المنارات الظاهرة في الاستخارات المأثورة عن العترة الطاهرة([1]) ـ 01
تأليف: أبو الحسن سليمان بن عبد الله البحراني([2])
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد يامرشد العقول عند تفويض الأمر إليك إلى حقيقة الحال، وهادي الأنام إذا استخاروك في شؤونهم لما هو أنجح في الحال والمآل، ونصلّي على نبيّك خاتم فص الكمال، المخصوص بالمقامات القدسيّة وشرائف الأحوال، وآله الناسجين على منواله في الأقوال والأخلاق والأفعال. ونسألك أن تنوّر قلوبنا بأنوار هدايتك حتى نستعد لفيوض واردات الجمال الّذي لا يزال، وتلحظ نفوسنا الناقصة بعين عنايتك حتّى تكون همومنا مقصورة على طاعتك الّتي هي السلسل الزلال.
المقدّمة
وبعد: فيقول الفقير إلى ربه المتعالي أبو الحسن سليمان بن عبدالله البحراني الاُوالي ـ وفقه الله سبحانه لتفويض الأمر إليه، وحسن التوكل عليه ـ: قد التمس منّي بعض إخواني في الدين، وشركائي في تحصيل اليقين أنْ أكتب له رسالة وجيزة في الاستخارات، الواردة عن سادة البريّات، ومصابيح الظلمات ـ صلوات الله عليهم ـ واُضيف إلى ذلك جملة من وظائفها وآدابها المنقولة والمعقولة على وجه شريف تستعذبه الطباع، واُسلوب لطيف تهشّ إليه الأسماع.
فأجبت ملتمسه وكتبت هذه الأوراق، وأطلقت عنان القلم بعض الإطلاق، وذكرت جملة من الاستخارات المروية، عن العترة الهادية النبوية، وأشرت إلى بعض آدابها المأثورة، ووظائفها المشهورة، وأضفت إلى ذلك بعض ما سنح للخاطر الفاتر، والنظر القاصر بإلهام الملك القادر، وسمّيتها المنارات الظاهرة في الاستخارات المأثورة عن العترة الطاهرة. والله سبحانه المرجوّ لتوفيق إتمامها، والفوز بسعادة اختتامها جيّدها ورديئها ـ فأنّه لا يهتدى لذلك.
ولو قلت([3]) لسوقي غير صيرفي فربما عجز أيضاً ولا تأمن إلّا بأنْ تعرضها على الصيرفي الخبير بالذهب والفضّة وما فيهما من الخواصّ والأسرار. وهذا علم محيط بجميع الاُمور من جميع الأمور من جميع الوجوه، لا يصلح إلا الله ربّ العالمين وحده لا شريك له؛ فلذلك قال: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾([4]).
ومن عناية الله سبحانه بعباده أنْ فتح لهم هذا الباب، ووضع لهم على لسان أوليائه دساتير يرجعون إليها في استفاضة الرشاد، واستعلام ما هو الأصلح ديناً أو دنيا، فهي ـ لعمري ـ شعبة من شعب الوحي، وفنون من دوحة الإلهام، وناهيك بذلك برهاناً على حسنها وراجحيّتها. وقد استفاضت الأخبار عن العترة الطاهرة بالترغيب فيها. روى الصدوق ـ عطّر الله مرقده ـ في (الفقيه) عن هارون بن خارجة عن أبي عبدالله× قال: «إذا أراد أحدكم أمراً فلا يشاور فيه أحداً من الناس حتى يبدأ فيشاور الله عز وجلّ».
قال: قلت: فما مشاورة الله عز وجلّ جعلت فداك؟ قال: «تبدأ فتستخير الله فيه أوّلاً، ثم تشاور فيه» الخبر([5]).
وسنذكره بتمامه إن شاء الله تعالى([6]).
وروى ثقة الإسلام في (الكافي) بإسناده عن الصادق× قال: «صلّ ركعتين واستخر الله، فوالله ما استخار الله مسلم إلّا خار له البتّة»([7]).
وسيأتي ذكر جملة من الأخبار في أنواع الاستخارات تدلّ على الترغيب فيها، وتنادي برجحانها على أبلغ وجه وآكده.
هذه هي المقدّمة، وأمّا الفصول فثلاثة:
الأول: في آدابها ووظائفها
اعلم أنّ العمدة في إصابة الاستخارة [المخير]([8]) وبلوغ المستخير نهاية المأمول هو كنس حجرة الخيال عن الأهوية النفسانية، وتطهير مشكاة القلب عن الخواطر الشيطانية، والتحقّق بمرتبة الرضا الّتي هي الكيمياء الأكبر، وقد أشار الصادق× إلى ذلك فقال×: «من استخار الله مرة واحدة وهو راضٍ [بما صنع الله له]([9]) خار الله له حتماً»([10]).
ورتب الجزاء الذي هو مطمح نظر المستخير ومرمى أمله على الاستخارة المقرونة بالتحقق بمرتبة الرضا، ثم أكّد الملازمة المفهومة من الشرطية بتقييد الجزاء بالحتمية، وحينئذٍ فينبغي للمستخير ألّا ينزع لأحد الطرفين بمجرّد هواه، بل يفوضهما إلى جنابه جلّ شانه.
وقال السيّد الجليل ذو الكرامات رضيّ الدين علي بن طاووس الحسينيّ([11]) ـ قدس الله روحه، وتابع فتوحه ـ: (إنّ من آداب المستخير أنْ يتأدّب في صلاته كما يتأدّب السائل المسكين، وأنْ يقبل بقلبه على الله تعالى في سجوده للاستخارة ويقول: استخير الله برحمته خيرة في عافية. وكذا إذا رفع رأسه من السجدة، وألّا يتكلّم بين أخذ الرقاع ولا في أثناء الاستخارة إلاّ بالمرسوم؛ لأنّ ذلك من قلة الأدب، ولقول الجواد× لعلي بن أسباط: «ولا تكلم أحداً بين أضعاف الاستخارة حتى تتم مائة مرة»([12])، فإذا خرجت الاستخارة مخالفة لمراده، فلا يقابلها بالكراهة بل بالشكر؛ كيف جعله الله أهلاً أن يستشيره([13]).
وذكر المفيد& في الرسالة العزيّة أنه لا ينبغي للإنسان أنْ يستخير الله تعالى في شيء نهاه عنه ولا أداء فرض، وإنما الاستخارة في المباح. وترك نفل إلى نفل لا يمكن الجمع بينهما كالحج والجهاد تطوعاً، أو زيارة مشهد دون آخر، أو صلة أخٍ دون آخر([14]).
وذكر ابن باقي في مصباحه أنّه ينبغي أنْ يكون في يد المستخير خاتم عقيق مكتوب عليه: محمد وعليّ، ويضرب بيده اليمنى ويأخذ أحد السهمين، فإنّه المحمود في العاجلة والآجلة إن شاء الله تعالى.
ولا يخفى عليك أنّ الاستخارة نوع من الدعاء كما أسلفناه في المقدمة، فجميع آدابها آدابه، فينبغي أنّ يترصّد المستخير لاستخارته الأوقات الشريفة كيوم الجمعة ـ خصوصاً ساعتيه المأثورتين ـ وليلة الجمعة كلها، والثلث الأخير من الليل والساعة السابعة من الليل وليالي القدر الثلاث سيما ليلة الجُهنيّ([15]) وأيامها، وليلة عرفة والمبعث والأعياد الثلاثة وأيامها وليالي الأحياء الأربع([16])، ويوم المولد ويوم النصف من رجب، بل كلّ ليلة منه، والأشهر الحرم الأربعة. قيل: أحقّها بالإجابة رجب، وذو القعدة([17])، ولم أقف على مأخذه.
وعند زوال الشمس من كلّ يوم… وغير ذلك من الأوقات الشريفة.
وأنْ يغتنم الأحوال الشريفة كهبوب الرياح، ونزول المطر، وأوّل قطرة من دم القتيل؛ فإنّ أبواب السماء تفتح عندها كما روي عن الصادق×([18])، وعند قراءة القرآن، وعند نزول الغيث([19])، وبعد الفجر، وبعد الظهر، وبعد المغرب([20]). قال بعض الأكابر: وشرف الأوقات ـ في الحقيقة ـ راجع إلى شرف الحالات([21]).
وينبغي الإسرار بدعائها؛ لقوله تعالى ﴿ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾([22]).
وروى إسماعيل بن همام عن الرضا×: أنّ «دعوة العبد سرّاً دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية»([23]).
وفي رواية اُخرى: «دعوة تخفيها أفضل من سبعين دعوة تظهرها»([24]).
وينبغي ألّا يتجاوز الدعوات المأثورة، وأنْ يجتهد في التضرّح والخشوع، وأنْ يدعو دعاء الغريق بصدق إخلاص واضطرار؛ ففيما أوحى الله إلى عيسى×: «يا عيسى ادعني دعاء الغريق الحزين الذي ليس له مغيث، وأسمعني منك صوتاً حزيناً»([25]).
وأنْ يجزم بالدعاء ويوقن بالإجابة، فقد روى ثقة الإسلام في (الكافي) عن الصادق×: «إذا دعوت فظنّ أن حاجتك بالباب»([26]).
وعنه× قال: «إذا دعوت الله فأقبل بقلبك ثم استيقن بالاجابة»([27]).
وينبغي ألّا يخلو الدعاء من الصلاة على النبيّ وآله، فقد روى هشام بن سالم عن أبي عبدالله× قال: «لا يزال الدعاء محجوباً حتى يصلّى على محمد وآل محمد»([28]).
وينبغي تسمية الأمر الّذي استخار فيه كما ذكره العلاّمة في (المصباح) والكفعميّ في (البلد الامين)([29])؛ لما رواه ثقة الإسلام في (الكافي) عن الصادق×: «إنْ الله تعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه، ولكنه يحب أنْ تبثّ إليه الحوائج، فإذا دعوت فسمّ حاجتك»([30]) تقضّ إن شاء الله.
والأصل في أدب الباطن التوبة وردّ المظالم والإقبال على الله بكنه إلهيّته، واليأس مما عداه، قال الصادق×: «احفظ أدب الدعاء، وانظر من تدعو، وكيف تدعو، ولماذا تدعو، وحقق عظمة الله وكبرياءه، وعاين بقلبك علمَه بما في ضميرك واطّلاعَه على سرّك… فإنْ لم تأت بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة»([31]).
وبالجملة، فآداب الدعاء كلها آداب الاستخارة فينبغي المحافظة عليها.
يتبع…
______________________________
([1]) في الرسالة إضافات اقتضاها السياق، وقد وضعناها بين معقوفين دون الإشارة إليها في الهامش.
([2]) هو الشيخ أبو الحسن شمس الدين سليمان بن عبدالله بن علي الستري البحراني.
ولد ليلة النصف من رمضان من سنة (1075) هـ في قرية الماحوز. انتهت إليه رئاسة بلاد البحرين في زمانه، وسكن بلاد القديم؛ لان أهالي تلك البلاد إذا انتهت رئاسة بلدهم آنذاك إلى أحد ولم يكن من سكنة بلاد القديم نقلوه إليها.
وكان شاعراً مؤلّفاً نظم الكثير في مدح أهل البيت ومراثيهم.
له من المؤلّفات: (أزهار الرياض)، و(الأربعون حديثاً)، و(الفوائد النجفيّة)، و(الشافي في الحكمة النظريّة)، وغيرها.
توفي& في (17 / رجب / 1121هـ) في بلاد القديم، ودفن في (الدونج) عند مقبرة الشيخ ميثم بن المعلّى جدّ الشيخ ميثم البحراني.
لؤلؤة البحرين: 7 ـ 13 / 2، أنوار البدرين: 132 ـ 139/ 69.
([5]) الفقيه 1: 355 / 1553، وسائل الشيعة 8: 74 ـ 75، أبواب صلاة الاستخارة، ب5، ح2، وفيه: «تبارك وتعالى» بدل: «عزّ وجلّ».
([7]) الكافي 3: 470/ 1، وسائل الشيعة 8: 63، أبواب صلاة الاستخارة، ب1، ح1.
([9]) من المصدر، وفي المخطوط: «به».
([10]) المحاسن 2: 431 / 2495، وسائل الشيعة 8: 80، أبواب صلاة الاستخارة، ب ، ح4.
([11]) في كتاب (فتح الأبواب) الموضوع في الاستخارة. منه&. (هامش المخطوط).
([13]) فتح الأبواب: 298 ـ 301.
([14]) عنه في فتح الأبواب: 176.
([15]) مجمع البيان 10: 693، البلد الأمين: 708.
([16]) وهم: نبيّا الله إدريس وعيسى’، والخضر× وإمام العصر والأوان (عج).
([18]) الكافي 2: 476 ـ 477/ 2.
([21]) نسبه في المحجّة البيضاء 2: 287، إلى أبي حامد.
([25]) المحجة البيضاء 2: 293، ورواه في الكافي 8: 121 / 103، ولم ينقل قوله: «وأسمعني منك صوتاً حزيناً».
([26]) الكافي 2: 473/ 1، باب اليقين في الدعاء.
([27]) الكافي 2: 473 / 1، باب الإقبال على الدعاء.
([29]) البلد: 710، وفيه: تسمية الحاجة للدعاء لا تسمية الأمر للاستخارة، ويعضده حديث الكافي.
([31]) مصباح الشريعة: 132 ـ 133، وفيه: «فلا تنظر الإجابة». بحار الأنوار 90: 332 / 36.