من سيرة الحسين: مقتل الحسين بن علي (عليه السلام)

img

قال أهل السير: وبينما الحسين مع العليل والنساء في الخيمة، وإذا بالقوم ينادون: أجبنت يا حسين ودخلت الخيمة فأرخيت عليک سترها؟ فنهض الحسين وخرج من الخيمة، ووقف لوداع النساء والأطفال: (أهل بيتي ودعوني الوداع).

فأقبلت إليه زينب وقالت: استسلمت للموت. قال: «وماذا يفعل من لم يجد ناصراً ولا معينا»؟ قالت: أخي فردنا إلى مدينة جدنا، فإني أخاف أن نسبى بعدک. فقال: «هيهات هيهات لو ترک القطا ليلا لنام، لو ترکت لما ألقيت بنفسي إلى التهلکة، وکأني بکم غير بعيد کالبعيد، تساقون أمام الرکاب، ويسومونکم سوء العذاب».

وضمها مولاي ضم الوداع****وقال هذا آخر الاجتماع

فشقت الجيب ومال القناع****وانحسر المرط عن المحجرِ

قالت له يا واحدي ردنا****إلى المدينه في حمى جدنا
فقال هيهات وأنّى لنا****وقد وقعنا في يد العسکرِ

* * *

أخت يازينب أوصيک وصايا فاسمعي****إنني في هذه الأرض ملاقٍ مصرعي

فاصبري فالصبر من خيم کرام المترع****کل حي سينحّيه عن الأحياء حين

فيجليلالخطبياأختُاصبري الصبرالجميل****إن خيرالصبر ماکان على الخطب الجليل

واترکي اللطم على الخد وإعلان العويل****ثم لا أکره سقي العين ورد الوجنتين

اجمعي شمل اليتامى بعد فقدي وانظمي****أطعمي منجاع منهم ثمفاسقي من ظمي

واعلمي أني في حفظهم طُلّ دمي****ليتني بينهم کالأنف بين الحاجبين

ثم قال لها: «أخية: علي بثوب عتيق» فجاءت به فمزقه وخرقه. قالت: أخي مزقت قلبي بتمزقک هذا الثوب، ما تريد أن تصنع به؟

قال: «أريد أن ألبسه تحت ثيابي لئلا أسلب منه، فإني مقتول ومسلوب» فارتفعت أصوات النساء والأطفال بالبکاء والعويل.

ثم نادى: «من يقدم إلي جوادي»؟ قالت له زينب: أنا آتيک به. وجاءت بالجواد تقوده وهي تقول: ما أقسى قلبي؛ أخت تقدم لأخيها فرس المنية.

فلما أخذ الحسين برکاب الفرس، وأراد أن يرکب جاء الصغار، فتعلقوا بأذياله، وقالت له إحدى بنياته: أبه: إن کنت تعلم إنک لا تعود فخذني معک، فإني لا أقدر على فراقک. وقالت له الثانية: أبه: أرسل إلى بعض عمومتي بشيء من الماء. فانکسر قلب الحسين× وقال: «بنيّة: کيف أرسلهم إليک، وهم مجزرون»؟

وقالت الثالثة: أبه: إذا شربت الماء فلا تَنسَ عطش کبدي.

(وجاءت له سکينة فقال له: أبه: اجلس لي على الأرض فجلس لها، وجلست بين يديه وقالت: أبه: امسح على رأسي کما تفعل باليتامى فأنا بعد ساعة يتيمة، فلما مسح الحسين على رأسها استعبرت وبکت فبکى الحسين لبکائها وقال:

لا تحرقي قلبي بدمعک حسرة****مادام مني الروح في جثماني

فإذا قتلت فأنت أولى بالذي****تأتينه يا خيرة النسوانِ

سيطول بعدي يا سکينة فاعلمي****منک البکاء إذا الحمام دهاني

ثم جعل يسکتها ويسيلها حتى أمسکت عن البکاء، فعاد إلى الفرس ليرکب فعاد الصغار عليه، فبکى وقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، أخية: خذيهم سکتيهم اخفظيهم».

وتکفلي حال اليتامى وانظري****ما کنت أصنع في حماهم فاصنعي

فجعلت زينب تجذب أيدي الأطفال والبنيات من أذيال الحسين× وتدخلهم إلى الخيمة، وهم يصرخون وأحدهم يقول: عمة: أريد عمي، وآخر يقول: عمة: أريد أبي، وآخر يقول: عمة: لا تفرقي بيننا وبين والدنا. وما زالت معهم حتى أدخلتهم الخيمة ووقفت على بابها لتحول بينهم وبين الخروج منها، وأشارت إلى الحسين بالذهاب إلى المعرکة ولسان حالها يقول:

ابعيني لباري لک اعيالک****وابنفسي لسکّت لک اطفالک

لو الموت يقبلنا بدالک****رحنا الحرم کلنا فدا لک

قال بعض أهل السير: فلما توجه الحسين إلى الميدان تکسرت أعمدة الخيام، وحلت الظلمة على النساء والأيتام ونادوا:

وين شايل يا ولينا****ظلمت الدنيا علينا

وتوجه الحسين إلى الميدان، وحمل على القوم وجعل يرتجز ويقول:

أنا ابن علي الطهر من آل هاشم***کفاني بهذا مفخر حين أفخرُ

وجدي رسول الله أکرم من مشى****ونحن سراج الله في الأرض يزهرُ

وغلب عبدالله بن الحسن× عمته على الخروج من الخيمة، فخرج يعدو خلف عمه، حتى وصل إليه في المعرکة، وقد تقدم ذلک في ترجمته×.

وقصد الحسين إلى المشرعة وکان عليها أربعة آلاف، فکشفهم عنها، واقتحم الماء بفرسه فلما أحس الفرس ببرد الماء أرخى رأسه ليشرب فقال الحسين: «أنا عطشان وأنت عطشان»، فرفع الفرس رأسه وسالت دموعه کأنه فهم کلام الحسين×.

أي المحاجر لا تبکي عليک دماً****أبکيت والله حتى محجر الحجر

فقال له الحسين: «اشرب وأنا أشرب»، فمد يده واغترف غرفة ليشرب، فناداه القوم: أتلتذ بالماء يا حسين وقد هتکت حرمک؟ فرمى الماء من يده، وحمل على القوم حتى کشفهم عن وجهه، فرأى الخيام سالمة فعلم أنها مکيدة، فرجع قاصداً إلى المشرعة فحالوا بينه وبينها، فحمل عليهم وهو يقول:

وإن تکن الدنيا تعد نفيسةً***فإن ثواب الله أعلى وأجزلُ

وإن تکن الأرزاق قسماً مقدراً****فقلة سعي المرء للزق أجملُ

وإن تکن الأموال للترک جمعها****فما بال متروک به المرء يبخلُ

وإن تکن الأبدان للموت أنشئت****فقتل الفتى بالسيف في الله أفضلُ

عليکم سلام الله يا آل أحمد****فإني أراني عنکم اليوم أرحلُ

وما زال يقاتل القوم حتى کشفهم عن المشرعة، فلما نزل واغترف غرفة ليشرب جاءه سهم فوقع في حنکه، فرمى الماء من يده، وحمل على القوم، وما زال يقاتل حتى کثرت به الجراحات، فرجع إلى الخيام ودماؤه تسيل فقال: «أخية: عليّ بمنديل أشد به جراحاتي، فجاءته بمنديل وجعلت تشد جراحاته بيدها، ورجع إلى القوم وهو يقول:

يا لقومي من أناس رذلٍ***جمعوا الجمع لأهل الحرمين

لم يخافوا الله في سفک دمي****لعبيد الله نسل الکافرين

لا لشيء کان مني قبل ذا****غير فخري بضياء الفرقدين

بعلي الخير من بعد النبي****والنبي القرشي الوالدين

خيرة الله من الخلق أبي****ثم أمي فأنا ابن الخيرتين

من له جد کجدي في الورى****أو کشيخي فأنا ابن العلمين

فضة قد خلصت من ذهب****فأنا الفضة وابن الذهبين

وأبي شمس وأمي قمر****فأنا الکوکب وابن القمرين

جعفر الطيار عمي وأبي****وارث العلم ومولى الثقلين

جدي المرسل مصباح الدجى****وأبي الموفي له بالبيعتين

فاطم الزهراء أمي وأبي****قاصم الکفر ببدر وحنين

عبدالله غلاماً يافعاً****وقريش يعبدون الوثنين

يعبدون اللات والعزى معاً****وعلي قائم للقبلتين

قال عبدالله بن عمار بن يغوث: فما رأيت مکثوراً قط قتلت حماته وأهل بيته أربط جاشاً من الحسين، ولا أمضى جناناً، ولا أجرأ مقداماً منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله، وإن کانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها فتنکشف عنه کالمعزى إذا شد فيها الذئب.

ما له في حومة الميدان في الکر شبي****غير مولانا علي والفتى سر أبيه

غير أن القوم بالکثرة کانوا متعبيه****وهو ظام شفتاه أضحتا ناشفتين

فلما کثرت به الجراحات رجع إلى الخيام ليريح نفسه، فقيل له: جيء لک بمولود. فقال: «عليّ به» فلما جيء به إليه أذن في أذنه اليمنى، وأراد أن يقيم في اليسرى؛ إذ رموه بسهم فذبحه من الوريد إلى الوريد کما تقدم في الکلام على أولاد الحسين×.

فدفعه الحسين إلى النساء، وودعهن الوداع الأخير، وتوجه إلى الميدان فما مشى غير يسير وإذ بالصوت من خلفه: أخي: قف لي. فالتفت وإذا بها أخته زينب، وقد لبست ثياب أمها الزهراء÷، فلما انتهت إليه قالت: انزل لي عن فرسک. فنزل لها. قالت: فاکشف لي عن صدرک ونحرک فکشف لها، فقبلته في صدره ونحره، ثم وجهت وجهها نحو المدينة وقالت: السلام عليک يا أماه نفذت الوصية وردت الأمانة وسلمت الوديعة.

فقال الحسين×: «وأي أمانة، وأي وديعة، وأي وصية»؟

قالت: إن أمي فاطمة الزهراء÷ قربتني منها ساعة الوفاة، وقبلتني في صدري ونحري، وقالت: «هذه أمانة، هذه وديعة، هذه وصية، إذا رأيتي ولدي حسيناً وحيداً بأرض کربلاء فقبليه في صدره ونحره نيابة عني» فبکى الحسين وبکت زينب.

قال بعض أهل السير: وإذا بالصوت من السماء ينادي: واولداه. ثم أرجع الحسين زينب إلى الخيام وودعها الوداع الأخير، وتوجه إلى الميدان، وحمل على القوم وجعل يرتجز ويقول:

الموت أولى من رکوب العار *** والعار أولى من دخول النار

ثم قال:

أنا الحسين بن علي****آليت ألاّ أنثني

أحمي عيالات أبي****أمضي على دين النبي

فلم يزل يقاتل حتى لم يترک بيتاً من الکوفة إلاّ وفيه نادب ونادبة؛ فصاح ابن سعد بأصحابه: ويلکم يا حُمقاء أتدرون من تقاتلون؟ هذا ابن الأنزع البطين هذا ابن قتّال العرب، احملوا عليه حملة واحدة، وإلاّ أفناکم عن آخرکم.

فحملت عليه الصفوف، وازدحمت عليه الألوف، وافترقوا عليه أربع فرق؛ فرقة بالسيوف، وهم: الأدنون منه، وفرقة بالرماح وهم: الجوالة حوله، وفرقة بالنبال وهم: الرماة من أعالي التلال، وفرقة بالحجارة وهم: الرجالة المنبثة حوالي الخيالة، حتى أثخنوه بالجراح، وصار جلده کالقنقذ من کثرة السهام.

دار العسکر اعلى حسين يا حيف****ناس بالرماح اوناس بالسيف

يشبه دورها اعلى الليث لمخيف****بياض العين بصبيها ايتدور

وبيمنا هو کذلک إذ رماه أبو الحتوف بحجر فوقع في جبينه، فسالت الدماء على وجهه وعلى کريمته الشريفة، فرفع طرف ثوبه ليمسح الدم فبان بياض صدره الشريف، فأقبل السهم المثلث فوقع في قلبه، فرفع رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إنک تعلم أنهم يقتلون رجلاً ليس على وجه الأرض ابن ابنة نبي غيره».

ثم جعل يعالج السهم لينتزعه من مقدمه فلم يقدر، وانحنى على قربوس فرسه وانتزعه من ظهره، فأقبل الدم کالميزاب، فجعل يمد يده تحت قلبه، فإذا امتلأت من دمه خضب رأسه ولحيته وقال: «هکذا ألقى الله وأنا مخضب بدمي» ثم أقبل يتمايل عن سرجه وهو يقول: «بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله| إلى أن وصل إلى الأرض.

[وإن تکن الدنيا تعد نفيسةً****فإن ثواب الله أعلى وأجزلُ]

وهوى ثاوياً على الأرض ذاک الطود****الله کيف تهوى الجبالُ

کادت الأرض والسما أن تزولا****وعلى مثله يحق الزوالُ

وقد جاء في زيارة الناحية المقدسة أن قال(ع):

«فأحدقوا بک من کل الجهات، وأثخنوک بالجراح، وحالوا بينک وبين الرواح، ولم يبق لک ناصر، وأنت محتسب صابر تذب عن نسوتک وأولادک، حتى نکسوک عن جوادک، فهويت إلى الأرض صريعاً تطأک الخيول بحوافرها، وتعلوک الطغاة ببواترها، قد رشح للموت جبينک، واختلفت بالانقباض والانبساط شمالک ويمينک، تدير طرفاً إلى رحلک وبيتک، وقد شغلت بنفسک عن ولدک وأهاليک، وأسرع فرسک شارداً إلى خيامک قاصداً، محمحماً باکياً، فلما رأت النساء جوادک مخزياً ونظرت سرجک عليه ملوياً، برزن من الخدور، ناشرات الشعور، على الخدود لاطمات، للوجوه سافرات، وبالعويل داعيات، وبعد العز مذللات، وإلى مصرعک مبادرات، والشمر جالس على صدرک مولغ سيفه على نحرک، قابض على شيبتک بيده، ذابح لک بمهنده، قد سکنت حواسک، وخفيت أنفاسک، ورفع على القناة رأسک».

مذوعدت مالاح من حال الجواد الصاهلِ***برزت مازقة الجيب بلبِّ ذاهلِ

وغدت تنعى من الخيمات آل الفاضلِ****بصراخ کاد أن يهدم رکن الحرمين

وغدت کلّ من الدهشة تهوي وتقوم****وعلى أوجهها من أثر اللطم کلوم

وحقيق بعدکسفالشمس أنتبدو النجوم****يتسابقن إلى موضع ما خر الحسين

وإذا بالشمر جاثٍ فوق صدر الطاهرِ****يهبر الأوداج منه بالحسام الباترِ

فتساقطن عليه بفؤادٍ طائر***صارخات قائلات: خل يا شمر حسين

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة