الرسالةُ العاشورية (في تحقيق صوم عاشوراء) ـ 09
تأليف: العلامة المحقق الشيخ أحمد بن صالح آل طعّان البحراني القطيفي& (ت 1315هـ)
وينفرد الشرعي بصورة الأكل أو الشرب ناسياً، على فرض صدق التّعريف الاصطلاحي على هذه الصورة بجعلها في حكم الإمساك عن المفطرات في الوقت المخصوص مع النيّة لصدق الشرعي حينئذٍ دون اللغوي، لعدم إرادة قيد حال العلم في اللغوي بخلاف الاصطلاحي.
وحيث كانت هذه الصورة غير خالية من شيء التجأ بعضهم إلى جعل النسبة بين المعنى الثاني اللغوي وبين المعنى الشرعي التساوي، إلّا أنّ فيه كرّاً على فرّ، للزوم صدق الشرعي في صورة انفراد اللغوي، فتدبّر.
فعلى فرض كون النسبة العموم والخصوص من وجه يرجعان لسالبتين جزئيّتين وموجبتين كذلك، إذ يقال: ليس بعض الصوم اللغوي صوماً شرعيّاً، وليس بعض الصوم الشرعي صوماً لغويّاً، وهكذا في طرفي الإيجاب.
وعلى فرض التساوي يرجعان لموجبتين كلّيتين من الطرفين.
فتقرّر من هذا أنّ الصوم اللغوي والإمساك متساويان، وأنّ الصوم الشرعي والإمساك مختلفان.
نعم، بقي شيء ينبغي التنبيه عليه، وهو أنّ استعمال الشارع الصوم في المعنى الشرعي هل هو من باب النقل لحصول المناسبة بين المعنيين التي هي أمارة النقل، أو من باب التخصيص؛ لأولويّته من النقل بعدم إخراجه للباقي عن الحقيقة؛ ولأولويّته من المجاز الذي هو أولى من النقل؟ وجهان بل قولان، أظهرهما ترجيح التخصيص، كا تقرّر في محلّه.
وبعضُ المحقّقين بنى أولويّة النقل على القول بثبوت الحقائق الشرعيّة، وأولويّة التخصيص على القول بعدم الثبوت([1]).
والذي يختلج في الفهم الكليل والنظر العليل احتمال جريان الوجهين على كلا القولين؛ لأنّ المراد: ملاحظة الوجه في استعمال الشارع الصوم ـ في خصوص هذا المعنى ـ أعمّ من كونه حقيقةً أو مجازاً مشهوراً، والله العالم العاصم.
وأمّا قوله ـ أصلح الله له الحال والبال وبلّغه الآمال في المبدأ والمَآل ـ: «وما العصر وما الساعة في قول سليل صاحب الشفاعة: «بعد العصر بساعة»؟
فاعلم ـ علّمك الله الخير وأماط عنك الأذى والضير ـ: إنّ المراد بالعصر ما هو ظاهر لفظه الشريف وكلامه المنيف من تحديد وقت الإفطار بمضي ساعة من النهار من بعد أداء صلاة العصر، التي وقع إجماع الأصحاب واستفاضت الصحاح الصراح عن الأئمّة الأطياب بأنّ أوّل وقتها ـ بمعنى أوّل جزء تصحّ فيه وتفسد قبله ـ هو الفراغ من سابقتها الواقعة في زمان يحكم فيه شرعاً بصحّتها على حسب حالاتها وصفاتها من السفر والحضر، والأمن والخطر، وحصول الشرائط وفقدانها فراغاً حقيقيّاً فعليّاً، أو حكميّاً شأنيّاً.
فعلى هذا المعنى السديد لا ينافي ما ذكرناه من التحديد ما دلّ من الأخبار على توقيتها بانقضاء فضيلة الظهر([2]).
وما ورد من أنّ ابتداء وقتها القدمان([3])، أو الذراعان([4])، أو المثلان([5])، أو نحو ذلك بعد صلاة الظهر؛ إذ سبيله؛ إمّا الحمل على الاستحباب كما نقله في (المدارك)([6]) عن جمع من الأصحاب([7])؛ أو على إرادة التأخير لأداء النافلة كما في الظهر، إمّا للمتنفّل خاصّة أو مطلقاً على حسب حال المتنفّلين؛ أو على التقيّة من اُولئكَ النُصّاب، لاسيّما إن اُريد منها الإيجاب، كما تُشعِر به رواية أبي خديجة عن أبي عبدالله× قال: سأل إنسانٌ وأنا حاضر، فقال: ربّما دخلت المسجد وبعض أصحابنا يصلّي العصر وبعضهم يصلّي الظهر؟ فقال: «أنا أمرتهم بهذا، لو صَلَّوا على وقت واحد لَعُرِفُوا، فاُخِذُ برقابهم»([8]).
وهي ظاهرة في المراد، جامعة بين أخبار الباب كما لا يخفى على اُولي الألباب.
وكيف كان، فلا دلالة لشيء منها على بطلان العصر متى اُوقعت بعد الفراغ من صلاة الظهر، ولو بلا فاصل ما، وهل المراد بالوقت إلّا هذا.
لكنّ الظاهر من قرائن المقام أنّ مراده× هو ما بعد فضيلة الظهر خاصّة من هذا الكلام:
أمّا أوّلاً: فلأنّ قصده× منه إنّما هو التحديد، وهو لابدّ أن يكون بوقت مخصوص لا يختلف بالقريب والبعيد، وإيكال الحدّ لما بعد الفراغ من الظهر ناءٍ من صقع الانضباط نازح عن سواء الصراط لاختلاف الأشخاص في طول الصلاة وقصرها، وتقديمها وتأخيرها، والإتيان بالنافلة وتركها، واختلاف المتنفّلين أيضاً في أحوال النوافل ووظائفها.
وأمّا ثانياً: فلأنّ التعليل بقوله×: «فإنّه في مثل ذلك الوقت من ذلك اليوم انجلت الهيجاء… إلى آخره»([9])، إنّما ينطبق على تأخير العصر بذلك المقدار لوقوع قتل الحسين× بمقتضى التواريخ بين الظهر والعصر بعد أن صلّى الظهر ـ روحي له الفداء ـ بأصحابه النجباء.
فإنّ انجلاء الغمّة إنّما وقع بعد قتل الحسين× سراج الظلمة وأصحابه ذوي الشرف القصير([10]) وعلوّ الهمّة، ورفع الحرج عن النساء والأطفال من أهل بيت العصمة في شرب الماء بعد أن يبست أكبادهم من الظمأ، وبعد انطفاء نار الحرب العوان، وفراغ أهل الظلم والعدوان من القتل والتجهيز على حزب الرحمن، وذلك لا يكون إلّا بعد مضي تلك المدّة والزمان.
يتبع…
___________________________
([2]) التهذيب 2: 257/ 1020، الوسائل 4: 128، أبواب المواقيت، ب 4، ح14.
([3]) الفقيه 1: 140/ 649، الوسائل 4: 140، أبواب المواقيت، ب 8، ح1، ح2.
([5]) التهذيب 2: 22/ 62، الاستبصار 1: 248/ 891، الوسائل 4: 144، أبواب المواقيت، ب8، ح13.
([7]) منهم: المفيد في المقنعة (سلسلة مؤلفاته) 14: 93، وابن الجنيد، نقله عنه في الذكرى: 119، وكذلك الشهيد في الذكرى: 119.
([8]) الكافي 3: 276/6، التهذيب 2: 252/ 1000، الاستبصار: 257/921، وفيهما: (فأُخذوا).
([9]) مصباح المتهجد: 724، إقبال الأعمال 3: 65، الوسائل 10: 458، أبواب الصوم المندوب، ب20، ح7.
([10]) أي أنّ أنسابهم معروفة، فذكر الابن يكفي عن الانتماء إلى الجد. لسان العرب 11: 186، القاموس 2: 168.