كيف نصل إلى مراتب العشق الإلهي
قال تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين).
في هذه الآية الشريفة يُذكر الرسول (ص) الناس بقوله: (إنني جعلت صلاتي ونسكي ومطلق عباداتي ـ واختصت الصلاة بالذكر كمزيد العناية بها منه تعالى ـ ومحياي بجميع ما له من الشؤون الراجعة إلي من أعمال وأوصاف وتروك، ومماتي بجميع ما يعود إلي من أمور، وهي الجهات التي ترجع منه إلى الحياة ـ (أي الأمور التي تقع بعد الموت ولكن منشأها الحياة واختيار الإنسان) كما قال(ص): (كما تعيشون تموتون)ـ، جعلتها كلها لله رب العالمين من غير أن أشرك به فيها أحداً، فأنا عبد في جميع شؤوني في حياتي ومماتي لله وحده، وجهت وجهي إليه لا أقصد شيئاً ولا أتركه إلا له ولا أسير في مسير حياتي، ولا أرد مماتي إلا له، فإنه رب العالمين يملك الكل ويدبر أمرهم، وقد أُمرت بهذا النحو من العبودية وأنا أول المسلمين لله فيما أراده من العبودية التامة في كل باب وجهه.
من هنا يظهر أن المراد بقوله (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) إظهار الإخلاص العبودي أو إنشاؤه فيما يرجع إليه من شؤون العبادة والحياة والموت دون الإخبار عن الإخلاص في العبادة.
عبادة الله هي عبارة عن حركة الجوارح والأعضاء وسكونها وفق رغبة واحدة وهي أن يكون الحاكم على وجوده هو الله فلا ينظر إلا إذا كان نظره يرضي الله ولا يستمع إلى كلام إلا إذا كان هذا الكلام مما قد أذن الله بسماعه ولا يمد يده لشيء ولا يذهب لمكان ولا يصاحب الناس إلا بما يرضي الله عنه. أي أن تكون كل حركاته وسكناته موجهه إلى كل ما يُرضي الله عنه.
هذا النوع من العبادة الصادرة من العبد لربه عز وجل وبهذا الإخلاص في الأعمال تضفي على العبد هالة من النور تتوج بها نفسه وتبعثه بحركات تلقائية إلى عمل كل ما يقرّبه من الله تعالى، فلا يعمل هذه الأعمال الباعثة على رضا الله سبحانه بمجرد كونها ترضي الله عنه لا، بل يعملها لتضفي نوع من الحب والقرب نحو القدس الإلهي. فتراه دائماً يحث نفسه على البقاء على وضوء بشكل مستمر وكذلك تطير نفسه الظاهرية والباطنية من جميع أشكال الذنوب والمعاصي والوساوس، التي تشكل الكثير من الحواجز المانعة للوصول نحو قدس الله عز وجل.
الناس بشكل عام تعيش في حالة من السفر القهري، فمنذ أن سقطنا من بطون أمهاتنا ونحن لا نعلم شيئاً، وحتى آخر يوم لنا في هذه الدنيا، وقد أشار إلى هذه الحقيقة أمير المؤمنين (ع) حيث قال: (أوله نطفة قذره، وآخره جيفة نتنه، وهو فيما بينهما يحمل القَذِرة).
فهذا السفر الظاهري أي السفر البدني الذي نحن صائرون إليه منذ أن كان الإنسان نطفة قذرة وحتى نهايته التي هي جيفة لا تطاق، هذا يسمى سفر أرضي أو سير أرضي، في مقابله هناك سير سماوي.
والسير السماوي: هو الهروب والفرار من الله سبحانه وتعالى إليه سبحانه وتعالى. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا السفر بقوله: (ففِروُّا إلى الله إني لكم منه نذيرٌ مبين).
فمن الواضح أن الفرار إلى الله أبلغ من لسفر، فلو أنَّ إنساناً كان في مبنى يعج بالنيران، فإنه يحتاج إلى فرار وإلا لالتهمته النيران!..
فإذن نحن في الواقع نحتاج إلى فرار من عالم المادة إلى عالم الملكوت.
وفي آية أخرى يقول تعالى: (فمن شاء أتخذ إلى ربه سبيلا)، (وعلى الله قصد السبيل)، فالسبيل هو الطريق وهذه من أروع الآيات القرآنية، فهي تشير إلى الإنسان بأنك إذا عزمت على السفر إلى الله تعالى فإنه عز وجل يقتصد له السبيل، أي يختصر له المسافات، ومن هنا ورد عن أهل البيت (ع) قولهم: (وإن أفضل زاد الراحل إليك، عزم إرادة يختارك بها).
فلا بد للإنسان المؤمن السالك إلى الله أن يأخذ قراره بالفرار لله عز وجل، وكلما تأخر فإنه هو الخاسر. فالذي يسافر وينام في الطريق، فهو عندما يستيقظ ويمشي، فإنه يصل لأنه على الطريق أساساً ولكنه يصل متأخراً بعكس الذي يكمل طريق سفره دون أن ينام، فكلما عزم على تعجيل هذه الحركة في السفر فهو الرابح.
ففي الرواية (وإنك لا تحتجب عن خلقك إلا أن تحجبهم الأعمال دونك). فالإنسان يجب أن يتزود عند رغبته في السفر نحو الله سبحانه وتعالى، ويكون تزوده بزادين:
الزاد الأول: هو الزاد العلمي، فإن الإنسان الجاهل السائر على غير هدى لا تزيده كثرة السير إلا بُعداً، بعكس الذي يسير وهو يعلم معالم الطرق والنهاية التي يؤول لها كل طريق.
الزاد الثاني: وهو التقوى (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)، فيعيش الإنسان محصلاً لما يرضي الله عنه ويتجنب كل ما يُسخط الله عنه، ويعيش حالة من الخوف الدائم من نزول غضب الله سبحانه وتعالى به. فكل عملٍ وكل تعلقٍ وكل حب يكون يجب أن يتجسد من خلال التقرب له عز وجل والذوبان بذاته المقدسة والفناء فيها حتى نصل لأعلى المراتب. فنحب أهلنا لقدرة الله التي جعلتنا أهل وربطتنا بأعظم دين والتي من خلالها يتجسد لنا جمال خلق الله ومن خلالها يتجسد لنا مقام قدرة الله عز وجل.
وكذلك نحب أهل البيت عليهم السلام لأنهم البوابة للوصول إلى ذلك العشق، فإذا لم نعش هذا الحب يقيناً وعملاً ابتعدنا عن المعشوق الأوحد والكمال المطلق فمدرسة أهل البيت عليهم السلام تظهر أروع صور الحب لله سبحانه وتعالى وذلك لمعرفتهم عليهم السلام بالله سبحانه وتعالى حق المعرفة فوحدوه توحيد مطلق لامتناهِ.
لذلك علينا أن نرى الجمال والكمال الإلهي في قلوبنا ونفوسنا ليتجلى لنا هذا القدس، فحالة الحب والخوف والرجاء هذه كلها تُخرج العبد حتماً إلى قرار كبير وهو وجوب إخلاص نفسه وروحه لله سبحانه وتعالى حتى يتجلى له عظمة القدس الإلهي، ويكون بذلك إنسان متجرد بكل كيانه من الملذات الدنيوية وما تحتويها من مكائد إلى نحو العشق اللامتناهي للقدس الإلهي. حتى يعطى النفحات الإلهية تفتح شهيته على العبادة، والصلاة في المسجد، صلاة الليل، وغيرها فإنه من يعطى هذه الهبات يعطى نوراً يتحلى فيه نحو التشريف الإلهي، يقول الرسول (ص): (أشراف أمتي: حملة القرآن وأصحاب الليل),
فعلى الإنسان أن يجاهد في هذا الطريق حتى يصل إلى غايته المطلوبة، ولكن عليه أن ينتبه من مكائد الشيطان اللعين، فهو يبقى دائم الحوم حول الإنسان الذي ينال هذه النفحات الإلهية؛ بإدخال الكبر والعُجب والرياء إلى نفسه، فتراه يتعالى على الناس ويبدأ بترك واجباته الإجتماعية من صلة رحم أو سد ثغر من ثغور المسلمين أو ترك واجب اجتماعي بحجة إنهاء الختمة الفلانية، أو إيتاء الورد الكذائي، ويبدأ يتوهم بأن الناس جهلة وفي ضلال، ويدخلون عليه الظلمة وما شابه ذلك، ويتحول من ذلك الشخص الذي نال نفحة من النفحات الإلهية إلى شخص يعيش حالة من التفرع والعلو والتكبر. وهذه بداية النهاية.
والمقياس رسول الله (ص) الذي من أعظم معجزاته ليس شق القمر فحسب، وإنما مقدرته على التنزل والتعايش مع أهل الدنيا، وهو الذي كان يعيش ما يعيش من عوالم القرب الإلهي، والذي عُرج به إلى السماء وكان قاب قوسين أو أدنى من رب العالمين، وإذا به يهبط إلى الأرض لعيش المشاكل التي تواجهها البشرية في زمانه وغير زمانه، هنا عظمة النبي وقدسه وهي لا تقارن ولو بالشيء القليل مما نعيشه نحن.
وكذلك أهل البيت (ع) ترى فيهم الدروس التي لا تعد ولا تحصى ففي كل حركاتهم وسناتهم يعطوننا الدروس العظيمة والكثيرة لننهل من معينها.