ادفع بالتي هي أحسن

img

قال الحكيم في كتابه وشريف خطابه : ( ولاتستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم )

هذه الآيات في سورة فصلت في سياق الآيات التي تتحدث عن النبي ص ودعوته إلى دين ربه .. فتبين الآية أحسن الطرق إلى الدعوة وأقربها من الغاية المطلوبة منها ألا وهي التأثير في النفوس الآية تخاطب جناب رسول الله (ص) بأن الخصلة الحسنة و السيئة لاتستويان من حيث التأثير في النفوس .. ويوجّه له الخطاب وهو خطاب عام لكل من هو في معرِضِ الدعوة إلى الله ..

وبالرغم من أنّ (الحسنة) و(السيئة) تنطويان على مفهومين واسعين، إذ تشمل الحسنة كلّ إحسان وجميل وخير وبركة، والسيئة تشمل كلّ انحراف وقبح وعذاب، إلاّ أنّ الآية تقصد ذلك الجانب المحدّد من السيئة والحسنة، الذي يختص بأساليب الدعوة.

لكن بعض المفسّرين فسّر الحسنة بمعنى الإسلام والتوحيد، والسيئة بمعنى الشرك والكفر.

وقال البعض: (الحسنة) هي الأعمال الصالحة. و(السيئة) الأعمال القبيحة.

وهناك من قال: إنّ (الحسنة) هي الصفات الإنسانية النبيلة، كالصبر والحلم

والمداراة والعفو، بينما السيئة بمعنى الغضب والجهل والخشونة.

ولكن التّفسير الأوّل هو الأفضل حسب الظاهر.

في حديث عن الإمام الصادق أنّه(عليه السلام) قال في تفسير الآية أعلاه:«الحسنة التقية، السيئة الأذاعة»(1). وطبعاً فان هذا الحديث الشريف ناظر الى الموارد التي تكون فيها الاذاعة سبباً في اتلاف الطاقات والكوادر الجيدة وافشاء الخطط للاعداء

فيوجهه الله تبارك اسمه : يا أيها الداعي إذا واجهتك خصلة سيئة فادفع أنت بالخصلة التي أحسن ..أي ادفع بالحق الذي عندك باطلهم ولاتدفع باطلَهم بباطلٍ آخر ..ادفع بحلمِك جهلَهم …ادفع بعفوك إساءَتهم ..ادفع الخشونة بالمداراة، وقابل الإساءة بالإحسان، فلا ترد الإساءةَ بالإساءةِ، والقبحَ بالقبح،

لماذا؟ لأنّ هذا أسلوبُ من همُّه الانتقام وهذا لا يليق بشأنك يارسول الله ، ثمّ إنّ هذا الأسلوب يقود إلى عناد المنحرفين أكثر والحكيم لايفوِّت غرضه …وبيّن المولى سبحانه أثر الدفع بالتي هي أحسن ..وتشيرالآية في نهايتها إلى فلسفة وعمق هذا البرنامج في تعبير قصير، فتقول: إنّ هذا التعامل سيقود إلى: (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم).

إنّ ما يبيّنه القرآن هنا، مضافاً إلى ما يشبهه في الآية (96) من سورة المؤمنين في قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) يعتبر من أهم وأبرز أساليب الدعوة، خصوصاً حيال الأعداء والجهلاء والمعاندين. ويؤيد ذلك آخر ما توصلت إليه البحوث والدراسات في علم النفس.

لأنّ كلّ من يقوم بالسيئة ينتظر الرد من الطرف الآخر بالمثل لأن لكل فعل ردة فعل ، خاصة الأشخاص الذين هم من هذا النمط; وأحياناً يكون جواب السيئة الواحدة عدّة سيئات. أمّا عندما يرى المسيء أنّ من أساء إليه لا يرد السيئة بالسيئة وحسب مترفعا عن ذلك ، وإنّما يقابلها بالحسنة، عندها سيحدث التغيير في وجوده، وسيؤثر ذلك على ضميره بشدّة فيوقظه، وستحدث ثورة في أعماقه، سيخجل ويحس بالحقارة وينظر بعين التقدير والإكبار إلى من أساء إليه.

وهنا ستزول الأحقاد والعداوات من الداخل وتترك مكانها للحبّ والمودّة.

ومن الضروري أن نشير هنا إلى أنّ هذا الأمر لا يمثل قانوناً دائماً، وإنّما هو صفة غالبة، لأنّ هناك أقلية تحاول أن تسيء الاستفادة من هذا الأسلوب يسيئون إليك فتحسن إليهم وهذا يشعرهم بضعفك حيال قوتهم ، فهؤلاء ما لم ينزل بها ما تستحق من عقاب فإنّها لا تترك أعمالها الخاطئة.

ولكن في نفس الوقت الذي نستخدم العقوبة والشدة ضدّ هذه الأقلية، علينا أن لا نغفل عن أنّ القانون المتحكم بالأكثرية هو قانون: «ادفع السيئة بالحسنة».

لذلك رأينا أنّ رسول الإسلام(صلى الله عليه وآله وسلم) والقادة من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) كانوا يستفيدون دائماً من هذا الأسلوب القرآني العظيم، ففي فتح مكّة مثلا كان الأعداء ـ وحتى الأصدقاءـ ينتظرون أن تسفك الدماء وتؤخذ الثارات من الكفار والمشركين والمنافقين الذين أذاقوا المؤمنين ألوان الأذى والعذاب في مكّة وخارجها، من هنا رفع بعض قادة الفتح شعار «اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً» لكن ماكان من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وتنفيذاً لأخلاقية «ادفع السيئة بالحسنة» إلاّ أن عفا عن الجميع وأطلق كلمته المشهورة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». ثمّ أمر(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستبدل الشعار الإنتقامي بشعار آخر يفيض إحساناً وكرماً هو: «اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله قريشاً»(1).

لقد أحدث هذا الموقف النبوي الكريم عاصفة في أرض مشركي مكّة حتى أنّه على حدّ وصف كتاب الله تعالى بدأوا: (يدخلون في دين الله أفواجاً)(2).

لكن برغم ذلك، نرى أنّ النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) استثنى بعض الأشخاص من العفو العام هذا، كما نقله أصحاب السيرة، لأنّهم كانوا خطرين ولم يستحقوا العفو النبوي الكريم الذي عبّر فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن خلق الإسلام ومنطق النّبيين حينما قال: «لا أقول لكم إلاّ كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين»(1).

نعود للآية ذكر نتيجة الدفع بالتي هي أحسن ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) إن دفعت بالتي هي أحسن يفاجئْك عدوك بأنه يصبح ولي شفيق …. عبر الله بقوله ( بينك وبينه عداوة) وهو أبلغ من (عدوك) مع أن الكلمة الثانية أشد اختصارا (بينك وبينه عداوة) وكأن العداوة شيء طارئ وسيزول.

«ولي» هنا بمعنى الصديق. و(حميم) تعني في الأصل الماء الحار المغلي، وإذا قيل لعرق جسم الإنسان (حميمَ) فذلك لحرارته، ولهذا السبب يطلق اسم «الحمّام»على أماكن الغسل، ويقال أيضاً للأصدقاء المخلصين والمحبين للشخص «حميم» والآية تقصد هذا المعنى.

وضروري أن نشير إلى أنّ قوله تعالى: (كأنّه ولي حميم) حتى وإن لم تكن تعني أنّ الشخص لم يكن كذلك حقاً، إلا أنّ ظاهره سيكون كذلك على الأقل.

إنّ هذا الأسلوب من التعامل مع المعارضين و الأعداء ليس بالأمر العادي السهل، والوصول إليه يحتاج إلى بناء أخلاقي عميق، لذلك فإنّ الآية التي بعدها تبين الأسس الأخلاقية لمثل هذا التعامل في تعبير قصير ينطوي على معاني كبيرة، حيث يقول تعالى: (وما يلقاها إلاّ الذين صبروا)(2).

و كذلك: (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم). ـ يرجع ضمير (يلقاها) إلى (الخصلة)

عظم الله سبحانه الدفع بالتي هي أحسن ومدَحه أحسن التعظيم بقوله ( وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) أي ذو نصيب وافر من كمال الإنسانية وخصال الخير.

 فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه مدّة طويلة حتى يستطيع أن يسيطر على غضبه، يجب أن تكون روحه قوية في ظلّ الإيمان والتقوى حتى لا يستطيع أن يتأثر بسرعة وبسهولة بإيذاء الأعداء، ولا يطغى عنده حب الإنتقام، فتلزمه الروح الواسعة وانشراح الصدر بالمقدار الكافي، حتى يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من الكمال بحيث يقابل السيئات بالإحسان. وعليه أن يتجاوز مرحلة العفو ليصل إلى منزلة «دفع السيئة بالحسنة» وأن يحتسب كلّ ذلك في سبيل الله تعالى بغية تحقيق الأهداف المقدّسة.

وهنا أيضاً ـ كما تلاحظون ـ تواجهنا قضية «الصبر» بوصف هذه الخصلة الأساس المتين لكل الملكات الأخلاقية الفاضلة، وهي شرط في التقدم المعنوي والمادي(1).

إنّ هناك ـ بلا شك ـ موانع تحول دون الوصول إلى هذا الهدف العظيم، وإنّ وساوس الشيطان تمنع الإنسان من تحقيق ذلك بوسائل مختلفة، لذلك نرى الآية الأخيرة تخاطب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)بوصفه الأسوة والقدوة فتقول له: (وإمّا ينزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنّه هو السميع العليم)(2)

«نزغ» تعني الدخول في عمل ما لإفساده، ولهذا السبب يطلق على الوساوس الشيطانية «نزغ» وهذا التحذير بسبب ما يراود ذهن الإنسان من مفاهيم مغلوطة خطرة، إذ يقوم بعض أدعياء الصلاح بتوجيه النصائح على شاكلة قولهم: لا يمكن إصلاح الناس إلاّ بالقوّة. أو يجب غسل الدم بالدم..كالأفكارالانحرافية التكفيرية . أو الترحم على الذئب ظلم للخراف وأمثال ذلك من الوساوس التي تنتهي إلى مقابلة السيئة بالسيئة.

القرآن الكريم يقول: إيّاكم والسقوط في مهاوي هذه الوساوس، ولا تلجأوا إلى القوّة إلاّ في موارد معدودة، وعندما يواجهكم أمثال هذا الكلام فاستعينوا بالله واعتمدوا عليه لأنّه يسمع الكلام ويعلم النيات.

ولاشك أن الإنسان حين يدرك فضيلة هذه الخصلة يرى أنه من الضروري أن يتصف بها  ..حين يعلم أنها من:

1- خير أخلاق الدنيا والآخرة

يقول النبي (ص): ( ألا أخبركم بخير أخلاق الدنيا والآخرة : العفو عمن ظلمك وتصل من قطعك والإحسان إلى من أساء إليك وإعطاءِ من حرمك )

2- وأنه يُثبت العالِم بها لنفسه الفضيلة وبرفع بها عن صاحبه الرذيلة ويغلب على صاحبه بقوة قلبه

3- وأنه يكسر بها عدو نفسه .. ويكسر بها نفس العدو

4- وأنه لن يندم على ما فعله لأن (الندامة على العفو أفضل وأيسر من الندامة على العقوبة )

5- لاتندم على عفوك ومقابلتك الإساءة بالإحسان لأنها من خلق الأنبياء ويكفي الإنسان فخرا أن يتخلق بصفات الأنبياء

الإنسان إذا علم كل ذلك فإنه يسعى لأن يتحلى بها لعلمهبمحبوبية هذه الصفة عندالله  ويهون بعينه كل ما يجده من أذى مهما بلغ ..حينما يلتفت إلى أن من صفات المؤمنين رد الإساءة بالإحسان وليس رد الإساءة بالإساءة وفي قبالها رد الإحسان بالإساءة فإنه من صفات من لم يتمكن الإيمان من قلبه ومن أقبح الصفات وهل هناك أقبح من مجازاة نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وعنائه في سبيل تبليغ الدعوة وصبره على الأذى بقتل عترته حتى أنهم لم يذروا حتى الرضيع وليتهم اكتفوا بذلك بل جاءوا بما لم يأتِ به أحد من قبلُ حيث فرقوا بين الرؤوس والأبدان وجاءوا بعشرة من الخيل فرضت جسد الحسين ع حتى طحنت عظامه  وتركوا جسد ابن رسول الله على الأرض وهو مكبوب على وجهه ومسلوب  مطروح تسفي عليه الرياح ورأسه رفع على رمح طويل تندبه أخته زينب بقلب حزين : بأبي من لا غائبٌ فيُرجى ولا جريحٌ فيُداوى..بأبي المهمومُ حتى قضى بأبي العطشان حتى مضى بأبي من شيبتُهُ تقطُرُ بالدِّماء..ألا لعنة الله لى الظالمين.

الكاتب بنت الحوراء

بنت الحوراء

مواضيع متعلقة