وحدة الجماعة ضرورة إسلامية ـ 06
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
من تطبيقات الابتعاد عن تعاليم الدين
ولو أننا رجعنا إلى تاريخ البشرية لوجدنا أن حالة حصول التشرذم والتفكّك بين أبناء الدين الواحد نتيجة ابتعادهم عن دينهم، وعدم امتثالهم لتعاليمه، ورفضهم لمبدأ الوحدة القائم على ضرورة التوجه بالعبادة إلى الله تبارك وتعالى وحده دون عبادة النفس والهوى أمر واقع بين أبناء كثير من الأديان؛ نتيجة ابتعادهم عمّا أشرنا إلى أنه عنصر هامّ ودعامة ضرورية في حفظ الوحدة بينهم، وهو ما نلمسه في الكثير من الحروب التي حصلت بين أبناء الدين الواحد، ومنها:
أولاً: التناحرات الطائفية بين أبناء الديانة المسيحية
فالحروب التي وقعت بين أبناء الكتل المسيحية داخل الديانة الواحدة أمر مشتهر كما هو الحال في الصراع الذي دار بين الكاثوليك والبروتستانت، وهو صراع أدى إلى إزهاق الكثير من الأنفس والأرواح، وتضييع الوفير من الأموال والممتلكات، فضلاً عمّا صاحب ذلك من عرقلة النمو والإنتاج الوطني للدول المتناحر أفرادها، وتأخير مسيرة الحركة الاقتصادية فيها؛ الأمر الذي قاد إلى حالات تجويع وفقر بين أفرادها.
ثانياً: التناحرات الطائفية بين أبناء الديانة الإسلامية
ومثله الصراع الذي حدث بين أبناء المذاهب الإسلامية في شتى بقاع الأرض الخاضعة لحكم الدولة الإسلامية؛ نتيجة عدم امتثال المسلمين لتعاليم كتابهم الكريم، وأوامر نبيهم العظيم| القاضية بضرورة تحصيل كل مقومات الوحدة بينهم، وتطبيقها قدر الإمكان، والسعي إلى تحقيق ذلك سعياً حفيّاً في حدود طاعة الله تبارك وتعالى. إذن فمع ابتعاد المسلمين عن دينهم وتعاليمه تعدّدت الآراء واختلفت المذاهب؛ فحصلت بذلك مشكلة عويصة أدت إلى نشوب الاقتتال والتناحر بين أبناء الأمة الواحدة، الأمر الذي يعني انعدام مبدأ الوحدة والتكاتف عندهم.
مدافع الفقهاء
ولو أننا أردنا أن نقول كلمة حقّ في هذا المقام، ونتتبع الطريق اللاحب للوصول إلى جذور هذه الحقيقة المرة التي عاشها المسلمون وهي التناحر والاقتتال؛ لمعرفة أسبابها، ووضع الحلول الناجعة لها، فسنجد أن السبب الأول والرئيس فيها هو مجموعة من الفقهاء الذين باعوا ذممهم وضمائرهم من أجل كسب رخيص، أو من أجل رضا سلطان جائر ولو كان في تحصيل رضاه تحصيل لغضب الله تعالى ([1])، أو لتحصيل منفعة مادية دنيوية تتنافى مع طبيعة الوظيفة التي تسنّموها، وهي العلم والفقاهة والاجتهاد التي ينبغي أن تأخذ بأيديهم إلى أن يكونوا أدوات للخير والصلاح والإصلاح في المجتمع، ووسيلة من وسائل توحّده وابتعاده وإبعاده عن التشرذم.
وعلى أية حال فإن هؤلاء الفقهاء كان لهم دور كبير وفعال في نشوب الأزمات بين أبناء الطوائف والمذاهب الإسلامية الذين ينبغي أن تجتمع كلمتهم على شعار «لا إله إلا الله، محمد| رسول الله»، وعلى القرآن الكريم كتاباً موحِّداً، والقبلة الواحدة؛ فكل يحجّون بيتاً واحداً، ويصلون خمس صلوات في اليوم إلى قبلة واحدة، ويصومون شهراً واحداً في العام وما إلى ذلك، لكن هؤلاء كان لهم دور سلبي كبير وواضح نتيجة تلك الفتاوى التي طرحوها في الباب، والقاضية بتكفير طائفة ما، أو بقتل أفرادها كما حصل في بعض الموارد التي أدت إلى نشوب حروب واقتتال بين أبناء الطوائف الإسلامية نتيجة هذه الفتاوى البائسة، مع أننا نعرف أن الفقيه ليس مقدّساً، ولا غاية للمسلم، بل إنه وسيلة وطريق لتحصيل الحكم الشرعي من مداركه الشرعية المقررة، وهي في الأساس القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، فضلاً عن المدارك الأخرى المعتبرة عند المذاهب مع اختلاف هذه المدارك، ومع الاجتماع على اعتبارها أو الاختلاف فيه.
إذن فالفقيه إنما هو طريق لتحصيل الحكم الشرعي بعد أن كانت وظيفته هي استنباط هذا الحكم من مظانّه الشرعية، فيكون بهذا وسيلة وطريقاً إلى تحصيل الحقيقة، وليس هو الغاية والهدف حتى يؤخذ قوله مأخذ المسلمات فيعمل به ولو كان قوله هذا منافياً لمقررات الإسلام الحنيف، وأساسياته الثابتة، ومقرّراته الراسخة.
المصدر الثاني: القبلة
وتأكيدنا على أنه المصدر الثاني من مصادر الوحدة الإسلامية؛ ذلك أن المسلمين جميعاً إنما يتوجّهون إلى الكعبة الشريفة في مكّة المكرمة عند أداء فريضة الصلاة، أو حينما يلتحقون بها عند أداء مناسك الحج. إننا نعرف أن هذه البنيّة المقدسة هي من مصادر الوحدة عند المسلمين التي لا يساور أحداً في هذا الأمر بشأنها شكّ، ولا يداخله فيها ريب أبداً.
وليس من أمر أرقّ وقعاً، وأنعم بالاً، وتحصيل راحة، وأكثر اطمئنانا على قلب المسلم من اجتماع الحجيج المسلمين في مكة المكرمة وهم يتحلّقون حول البيت الحرام طائفين، أو يسعون بين الصفا والمروة، أو يؤدون أي وظيفة من الوظائف المتعلّقة بهذه الفريضة المقدسة. فهو حقّاً منظر رائع يثير البهجة والفرح في نفس الإنسان المسلم؛ إذ في هذه البقعة المقدسة يجد المرء المسلم نفسه، ويعثر على هويّته، ويحقّق وجوده وشخصيّته وكيانه بشكل واضح وملحوظ؛ حيث نفحات الإسلام الحنيف، ونفحات رسول الله|، ونفحات فارس الإسلام وليد الكعبة، وحيث قدسية الإسلام بكل معانيها وقيمها ومدلولاتها.
ومن هنا فإننا نجد أن كل الجنسيات والأعراق والدماء تنصهر عند أداء هذه الفريضة المقدّسة في بوتقة لواء «لا إله إلا الله، محمد| رسول الله»؛ وهو ما يجعل الإنسان يهتزّ من أعماق أعماقه، حيث تأخذه قشعريرة الإيمان، وارتعاشة الشوق إلى مسرى نبيّنا الأكرم|، والتي تنطف عن نفس متأجّجة شوقاً إلى هذا الموقف الشريف، وإلى أنفاس رسول الله| وهو يخبّ الخطا، ويحثّ السير سعياً في طرقات مكّة المكرّمة وأزقّتها يدعو أهلها إلى الإيمان تارة، أو يمرّ لأداء غرض معين يريده| تارة اُخرى. وهو| ما بين هذا وهذا يعطّر أجواءها بنفح طيبه الأندى، ويزيّن طرقاتها ببهيّ طلعته المقدّسة.
ولهذا فإن الإنسان لا يملّ النظر إلى ذلك المنظر، فهو منظر كلّما ملأ عينيه منه امتاح منه ما هو أكثر ليملأهما منه حينئذٍ أكثر دون ملل أو كلل أو تأفّف، وهو مأخوذ بأمر هامّ جدّاً، ومشغوف بأنفاس تلك الحقبة الإلهية المحمدية المقدّسة فيقف على أعتاب تلك الجنبة القدسية التي يمتاحها في هذه البقعة المشرّفة حيث إن جنان الخلد والنعيم بعينها تكمن في مهابط الوحي، وفي جنبات البيت الحرام.
يتبع…
_____________________________
([1]) وقد جاء في الحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق». نهج البلاغة / الحكمة: 165.