لماذا سمّي الإنسان إنساناً وإنساً وناساً
قال تعالى:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾.
الإنسان هو هذا النوع البشري، وقد سمّوه إنساناً لإنسانيّته، وهي ما اختُصّ به من المحامد؛ نحو الجود ومكارم الأخلاق. فمزيّة الإنسان على غيره من الحيوان ليست من جهةٍ تشريحيّة، وليست في أنه قائم على رجليه باستواء تامّ، ولا في ذكائه؛ لأن لأكثر الحيوانات ذكاء، وليست في العواطف الحبّيّة؛ فقد ثبت أن لبعض الحيوانات عواطف مثلها، ولا في مزيّة التخاطب؛ فإن للطيور والنمل وبعض الحيوانات لغات تتفاهم بها، وقد قال جلّ وعلا عن نبيّه سليمان بن داود’: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾.
وقال تعالى عن نبيّه المذكور(ع): ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا﴾.
وإنما مزيّة الإنسان على ما سواه من الحيوان في أمرين: وهما أخلاقه وتديّنه، وهذا ما بيّنه الله تعالى في السورة الكريمة ﴿وَالْعَصْرِ﴾. وقد جاء عن بعض المعصومين(ع) أنه قال: «إن الله خلق الملك من عقل بدون شهوة، وخلق الحيوان من شهوة بدون عقل، وخلق الإنسان من عقل وشهوة؛ فمن غلب عقله شهوته فهو أفضل من الملك، ومن غلبت شهوته عقله فهو أسوأ حالاً من الحيوان».
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾.
وقال: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾.
وكما سمّوه إنساناً فقد سموه إنساً، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
وقال تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ﴾، الی غیر ذلك من الآیات القرآنیّة الکریمة.
قالوا: وإنما سمي إنساً لاُنسه؛ لأنه يأنس بنوعه، ويأنس بغيره، ويأنس به غيره. وسمّوه ناساً؛ لنسيه وتناسيه؛ فإن من طبعه أن ينسى ويتناسى.
ومعنى: «أنه ينسى» أي أنه قد تنمسح بعض المعلومات من حافظته إلّا من عصم الله، كما قال تعالى لنبيّه (ص): ﴿سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى﴾، فقد ورد في كثير من التفاسير أن ﴿لَا﴾ في الآية الشريفة للنفي لا للنهي؛ فإنه لا يصحّ أن يُنهى الإنسان عن النسيان؛ لأنه ظاهرة قهريّة لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عن نفسه.
ولذلك فإنها توجِد للإنسان الناسي في الفرائض والأعمال أحكاماً خاصّة، وكثيراً ما تكون أهون من أحكام الجاهل، فضلاً عن أحكام العامد؛ لأنه ليس من الممكن أن يقال للإنسان: لماذا نسيت؛ لأنه ظاهرة قهريّة.
وقد يبلغ من الإنسان أنه ينسى بعض أعماله التي عملها، قال تعالى: ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.
وروي عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال في مناجاته: «ويلي إن قرأت في الصحف سيّئة أنا ناسيها وأنت محصيها، فتقول: خذوه. فياله من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ولا تنفعه قبيلته! يرحمه الملا، إذا اُمر فيه بالندا».
أمّا معنى التناسي فإن الإنسان قد يتناسى النهي الموجّه إليه في الأمر الذي يريد أن يعمله، أو لا يتقيّد بتركه، ومثلاً من ذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾؛ لأن العهد المذكور في الآية الكريمة هو ما عهد الله إليه من عدم الاقتراب من الشجرة، فتناسى ما عهد الله له، وأكل من الشجرة؛ فعوقب بالإخراج من الجنّة، ولو كان ناسياً لما عوقب بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾.
ولا تزال هذه الظاهرة موجودة في ذرّيّته؛ فإن الكثير منهم يتناسون ما عهد الله لهم به من طاعته؛ ليعملوا ما يشاؤون من معصيته، بل وينسونه ويتناسونه هو جلّ وعلا، وينسون ويتناسون ما ذكّروا به من آياته ومن المعاد إليه، قال تعالى عمّن نسوه هو جلّ وعلَا: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾.
وقال عنهم أيضاً: ﴿نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
وقال تعالى عمّن نسوا أو تناسوا آياته: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾.
وقال تعالى عمّن نسوا أو تناسوا المعاد إليه جلّ وعلا: ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا﴾، والآيات في هذا المجال كثيرة ومن أشهرها قوله تعالى ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾.
ومعنى أن الله نسيهم يعني عاملهم معاملة الناسي، وإلّا فإنه تعالى «لا يضلّ ولا ينسى».
وبالجملة فإن الإنسان سمي إنساناً؛ لإنسانيته، وسمي إنساً؛ لأُنسه، وسمي ناساً؛ لنسيه؛ إذ كل هذه الصفات موجودة فيه، ولكنه قد تغلب عليه الإنسانية فيعطى ويسمح، ويعفو ويصفح، وقد تغلب عليه صفة الأنس فيكون ريحانة المجالس وأنيس الجالس، وقد تغلب عليه صفة النسيان والتناسي فيكون كما قال الشاعر:
نسي الخير حين أوغل في الشر *** وداس الضمير في عصيانه
حسد ناهش بقية ما في *** قلبه من إبائه وحنانه
وأنانية تبيح له القتل *** لتحقيق غاية في كيانه