مولد الرسول الأعظم (ص) ـ الجزء الثاني

أجل وضعت آمنة ابنها، وسمته محمداً كما جاءها الرؤيا وكما يتوجب أن يسمى بعد أمر السماء، فتعالى على الزمان محمداً وأحمد ومحموداً..
ولد النبي محمد|، وخرج معه نورٌ أضاء قصور الشام القيصريةٌ فرآها من بطاح مكة داره ومغناه، وانصدع الإيوان بالمدائن الكسروية الذي رفع أنو شروان سمكه وسوّاه، وسقطت أربع وعشرة شرفة من شرافاته العلوية، وكسر سرير الملك كسرى لهول ما أصابه وعراه، وخمدت النيران المعبودة بالممالك الفارسية لطلوع بدرة المنير ومحياه، وكانت لم تخمد قبل ذلك بألف عام.
وغاضت بحيرة ساوى، وفاض وادي سماوى، وسُمع أصوات الملائكة بالتكبير والتهليل، والتسبيح والتقديس، وفتحت أبواب الجنان، وأوصدت أبواب النيران، وتزيّنت الحور والولدان، ونادى منادٍ بين السماء والأرض: وُلد في هذه الساعة محمد بن عبد الله المعروف في السماء أحمد، وفي الأرض محمد، وفي الجنان أبو القاسم. وشدا المنشدون بقصائد الشعر من وحي الذكرى الغرّاء لمولد ذلك اليتيم الخالد، يقول البوصيري:
بك بشّر الله السماء فزينت |
وتضوعت مسكا بك الغبراءُ |
وفي هذا الصفاء الفكري لم تنسَ آمنة حماها عبد المطلب، فأرسلت إليه من ينقل له البشارة السعيدة بمولد حفيده العظيم، فجاءه الرسول ـ وهو يطوف بالبيت الحرام ـ وزفّ إليه البشرى، فطار إلى بيت ابنه عبد الله فرحاً لهفان الفؤاد لرؤية طفله الذي ربما أطفأت رؤيته اللوعة التي تتأجج في فؤاده، وأخمدت اللهب الذي ما زالت تتلظى في أحشائه منذ شهور من يوم علم بموت ابنه عبد الله أصغر أبنائه وأحبهم إلى قلبه.
أقبل مسرعاً لا يعوقه تقدمه في السن ـ فهو ابن السبعين حولاً ـ تحمله اللهفة ويدفعه الشوق لرؤية المولود الحبيب ابن الحبيب. فدخل على آمنة وهنّأها السلامة، وانحنى في حنو على الوليد يملأ منه عينيه. فأحسَّ أن ابنه عبد الله الذي كان يحتل شغاف قلبه قد عاد ليحيا من جديد في مولوده، فغمرته السعادة والغبطة، وحمل حفيده العزيز بين ذراعيه في رفقٍ ورقةٍ، فجعل الطفل يهشّ ويضحك. فتنهدت آمنة من قلب جريح، وجرت دموعها، وقالت: ليت أجل أبيه استأخر بضعة شهور حتى يشهد مولد طفله. فقال عبد المطلب: هذه مشيئة الله يا بنتي، لقد فديته بأغلى ما فدت العرب ابناً من أبنائها يوم كان بيدي الفداء، أما وهو الموت فلا رادّ لقضاء الله وقدره، إنه حكم الله الذي لا مفر منه. فقالت: رحم الله عبد الله، لقد ذوى في ريعان الصبا، فمزق مني الأحشاء، وهدّ فيّ القوى، ولولا الجنين الذي حملته منه وتلك الرؤيا التي كانت تعاودني مرة بعد مرة لكنت فارقت الحياة أسىً عليه.
ويطلب من أُمه أن يأخذ حفيده إلى الكعبة؛ ليسأل الله أن يعيذه ببركتها من شرور الدنيا ومفاسدها. وينطلق به إلى الكعبة المشرفة يدعو الله ويشكره أن وهبه ولداً من ابنه الفقيد الغالي. وطاف به سبعة أشواط، ثم وقف عند ركن الكعبة رامقاً بطرفه إلى السماء وهو يقول:
الحمد لله الذي أعطاني |
هذا الغلام الطيب الأردانِ |
ثم رده إلى أُمه، وراح يذبح الذبائح، ويطعم أهل الحرم، والسباع والطير، ووحش الفلاة.
وتسامعت بويتات مكة بالنبأ السعيد، فتوافدت عقائل قريش على دار عبد الله بن عبد المطلب يهنئن آمنة، ويصغين إلى ما كان من بشريات المولد المبارك، ويرين الطفل الجديد ويباركن قدومه.
وبلغت من غبطة البيت الهاشمي بالمولود العزيز أن ثويبة الأسلمية جارية عمه عبد العزى بن عبد المطلب ـ أبي لهب ـ سمعت بالخبر، ولم تكد توافي سيدها ببشرى المولد حتى أعتقها.
ومضت بضعة شهور على ولادته وآمنة ترعاه بكل جوارحها، وتحنو عليه بكل مشاعرها، حتى باتت لا تطيق مفارقته لحظة واحدة.