وحدة الجماعة ضرورة إسلامية ـ 07
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
سعادة الروح وسعادة البدن
يظن البعض من الناس أن السعادة تكمن في المشاتي أو المصائف التي يرتادونها؛ حيث المناظر المذهلة؛ وحيث الطبيعة تزدان بأجمل ما أودع الله تبارك وتعالى فيها من قدرة خلّاقة خلّابة تسحر العقول وتخلب الألباب. مع أنه ينبغي عليه أن يتنبه إلى أن هذه وإن كانت سعادة فعلية، لكنها سعادة زائلة، وإلى أن السعادة الحقيقية الباقية التي لا تفنى ولا تذهب هي سعادة الروح… السعادة التي تأخذ بيد الإنسان إلى مهابط الوحي، ومدارج النبوة، وآثار أقدام جبرائيل×.
رمل النقا ووادي قديد
يقول أحد الشعراء المعاصرين:
أيها الغارقون في همسات *** نال منها حتى أخس القرودِ
هاهنا يطفأ الغليل فهيا *** ننزلِ الرحل عند نبع برودِ
الجنان المفوّفات هراء ***جنب رمل النقا ووادي قديدِ
السعادات ليستِ الّا بدرب اللـ***ـه في اُفقه الكريم السعيدِ
فكل جنان الأرض، وكل بقاعها المخضرة المزهرة لا تعدل لحظة واحدة من اللحظات التي يقضّيها الإنسان في ظلّ الكعبة المشرّفة حيث يستمتح منها نفس رسول الله|، ويستنفح من أجوائها عبير مهابط الوحي، وحيث مدرج أهل البيت^ سيما وهو يلمح على تلك الرمال المقدسة طيوف النبوّة، وآثار أقدام النبي محمد| وصحبه. إنه منظر يأخذ الإنسان إليه بكل كيانه، ويهزّه من كلّ أعماقه، ويشدّه شدّاً إلى تلك البقعة المباركة التي أبى الله تبارك وتعالى إلّا أن تكون رمزاً لوحدة المسلمين، ولتكاتفهم، واتّفاق كلمتهم، واجتماع أمرهم.
وهذا أمر ثابت لا غبار عليه؛ لأنه لا يمكن لأحد أن ينكر أن هذه البقعة المشرّفة هي محطّ أقدام المسلمين جميعاً، ومطمح أنظارهم من كل بقاع المعمورة وبلدانها؛ فمن شرق الأرض وغربها، ومن شمالها وجنوبها، ومن أسود الناس وأبيضهم وأشقرهم نجد أن هؤلاء جميعاً يتوجّهون إلى هذه البقعة المباركة مرتدين لباساً واحداً يذكّرهم بالموت والآخرة حتى يبتعدوا في تلك اللحظات القدسية والنفحات الإلهية عن كل ما يذكّرهم بالدنيا وحطامها الزائل، ومتاعها الفاني. فهل يوجد في الأرض منظر أجلّ وأعظم وأكبر من هذا المنظر الذي تشرئب إليه الأعناق، وترتجف عنده القلوب، وتقشعر له الأبدان خشية من الله تبارك وتعالى وإيمانا منها به، ورغبة في اتباع تعاليم دينه الحنيف ونبيه الشريف|؟
ومن هنا فإننا نسأل الله تبارك وتعالى أن يلهم القائمين عن الكعبة آلية احتضان المسلمين جميعاً احتضاناً مشفوعاً بحبّهم وإرادة الخير لهم، ومأخوذاً فيه أنهم جميعاً أبناء دين واحد. كما نأمل منه جلّ شأنه أن يجعل تفكيرهم ذا اُفق واسع عريض يمتدّ إلى ما هو أوسع من الاُفق الحالي الذي هم عليه، والذي يتمّ بموجبه معاملة بعض المسلمين معاملة غير لائقة. وقد ذكرنا مراراً وتكراراً أن الإنسان حينما يختلف مع الآخرين في الفروع، أو حتى في بعض مسائل الاعتقاد التي لا توجب كفراً فإن من المفترض بكلّ مسلم ألّا يكفّر الآخرين، وألّا يعتبرهم خارجين عن ربقة الإسلام الحنيف، وعن إطار الإيمان الحقّ. فكل له دليله وطريقه، وكل يستند إلى برهان وحجّة فيما يقول به، ويذهب إليه.
تحريم متعة الحجّ
ومن موارد هذه الاختلافات الفقهية التي ذكرنا أنها لا ينبغي أن تقود إلى تكفير الآخرين، ولا أن تولّد حساسية عالية عند بعضهم ضدّ بعض ما يذهب إليه الخليفة الثاني من مخالفة لحكم شرعي ثابت، فيرى أن الحج والعمرة يقعان في شهر واحد، وهو ما يسمى بحج القران، وأن على الحاجّ أن يقرن حجّه بعمرته، وليس له أن يتمتّع بينهما، فحرّم بهذا متعة الحجّ([1]). مع أننا نرى أن عمل بعض المسلمين الآن هو على أن الحج والعمرة وإن كانا في شهر واحد، فإن للمسلم أن يتمتّع بينهما، فحينما يعتمر فعليه أن يحجّ كذلك بعد التمتّع بينهما ([2]).
والاختلاف في هذه المسألة، وعدم أخذ طائفة من المسلمين بها لا يعني تكفيرهم، ولا يستدعي إخراجهم من ربقة الإسلام الحنيف، ولا يوصل الأمر مع الطرف الثاني إلى رمي الآخرين بالكفر والشرك. ولذا نقول له: إن هذا الذي اختلف معكم في هذا الرأي إنما يستند إلى حجة وبرهان واضحين قويين في مقابل ما عند ذلك المخالف في هذه المسألة من حجة وبرهان. فإذا كان الدليل ناهضاً، وكانت الحجة قوية متينة، فلماذا إذن يمتنع الإنسان عن اتّباعهما والأخذ بهما؟ ولماذا يصبح اتّباع الدليل والحجة الناهضين القويين مدعاة للعداوة والشحناء والبغضاء بين أبناء الدين الواحد، وأتباع هذين ـ الدليل والحجة الواضحين ـ أعداء لكم تشرّعون تكفيرهم وقتلهم؟
وعليه فالكعبة المشرّفة إذن إنما هي مصدر من مصادر الوحدة الإسلامية؛ فهي تجذب الناس جميعهم من شرق الأرض وغربها، وتصهرهم كلهم في بوتقة واحدة هي بوتقة السماء وبوتقة الإسلام؛ حيث فيها العظيم والكبير والصغير والملك والسوقة سواء، فهم كلّهم في مستوى واحد، وفي لباس واحد، وفي موضع واحد لا يفضل أحد منهم الآخر، ولا يحقّ له أن يمتاز عليه اعتماداً على منصبه أو منزلته الدنيوية؛ فكل هؤلاء في مستوى واحد: ﴿الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾([3]) فهم جميعاً يلبسون إحرامهم المتكون من القماش الأبيض، وبه يسعون ويطوفون، ويتحرّكون جيئة وذهاباً، طالبين رحمة الله تبارك وتعالى، ورضوانه في ظله الظليل، حيث نجد أن القلوب واجمة، والعيون شابحة، والنفوس والعقول كلها شاخصة متوجّهة إلى لطف هذا الإله العظيم الرحيم ترجو نواله وعطاءه، ورفده وجزاءه:
رشحة من عطائك الغمر يا ر***بّ فمنك العطاء محض الجودِ
يا ندى يبتدي فيعلي ويعطي الـ***ـخير حتى لمجرم وحسودِ
إنني جئت أنتحي منك باباً*** لا بذي شحّة ولا المسدودِ
ربُّ والكون مبدأً ومعاداً ***هو من فيض مبدئ ومعيدِ
رب فارحم عبداً ألحّ عليه الـ***ـضر وارفق بناحل مثل عودِ
يا جلالاً ويا جمالاً ويا ربـ***ـاً تسامى بالعدل والتوحيدِ
كل شيء ثغرٌ يناجيك بالكو***ن بلحن التسبيح والتحميدِ
وهذا الأمر هو الذي بسط يد المساواة على جميع المسلمين، ومن أجل هذا نجد أن ابن الثمانين سنة كما ابن العشرين كليهما يهرول ساعياً بين الصفا والمروة، وهما يناديان بذلك النداء الخالد: «لبيك اللهم لبيك»، وقد أضحيا كتلة متراصّة من الإيمان والانقطاع إلى الله تبارك وتعالى، وصارا منبعاً من الشعور بضرورة التوجّه إليه جل شأنه؛ للاستفتاح بخير جوده تعالى، والاستنفاح من فيض وجوده سبحانه، ومن أنفاس نبيه الأكرم محمد|، والامتياح من وهج الوحي المشرّف الذي نزل عليه في هذه البقعة المشرفة ليكون به ﴿شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً﴾([4]).
المصدر الثالث: العترة المشرّفة
ومن مصادر الوحدة عند المسلمين التي من المفترض أن تكون مصدراً هامّاً وممتدّاً مع المسلمين امتداد الزمن: العترة النبوية المطهّرة (على جدّهم وعليهم أفضل الصلوات، وأتم التحيات والتسليمات) التي لم يرعَ الأمويون ولا العباسيون لها حرمة، ولا إلّاً ولا ذمّة.
يتبع…
__________________________________
([1]) حيث قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله|، وأنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما. وفي رواية اُخرى: ومعاقب عليهما. انظر: الجامع لأحكام القرآن 2: 133 / 5، المبسوط 4: 27، المغني 7: 572. شرح نهج البلاغة 1: 182 ـ 183.وقد ذكرنا فيما مضى نكتة علمية في المقام لا بأس بذكرها هنا إتماماً للفائدة، فنقول: ولنا هنا وقفتان:
الاُولى: أنه لا شيء يمنع أو يحول دون قراءة قوله: أعاقب بالمجهول؛ مع إمكان قراءتها بالمعلوم. والسياق لا يساعد على نفي إحداهما، ولا على إثبات الثانية، فيبقى احتمال كليهما قائماً، والقول بأي واحد منهما ممكناً. على أنه هناك دليل ثانٍ على الاحتمال الأول ـ قراءة المجهول ـ يرسمه اعتراف منه صريح على أنه قام بتحليل ما حرّم الله تبارك وتعالى؛ لتدخّله فيما ليس من شأنه. وممّا يذكر في المقام أن القاضي يحيى بن أكثم سأل رجلاً من أهل البصرة، فقال له: بمن اقتديت في تحليل المتعة؟ فقال له: اقتديت في تحليلها بالخليفة عمر بن الخطّاب. فقال له: كيف ذلك، وهو قد حرّمها؟ قال: حيث قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله|، وأنا أنهى عنهما واُعاقب عليهما. فقبلنا شهادته، ولم نقبل تحريمه. الصراط المستقيم 3: 276 – 277، محاضرات الاُدباء 3: 214. وسئل ابن عمر عن متعة الحج، فأمر بها، فقیل له: إنّك تخالف أباك في هذا. فقال: عمر لم يقل الذي تقولون. فلمّا أكثروا عليه، قال: أفكتاب اللّٰه أحقّ أن تتّبعوا، أم عمر؟ المغني 3: 246
الثانية: أن موضوع النسخ المدّعى في المقام فيه نقاش؛ فقد روى الطبري عن شعبة عن الحكم أنه قال: سألته عن هذه الآية: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ﴾ أمنسوخة هي؟ قال: لا. ثم قال الحكم: قال علي (رضي الله عنه): «لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي». انظر: جامع البيان 5: 19، تفسير الثعلبي 3: 286، تحفة الفقهاء 2: 119، بدائع الصنائع 2: 273، البحر الرائق 2: 586، 3: 190، نيل الأوطار 6: 271. وقال ابن أبي الحديد في شرحه: قال عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا محرمهما، ومعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج. وهذا الكلام وإن كان ظاهره منكراً، فله عندنا مخرج وتأويل، وقد ذكره أصحابنا الفقهاء في كتبهم. وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة، يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد، ويتوهم من تحكى له أنه قصد بها ظاهراً ما لم يقصده، فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله|، ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها، ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته، ولم يتحفظ منها. وكان الأحسن أن يقول: مغمور، أو مغلوب بالمرض، وحاشاه أن يعني بها غير ذلك. شرح نهج البلاغة 1: 182 ـ 183. وهذا إقرار منه بغلظة الرجل، ومحاولة منه لتبرير هذه الغلظة والغلطة، وهذا اللون من التصرفات التبريرية يتبناه هؤلاء عادة لا لشيء إلّا لتصحيح أخطاء الحاكمين وهفواتهم. وننوّه إلى أن كلمة «معاقب» يجري فيها من إمكان البناء للمجهول ما يجري في الرواية الاُخرى من قوله: «اُعاقب».
([2]) قال الشريف المرتضى+: «ومما انفردت به الإمامية القول بأن التمتع بالعمرة إلى الحج هو فرض الله تعالى على كل من نأى عن المسجد الحرام، لا يجزئه مع التمكن سواه. وصفته أن يحرم من الميقات بالعمرة، فإذا وصل إلى مكة طاف بالبيت سبعاً، وسعى بين الصفا والمروة سبعاً، ثم أحلّ من كل شيء أحرم منه، فإذا كان يوم التروية عند زوال الشمس أحرم بالحج من المسجد الحرام، وعليه دم المتعة… وخالف باقي الفقهاء في ذلك كله إلّا إنهم اختلفوا في الأفضل من ضروب الحج… وقال أبو يوسف: التمتع بمنزلة القران وهو قول ابن حي. وكرّه الثوري أن يقال: بعضها أفضل من بعض. وقال مالك والأوزاعي: الإفراد أفضل. وللشافعي قولان؛ أحدهما أن الإفراد أفضل». الانتصار: 238 – 241 / 123.