من سيرة الحسين: لماذا نبكي حسيناً (عليه السلام) ـ القسم الرابع

img

والأخبار في بکاء الرسول(ص) علی الحسين کثيرة، ومنها: حديث التربة وقد روي بعدة طرق، فمن طرقه ما روي في کتاب أعلام النبوة للماوردي الشافعي، عن عروة بن الزبير، عن أم المؤمنين عائشة قالت: (دخل الحسين بن علي علی رسول الله| وهو يوحی إليه… فلعب علی ظهره، فقال جبرئيل: يا رسول الله: إن أمتک ستفتن بعدک، وتقتل ابنک هذا، ومد يده فأتاه برتبة بيضاء، وقال: في هذه الأرض يقتل ابنک، واسمها الطف.

فلما عرج جبرئيل؛ خرج رسول الله| إلی أصحابه، والتربة في يده وهو يبکی، فقال له الناس ـ وفيهم أبو بکر وعمر وعلي وحذيفة بن اليمان وعمار وأبوذر ـ ما يبکيک يا رسول الله؟ فقال: «أخبرني جبرئيل: أن ولدي الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة»)[1].

ولذلک فإنا نبکي حسيناً تأسياً بالرسول الأعظم|، الذي بکاه قبل قتله، فدل ذلک علی: أنه لو کان حياً بعد قتله لبکاه، وللسيد الرضي(رحمه الله):

ميت تبکي له فاطمةٌ

وأبوها وعليّ ذو العلی

لو رسول الله يحيی بعده

جلس اليوم عليه بالعزا

ذکر ابن شهر آشوب في کتابه المناقب[2]: أن ذرَّة النائحة «رحمها لله» رأت فاطمة الزهراء(س) في المنام؛ واقفة علی قبر الحسين(ع) وهي تبکي، فلما سلمت عليها أمرتها أن تنوح علی الحسين(ع) بهذه القصيدة:

أيها العينان فِيضا

واستهلا لا تغيضا

وابکيا بالطف مذبوحاً

علی الترب رضيضا

لم أمرضه فأسلوه

ولا کان مريضا

وروى الحموي في معجم الأدباء قال: (حدثني الخالع، قال: کنت مع والدي في سنة (1364 هـ ) ، وأنا صبي في المسجد الذي بين الورّاقين والصاغة ببغداد وهو غاص بالناس، وإذا بالرجل قد وافى وعليه مرقعة و في يده سطيحة ــ أي : مزدودة ورکوة ــ ومعه عکاز، وهو أشعث أغبر، فسلم على الجماعة بصوت يرفعه ثم قال: أنا رسول فاطمة الزهراء÷، فقال الناس: أهلاً ومرحباً، ورفعوه.

قال: أتعرفون لي أحمد المزوّق النائح؟ قالوا: ها هو جالس. فقال: رأيت مولاتنا فاطمة الزهراء(س) في المنام فقالت لي: امض إلی بغداد واطلبه، وقل له: نح علی ولدي الحسين(ع) بقول الناشي[3]:

بني أحمد قلبي لکم متقطع

بمثل مصابي فيکم ليس يسمعُ

عجبت لکم تفنون قتلاً بسيفه

ويسطو عليکم من لکم کان يخضعُ

فما بقعةٌ في الأرض شرقاً ومغرباً

وليس لکم فيها قتيلٌ ومصرعُ

ظُلمتم وقتّلتم وقسّم فيئکم

وضاقت بکم أرضٌ فلم يُحمَ موقعُ

کأن رسول الله أوصی بقتلکم

فأجسمامکم في کل أرض توزّعُ

جسومٌ علی البوغا ترمّی وأرؤسٌ

علی أرؤس اللدن الذوابل ترفعُ

توارون لا تأوي فراشاً جنوبکم

ويسلمني طيب الهجوع فأهجعُ

قال: وکان الناشي حاضراً فبکی ولطم رأسه ووجهه، وتبعه أحمد المزوّق والحاضرون کلهم، وکان أشدهم بکاءً: الناشي والمزوق، فناحوا بهذه القصيدة إلی أن صلی الناس الظهر وتقوّض المجلس.

وجهدوا بالرجل أن يأخذ شيئاً فأبی وقال: لو أعطيت الدنيا کلها ما أخذتها، فإني لا أری أن أکون رسول سيدتي فاطمة الزهراء(س) ثم آخذ عن ذلک عوضاً، ثم انصرف ولم يأخذ شيئاً.

وبکاه أبوه لا سيما عندما مر بکربلاء في طريقه إلی صفين، وضمه أخوه الحسن إلی صدره في مرض الموت لما رآه يبکي عليه، فقال: «أتبکي عليّ؟ أنا الذي يؤتی إلي بالسم فأقضي به، ولکن لا يوم کيومک يا أبا عبدالله».

وقد اشتهر عن زين العابدين(ع): أنه عاش بعد أبيه خمساً وثلاثين سنة، ما قُدم بين يديه طعام ولا شراب إلاّ مزجه بدموع عينيه، ويقول: «قُتل ابن رسول الله جائعاً، قتل ابن رسول الله عطشاناً»[4] ويقول ويقول…

وهو أول من عقد مأتماً علی الحسين(ع) بصورة تماثلها صور المآتم الحسينية اليوم، وذلک أنه لما رجع إلی المدينة ودخلها بشر بن حذلم واستفز أهلها بنعيه، وأقبل الناس فطلع عليهم الإمام وبيده خرقة يمسح بها دموع، وجيء له بکرسي فجلس عليه، وهو لا يتمالک من العبرة، فارتفعت أصوات الناس بالبکاء والنحيب، فأومأ إليهم أن اسکتوا فسکتوا.

فافتتح الکلام بحمد الله والثناء عليه ثم قال:

«أيها الناس: إن الله ـ وله الحمد ـ وقد ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبوعبدالله وعترته، وسبيت نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان، فهذه الرزية ما مثلها رزية»[5]، إلی آخر الخطبة، فضج الناس بالبکاء والنحيب، ثم صرخت بعده عمته زينب بالأبيات المشهورة:

مدينة جدنا لا تقبلينا

فبالأحزان والحسرات جينا

خرجنا منک بالأهلين جمعاً

رجعنا لا رجال ولا بنينا

وقد روي عن ولده الإمام الباقر(ع): أنه دخل عليه شاعره الکميت بن زيد الأسدي المتوفی سنة (126) هـ في بعض الأيام، فأنشده قصيدته الميمية:

مَن لقبٍ متيمٍ مستهامِ

غير ما صبوة ولا أحلامِ

فلما بلغ إلی قوله:

وقتيل بالطف غُودر منهم

بين غوغاء أمةٍ وطغامِ

بکی الإمام×، فلما أتی الکميت علی آخرها قال له الإمام: «ثوابک نعجز عنه، ولکن ما عجزنا عنه فإن الله لا يعجز عن مکافئتک، اللهم اغفر للکميت»[6].

ثم أعطاه مالاً فأبی أن يقبله، وطلب منه بعض ثيابه فأعطاه، ودعا له.

قال الکميت: فما زلت أعرف برکة دعائه.

ودخل عليه يوماً فأنشده:

أضحکني  الدهر وأبکاني

والدهر ذو صرفٍ وألوانٍ

لتسعةٍ بالطف قد غودروا

صاروا جميعاً رهن أکفانِ[7]

فبکی الإمام الباقر والصادق‘ وبکت النساء من وراء الستر، ثم قال:

وتسعة لا يتجاری بهم

بني عقيل خير فرسانِ

ثم علي الخير مولاهم

ذکرهمُ هيّج أحزاني[8]

فبکی الباقر وقال: «إنه ما من رجل ذکرنا عنده فخرج من عينيه ولو مثل جناج الذبابة إلاّ جعل الله ذلک حجاباً بينه وبين النار»[9].

«وما من أحد قال فينا بيتاً من الشعر إلاّ بنی الله له بيتاً في الجنة»[10]، ثم قال:

من کان مسروراً بماساءکم

أو شامتاً آناً من الآنِ

فقد ذللتم بعد عزٍّ فما

أدفع ضيماً حين يغشاني

فأخذ الإمام الباقر بيده وقال: «اللهم اغفر لکميت ما تقدم من ذنبه وما تأخر».

فلما بلغ إلی قوله:

متی يقوم الحق فيکم متی

يقوم مهديکم الثاني

قال: «سريعاً إن شاء الله يا أبا المستهل، إن قائمنا هو التاسع من ولد الحسين×؛ لأن الأئمة بعد رسول الله| اثنا عشر، الثاني عشر هو القائم…»[11]. قال: فقلت: يا سيدي فمن هؤلاء الاثنا عشر، فعدّدهم من أولهم إلی آخرهم. فمتی يا فرج الله؟

ماذا يهيجک إن صبرت

لوقعة الطف الفظيعه

وفي المنتخب[12] وغيره[13]: أن الإمام الصادق× کان إذا هلّ هلال عاشوراء اشتد حزنه، وعظم بکاؤه علی مصاب جده الحسين×، فيأتي الناس إليه من کل جانب يعزونه.

وکان إذا دخل عليه أحد من الشعراء أمره أن يرثي له جده×.

ففي المعالي[14] وغيره[15]: عن أبي هارون المکفوف، أنه قال: دخلت علی مولاي الإمام جعفر بن محمد الصادق×، فقال: «أنشدني في جدي الحسين× شعراً»، قال: فأنشدته أبيات السيد الحميري&:

يا راکباً هيماء مرقالاً

جسوراً شدقميهﹾ

بالله إن شمت العراق

وجئت أرض الغاضريهﹾ

أمرر علی جدث الحسين

وقل لأعظمه الزکيهﹾ

يا أعظماً لا زلت مِن

وطفاء ساکبة رويهﹾ

ما لذ عيشٌ بعد رضّک

بالخيول الأعوجيهﹾ

فبکی الإمام الصادق× وقال: «زدني يا أبا هارون، وأنشدني کما تنشدون بالرقة»، قال: فأنشدته:

يا مريم نوحي علی مولاکِ

وعلی الحسين ألا اجهشي ببکاکِ

فصرخت مريم بنت الصادق×: واجداه واحسيناه، وبکت وبکی الإمام×، وتهايج الناس، فلما سکتن قال الإمام×: «يا أبا هارون من أنشد في جدي الحسين، فأبکی عشرة فله الجنة، ثم جعل ينقص واحداً واحداً إلی أن قال: من أنشد فأبکی واحداً فله الجنة، ثم قال: ومن ذکره فبکی فله الجنة»[16]. ولم تکن هذه هي المرة الأولی من سماع الإمام هذه الأبيات، فقد سبق أن أنشدها إياه صاحبها السيد الحميري، فبکی وارتفع الصراخ من داره، حتی أمره بالإمساک فأمسک.

وفي الجزء الأول من المجالس للسيد الأمين& قال: (دخل جعفر بن عفان علی الإمام الصادق× فقربه وأدناه، ثم قال: «يا جعفر»: قال: لبيک يا مولاي، قال: «بلغني أنک تقول الشعر في الحسين وتجيد». فقال: نعم جعلني الله فداک. قال: «قل». فأنشدته فبکی حتی صارت الدموع علی وجهه ولحيته، وبکی کل من حوله.

قال: «يا جعفر: لقد شهدت ملائکة الله المقربون هاهنا يسمعون قولک في الحسين×، ولقد بکوا کما بکينا وأکثر، ولقد أوجب الله لک في ساعتک الجنة بأسرها، وغفر لک. ألا أزيدک يا جعفر»؟ قال: بلی يا سيدي، قال: «ما من أحد قال في الحسين شعراً فبکی وأبکی به، إلا أوجب الله له الجنة وغفر له».

وکان مما أنشده جعفر& للإمام الصادق×:

(لبيک علی الإسلام من کان باکيا

فقد ضيعت أحکامه واستحلتِ

غداة حسين للرماح دريئة

وقد نهلت منه السيوف وعلّتِ

أذاقته حر القتل أمة جده

هفت نعلها في کربلاء وزلتِ

فلا قدّس الرحمن أمة جده

وإن هي صامت للإله وصلّتِ

کما فجعت بنت النبي بنسلها

وکانوا حماة الحرب حتی استقلتِ)[17]

والأخبار المورودة في هذا الباب عن الإمام الصادق× کثيرة.

وروي عن الإمام الرضا× أنه قال: «کان أبي موسی بن جعفر× إذا دخل شهر المحرم لا يُری ضاحکاً أبداً، وکانت الکآبة تغلب عليه، حتی يمضي من الشهر عشرة أيام، فإذا کان اليوم العاشر کان ذلک اليوم يوم حزنه وبکائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه جدي الحسين×»[18].

وعن الرضا× أنه قال: «إن شهر المحرم شهر کان أهل الجاهلية يحرمون فيه القتل والقتال، فاستحلت فيه دماؤنا، وهتکت فيه حرمتنا، وسبيت فيه ذرارينا، وأضرِمت النار في مضاربنا، وانتهب منها ثَقلنا، ولم ترع لرسول الله حرمة في أمرنا»[19]. ثم قال: «إن يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسال دموعنا، وأذل عزيزنا، وأورثنا الکرب والبلاء إلی يوم الانقضاء، فعلی مثل الحسين فليبک الباکون، فإن البکاء عليه يحط الذنوب العظام»[20]

وروی الصدوق في الأمالي والعيون بسنده عن الريان بن شبيب: أن الرضا(ع) قال له: «يا ابن شبيب: إن کنت باکياً لشيء فابک الحسين، فإنه ذبح کما يذبح الکبش، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً ما لهم علی وجه الأرض شبيه، … يا ابن شبيب: إن بکيت علی الحسين حتی تصير دموعک علی خديک غفر الله لک کل ذنب أذنبته صغيراً کان أو کبيراً»[21]. إلی غير ذلک من أقواله(ع).

ودخل عليه دعبل بن علي الخزاعي (رحمه الله) (148 ـ 246 هـ ) ، في أيام عشرة المحرم فرحب به وأدناه، وقال: «مرحباً بناصرنا بقلبه ولسانه»، ثم قال: «يا دعبل أحب أن تنشدني في جدي الحسين(ع) شعراً، فإن هذه الأيام أيام حزن علينا أهل البيت، وأيام سرور علی أعدائنا خصوصاً بني أمية». ثم إنه نهض وضرب ستراً وأجلس أهل بيته من خلفه، وأمر دعبل فأنشد إلی أن قال:

أفاطم لو خلت الحسين مجدلاً

وقد مات عطشاناً بشط فراتِ

إذاً للطمت الخد فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجناتٍ

فبکی الرضا× وقال: «بنفسي أفدي جدي قتيل العداة وساکب العبرات»، واستمر دعبل إلی أن قال:

بنات زياد في القصور مصونةٌ

وآل رسول الله منهتکاتِ

بنات زياد في الحصون منيعةٌ

وآل رسول الله في الفلواتِ

فعلت أصوات النساء بالبکاء والعويل، ونادين: يا جداه يا محمداه.

وهکذا کان باقي الأئمة الطاهرين(ع).

بل وحتی في هذه الأيام وهي أيام الإمام المغيب(ع)، فإنه لابد أن تکون هذه الأيام أيام حزنه ومصيبته#.

فکأني به يحن ويبکي

بسلو نزر ودمع غزير

أما من بکاه من الصحابة «رضي الله عنهم» فکثير، ومنهم: جابر بن عبدالله الأنصاري، وزيد بن أرقم، وسهل بن سعيد الساعدي وغيرهم.

عاشراً: إنا نبکي حسيناً لجليل مصيبته وعظيم رزئه، وفظيع مأساته التي لم يأت الدهر بمثلها أبداً.

لک يا دهر مثلها لا وربي

إنها العثرة التي لن تقالا


(2) أعلام النبوة للمارودي: 182، مجمع الزوائد 9: 188.

(1) مناقب آل أبي طالب4: 63.

(1) هو: علي بن عبدالله بن وصيف الحلاّء البغدادي المتوفی سنة 365 هـ ، له ترجمة في وفيات الأعيان3: 369.

(1) مثير الأحزان:115، مسکن الفؤاد:100 / اللهوف:209.

(2) مثير الأحزان: 113 ، اللهوف: 200.

(1) رجال الکشي: 208 ، رجال ابن داود:281 باختصار وتصرف.

(1) الشعر في مناقب آل أبي طالب 4: 116.

(2) الشعر في مناقب آل أبي طالب 4: 116.

(3) الرواية في کامل الزيارات: 104 / ح1 عن الإمام الباقر(ع)، بتصرف.

(4) عيون أخبار الرضا× 1: 7، بشارة المصطفی: 208، باختلاف يسير.

(1) کفاية الأثر: 248. بتصرف.

(2) ص26.

(3) ثواب الأعمال: 84.

(4) المعالي 1: 159 بتصرف.

(5) ثواب الأعمال: 83 ـ 85 ، في مجالس إنشاد متعددة / کامل الزيارات: 104: 106 في مجالس إنشاد متعددة بتصرف.

(1) نفس المهموم: 36. باختلاف.

(1) البحار، ج45: 286، باب 44 باختصار.

(1) الأمالي للصدوق، مج27:128، ح2 / الإقبال:544 عنه / روضة الواعظين:169.

(2) المصدر السابق.

(3) الأمالي:128 / المناقب، ج4:86 / الإقبال:544.

(4) الأمالي، مج27:129، ح5 / عيون أخبار الرضا، ج1:299 / الإقبال:545، باختلاف بينهم.

الكاتب الشيخ عبد الحميد المرهون

الشيخ عبد الحميد المرهون

مواضيع متعلقة