بناء الخليل للكعبة

img

قال تعالى: (( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود)) الحج: 26.

ومعنى: بوانا لإبراهيم مكان البيت أي هيأنا ووطأنا له مكان البيت، فجعلناه مأواه ومسكنه.

في كتب التاريخ ان سارة لما وهبت جاريتها هاجر لزوجها إبراهيم عليه السلام وولدت له إسماعيل عليه السلام، شق عليها ذلك وأدركها ما يدرك النساء من الغيرة، فكانت تؤذي إبراهيم فيها، فقيل: إن إبراهيم شكا ذلك إلى الله، فأوحى الله إليه: ( إن مثل النساء كمثل الضلع الأعوج، إن تركته استمتعت به وإن رمت أن تقيمه كسرته). ثم أمره أن يرحل بهاجر عنها. وكان إبراهيم عليه السلام حينئذ نازلاً بأعلى الشامات، فقال: (يا رب، إلى أي مكان أخرج بها؟). فأوحى إليه تعالى: (إلى أول بقعة خلقتها من أرضي، وهي مكة).

ونزل جبرئيل بالبراق فحملهما عليه وسار به، فكان إبراهيم عليه السلام لا يرى مكاناً حسناً إلا قال: ( ها هنا أخي جبرائيل؟). فيقول له جبرائيل عليه السلام: (لا). حتى وافى بهم مكة المكرمة، وذلك لما أراده الله تعالى من إحياء البيت الحرام، وإِيجاد مركز ثانٍ لإنطلاق الدعوة في شبه الجزيرة، فكان إبراهيم عليه السلام أول من اكتشف مكة بعد الطوفان.

فأنزل إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر وولدها إسماعيل عليه السلام عند دوحة مكان زمزم، ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ، لأنه ليس بمكة يومئذ ماء ولا بشر، ثم أراد الرجوع لانه وعد سارة ألا يلبث حتى يعود، فلما أراد الرجوع قالت له هاجر: أين تذهب وتدع امرأة ضعيفة وغلاماً صغيراً لا حيلة لهما، بلا أنيس من البشر ولا ماء يظهر، ولا زرع ولا ضرع؟ وبكت، فرق لها إبراهيم عليه السلام ودمعت عيناه، وقال: (إِني اخلفكما في أرض هي أحب إِلى الله، وهي حرمه، وهو الذي أمرني أن أنزلكما هاهنا). فقالت هاجر: الله أمرك بهذا؟ قال عليه السلام: (نعم). قالت: إذن لا يضيعنا، فانصرف.

فانصرف إبراهيم، حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه، استقبل بوجهه مكان البيت الحرام، ورفع يديه إلى السماء وقال. كما قص الله تعالى عنه: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك الحرام ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون). وفي ذلك دليل على أن إبراهيم عليه السلام يعرف مكان البيت قبل بنائه له.

وجعلت هاجر ترضع ولدها وتشرب من ذلك الماء، حتى نفذ ما في السقاء، فعطشت وعطش ولدها إسماعيل عليه السلام، فانطلقت هاجر تطلب الماء حتى إذا نفذ صعدت الصفاء، فلم تجد شيئاً فانحدرت في الوادي وسعت حتى أتت المروة، فأشرفت فلم تجد شيئاً ، حتى إذا فعلت ذلك سبع مرات، ثم عادت إلى ولدها إسماعيل عليه السلام وهو يدحض الأرض بقدميه، فنبع الماء من تحت قدميه، فجعلت هاجر تجمع التراب حول الماء، وكلما اجتمع منه شيء جعلته في سقائها، فعن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: (يرحمها الله لو تركتها لكانت عينا سائحة).

وكانت جرهم بواد قريب من مكة، فرأت أن الطير قد لزمت الوادي، فقالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء. فجاؤوا فوجدوا امرأة ومعها صبي صغير جالسين تحت ظل شجرة، وقد ظهر لهما الماء فقالوا: من أنت؟ وما شأنك وشأن هذا الصبي؟ فأخبرتهم أنها زوجة الخليل عليه السلام، وأن الصبي ولده إسماعيل عليه السلام، وأن الله أمره أن يترلهما ها هنا. فقالوا: لو شئت لكنا معك فآنسناك، والماء ماؤك. فقالت: حتى يأتي إبراهيم عليه السلام فأستأذنه لكم.

فلما جاء إبراهيم، وكان يزورهم الحين بعد الحين، استأذنته فأذن لهم، فجاؤوا فترلوا معها، وجعل أهل كل بيت منهم يهدون إلى هاجر الشاة والشاتين، فكانا يعيشان منها. ولما بلغ إسماعيل عليه السلام أشده تزوج منهم.

ثم أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام، وهو بأعلى الشامات، أن يمضي إلى مكة المكرمة، وأن يبني البيت الحرام، فأتى إبراهيم مكة، وقال لولده إسماعيل: (إن الله أمرني ببناء بيته، فكن لي معيناً).

ولم يدر إبراهيم عليه السلام في أي مكان يبنيهن فهو يعرف أنه في هذه الأرض، كما تدل عليه الآية السابقة، ولكنه لا يعرف مكانه بالتحديد فنزل عليه جبرائيل عليه السلام فخط له موضع البيت، فبنى إبراهيم عليه السلام، وولده إسماعيل عليه السلام يساعده، وهما يدعوان الله أن يتقبل منهما. قال تعالى: ( وإذا يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم).

ولما ارتفع البناء، أمر إبراهيم ولده إسماعيل عليه السلام أن يناوله حجراً ليضعه على الركن، فيكون علماً للناس، فنزل جبرائيل عليه السلام فأخبره بالحجر الأسود، فأخذه فوضعه موضعه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه و اله وسلم أنه قال: ( الحجر الأسود من حجارة الجنة، وما في الأرض من الجنة غيره).

ولما ارتفع البناء عن مستوى لا تصل إليه اليد، قام إبراهيم عليه السلام على حجر فثبتت فيه قدماه، وهو حجر المقام الذي أمر الله الناس أن يتخذوا منه مصلى، فقال تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)، وهو أحد الآيات البينات في البيت الحرام. قال تعالى: ( فيه آيات بينات مقام إبراهيم).

وجعل إبراهيم عليه السلام للكعبة بابين: باباً إلى المشرق، وهو مكان الباب الموجود اليوم، وباباً إلى المغرب، ويسمى باب المستجار.

ولما كمل بناء الكعبة ألقى عليها الشجر كالإذخر وغيره، وعلق على بابيها كساءين، ودعا الله، وقال. كما قص الله عزوجل عنه.(رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام).

قال ابن عباس عليه السلام: وإنما أراد الخليل عليه السلام بهذا الدعاء أن يجعل الله مكة حرماً آمناً محرماً لا يصاد طيره، ولا يقطع شجره، ولا يختلي خلاءه. أي ولا يحش نباته. حتى ذكر الفقهاء أنه لو نبتت شجرة في الحرم وتدلت أغصانها في غيره، أو نبتت في غيره وتدلت أغصانها فيه، فإنه لا يقطع منها شيء. وقد استجاب الله دعاءه فجعله حرماً وأمناً، وقال تعالى: ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا).

ومعنى مثابة: أن الناس يثوبون إليه كل عام، ومعنى أمناً يعني: موضع أمن، فمن عاذ به والتجأ إليه، فلن يخاف على نفسه ما دام فيه.

ومساحة هذا البلد الحرام أربعة فراسخ في أربعة فراسخ، ومكة في ناحية منه، وحدوده من جهة الشمال مكان يدعى التنعيم، وبينه وبين مكة (6) كيلو مترات، ومن جهة الشرق الجعرانة، وبينها وبين مكة (16) كيلومتراً، ومن جهة الغرب الشميسي، وبينه وبين مكة(15) كيلومتراً. ومن جهة الجنوب أضاه وبينه وبين مكة (12) كيلومتراً.

وقد نصبت على هذه الحدود أعلام، وهي أحجار مرتفعة قدر متر. وكل ما بين هذه الحدود المذكورة حرم يأمن من لجأ إليه، حتى من إقامة الحدود الشرعية فمن جنى جناية توجب الحد ثم التجأ إلى الحرم فإنه لا يقام عليه إلا إنه يضيق عليه في المطعم والمشرب، والبيع والشراء حتى يخرج منه، فيقام عليه الحد. وإذا أحدث ما يوجب الحد في الحرم، أقيم عليه الحد، لأنه هتك حرمة الحرم.

روي أن الإمام الصادق عليه السلام سئل عن رجل جنى جناية توجب عليه الحد في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم، هل يقام عليه الحد في الحرم؟ فقال عليه السلام: ( لا يمس ولا يؤذى حتى يخرج من الحرم). ودمعت عيناه.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة