَعِزَّتِكَ مِنَ النّادِمينَ، وَإِنْ كانَ الإِسْتِغْفارُ مِنَ الْخَطيـئَةِ حِطَّةً فَإِنّي لَكَ مِنَ الْمُسْتَغْفِرينَ”،( من مناجاة التائبين ) .

وكم من حسرات هاجت لهيباً في صدور المؤمنين فما استطاعت ثنيهم ولا تثبيطهم، ولا تمكنت من حرفهم عن جادة الصواب ولا عن استمرارية الجهاد الأكرم ،ألا إنه جهاد تهذيب النفس الرخيم النداء،المتسامح الوادع المحتضن الآخر العافي عن الأغفال- لعل العفو يهديهم -، وما زادتهم نيران أحقاد الغي والباطل إلا إصراراً وعزيمة لاكتساب شخوص كادت أن تَتَسْمَرَ في غياهب الكفر والشرك والإلحاد والزندقة ، فقد قال ابن رسول الله (ص)الحسين بن علي( ع )في يوم عاشوراء : “اللهم أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدة وأنت لي في كلّ أمرٍ نزل بي ثقةٌ وعدّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت وليّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة”.

وكم من زوابع وضواغط نفسية تسفيهية وتحقيرية وإقصائية شنها متبني الفكر الشركي والإلحادي والصنمي بكل مقاييسه، مااستطاعت أن تحشرهم في زاوية اليأس والإرتباك وما تمكنت من وضعهم في زاوية العنف والإجبار والسلاح ، وما وجدت لها منفذاً للإنتقام في فكر وقيم رعاة الدين القويم ولا مترعاً للتشفي من انحطاط وبلاهة ودسائس حزب الشيطان ، وما زادتهم إلا يقيناً بسلامة سلمية دعوتهم ومواقفهم الداعية إلى التسلح بأنجع الأسلحة وأمضى السيوف ، ألا إنه سلاح الصبر والتصابر ، يقول تعالى :” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ “( البقرة -١٥٣)، وقال سبحانه:” وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ “.( آل عمران-١٤٦).

حتى إذا ما التزم سفراء الله إلى الناس منابع الحكمة والكلمة الطيبة سبيلاً وحيداً إلى الله ، ومعتمدين الصبر سلواناً، ثم مجافين الشدة والغلظة مذهباً ، ومُعْرِضين عن طرائق التنفير والتحقير والإقصاء ، فلا يعادي رسل الله القوم الكفرة المردة لشخوصهم في لحظات الدعوة الحرجة لقسوة القلوب، أو لتحجر منابت قيم عقيمة ومفاهيم سقيمة لديهم أو لعقيد الأخلاق فيهم،كما لا تعريهم بكشف سوءاتهم بالضربة القاضية لمرة حاسمة ونهائية ، ولا تجرحهم لعميق الهوة الخطابية بين ما يدعو إليه رجال الله وبين فحوى خطابهم الإلحادي والشركي !! ويذكرنا الفرقان المبين بقول الله تعالى :” وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ،وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ “.( فصلت -٣٤-٣٥).

إنما التروي والتسلسل في إقامة الحجة وتبسيط البيان هو مطلب أساسي لا لضعف في المنطق، ولا لإنعدام الوسيلة ، ولا لقلة الناصر، فكفى بالله ناصراً ومعيناً، وقال الحق :” الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللهَ! وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً”.( الأحزاب -٣٩)، وقال تعالى :” بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ “.( آل عمران -١٥٠)، ولا لهوان رجالات الحق على الله تعالى فالله أحكم الحاكمين وأعدل العادلين ! ومن المحال اسقاطهم منزلة ومكانة عند بارئهم وحبيبهم ، لا وألف لا حاشاهم ، رجالات عظام في منزلتهم عند الذي لا إله إلا هو مولاهم الحق ،والحق منهاجهم وضياءهم ، والسؤدد محياهم ، والغلبة مصيرهم الأزلي ، فقد أكد العلي القدير :”كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ “.( المجادلة -٢١).

وإنما الغاية إبلاغ رسالات الله إلى الناس كل حسب مستواه الفكري والعقلي والإدراكي أيضاً تدريجياً وعلى الهوينى، غير خافٍ على أحد أن التغيير المطلوب يهدد مصالح الأقوام والأمم الإجتماعية والإقتصادية والسياسية أيضاً، وليس بالهين أن يتنازل القوم بين ليلة وضحاها عن مكتسبات عدوها حقوقاً مكتسبة أو ممتلكات شخصية استحوذوا عليها بقوة وضع اليد أو بقوة التقاليد والأعراف – بغض النظر عن نظرة المشرع الإلهي لها -، وبتدوير كل المحاور السابقة ينال الجميع فرصهم متكافئة في التمحيص والتأمل والتدبر في الدعوة الإلهية إلى جنان النور والفرقان والصراط المبين ، والنزول عند أوامر مالك الملك لنبذ مورثات هدامة مهينة مذلة تضر ولا تنفع، تحط ولا ترفع! موروثات هي ووارثيها ومورثيها في سقر !

وبين هذا العرض الرسالي ومنابع الصبر والأناة وبين الدلائل والبيان تقام الحجة متكاملة على عباد الله فلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ! يقول الله جل جلاله :” أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”.( الأنعام -١١٤-١١٥)،

والصبر على الأذى في جنب الله وفي سبيل إحقاق الحق وإقامة العدل وإشراقة الأرض بنور ربها ورفع راية التوحيد عاليةً، ضريبة حتمية متواصلة للوصول الى الغاية المنشودة ، وسَلْ سفراء الله إلى الناس عن الكم الهائل والغريب من الأذى الذي تعرضوا له في درب التبليغ فكذبوا وسُفهوا فنعتوا بالدجل والكهانة والسحر والجنون ، ولقد قال الحق :”وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ”.( القلم -٥٢)، كما قال جلت قدرته :” وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ “.( الحاقة -٤١-٤٢)،   ومبالغات في تبعات التدليس على رسل السماء وصل حد إزهاق أرواح الأنبياء بمختلف أساليب القتل والنشر والتمثيل بهم ، يقول المولى :” الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ “.( آل عمران -١٨٣)، وقال الحق :” قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ “.( يس-١٨)، ورغم عظيم التضحيات صبر الدعاة إلى الله صبراً أسطورياً، كما إنهم ثابروا ولازموا الحق وعمدوا للإصلاح ما استطاعوا ،   يقول المولى الحق :”قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”.( هود-٨٨)، ودعوا لنبذ طُلَّح الأمور والإنابة إلى الله ، “لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا” ! ( الأنفال -٤٤).

فالصبر حمال وجوه فتارة صبر على الأذى الشخصي في جنب الله، ومعاناة من ألام نفسية ،وقهرية وإذلال من قبل الناس الذين لا يرتضون الإصلاح والتغيير فيعمدون إلى إيذاء مبعوث الله إلى الناس ومن معه من المؤمنين إيذاء نفسياً وجسدياً تارة أخرى، ويحدثنا الفرقان المبين عن تهديد ووعيد تعرض لها رسل الله للكف عن دعواهم وإلا !! ألم يقل الله تعالى :” قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا”.( مريم -٤٦) ، وقال الحق أيضاً :” قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ “. ( الشعراء -١١١)،وقال أيضاً:”قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ”.( الشعراء -١١٦)،

وقال أيضاً :” قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ “.( يس-١٨) .

وصَبْرُ سفير الله إلى الناس منظومة مترجمة من العناء في سبيل الدعوة إلى الله! صبراً متصلاً ليله بنهاره، سره بعلانيته ، ممنياً من صلحت سريرته بعطاء من الله وفضل جزيل في الدنيا قبل الآخرة ، ومنذراً بعقاب الجبار المنتقم والعذاب الأليم لمن سولت له نفسه الأمارة بالسوء رفض ألاء الله وتبيانه،وما برح صابراً متصابراً مبعوث السماء ذاك المجاهد المناضل ، إذ يجاهد متشحطاً بدمه شارحاً شرائع الله وقيمه ومعاجزه ، قال تعالى :” قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا “.( نوح -٥-٦)، وقال الحق :” وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ “.( الكهف -٢٨)، وقال أيضاً :” فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ “.( الأحقاف -٣٥).

وليس بالهين أن تتكلف النفس المستضعفة ضغوط وآهات فوق آهاتها وأوجاعها، تلك النفس المحرومة من حقوقها بما فيها حق الحياة ، فيأت مبعوث السماء ليحملها هموماً مضافة على عواتقها التي تنوء بزفرات وأوجاع مريرة ، ويطالبها باسم اليقين بالله تارة، وباسم العقل والحلم تارة أخرى ،الصبر على سياط الكفر تتلاعب بأجسادها، وعلى سهام مسمومة حنضلاً تستهدف عقولها، وخزي وعار من قبيح الكلام وبذاءة اللسان تقذف حمماً فوق رؤوس متبعي الرسل ممن سمعوا محاسن الكلام ومواضع الحكمة والمنطق فتناغمت ومواضع الحكمة والعقل منها وعلل الوجود فيها ومتسقاتها ، فأسلموا وجوههم لله رب العالمين وقالوا إنا من المسلمين ،وفي هذا السياق يقول المولى عز وجل :” قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ،لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ، قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ، وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ،وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ،قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ “.( الأعراف-من ١٢٣-إلى -١٢٩).

وعن أبي عبد الله عليه السلام قال : “رأس طاعة الله الصبر و الرضا عن الله ، فيما أحب العبد أو كره ، و لا يرضى عبد عن الله فيما أحب أو كره ، إلا كان خيراً له فيما أحب أو كره “. وقال الإمام علي – عليه السّلام – : “الصّبرُ أن يحتَمِلَ الرّجلُ ما ينُوبُهُ و يكظِمَ ما يُغضِبَهُ”. ( غرر الحكم – ص -٢٨١أيضاً ) ، وعن الإمام علي – عليه السّلام – : ” الصَّبرُ إمّا صبرٌ على المصيبَةِ أو على الطّاعَةِ أو عَنِ المَعصيةِ”.

(شرح نهج البلاغه ابن ابي الحديد،ج١-، ص٣١٩)، كما قال الامام علي – عليه السّلام – : “الصَّبرُ في الأمور بمنزِلَة ِالرّأس ِمن الجسَدِ فإذا فارَقَ الرأسُ الجسَدَ فَسَدَ الجسدُ ،فإذا فارقَ الصّبرُ الأمورَ فسدَتِ الامورُ”. ( بحار الأنوار -ج ٧١- ص-٧٣) ، و قال الإمام علي – عليه السّلام – : “أصْلُ الصّبرِ حُسنُ اليَقينِ باللّهِ”. ( غررالحكم، ص-٢٨١)

وللحديث بقية

الكاتب ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

ام عزيز (سلوى الشيخ علي)

مواضيع متعلقة