وحدة الجماعة ضرورة إسلامية ـ 05
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
البحث الخامس: المسلمون بين الورع وتمزيق الأمة
إن على المسلم الذي يدعي أنه يتوجّه إلى الله تبارك وتعالى بعبادته أن يكون ورعاً تقيّاً مبتعداً عن المواطن التي تثير غضب الله تبارك وتعالى عليه، وعن المسببات التي تجعله في دائرة عذابه جل شأنه؛ نتيجة ما هو عليه من تصرف بعيد كل البعد عن الإسلام وعن قانون السماء. وإلّا فإن الإنسان المسلم الذي يجعل الله تبارك وتعالى دائماً نصب عينيه، وفي قلبه وعقله من المستحيل له أن يفعل ما يعود بالضرر على المسلمين، بل على الإسلام من قبل، فهو لابدّ من أن يتصف بالأناة، وأن يتريث قبل أن يتسرّع في أن ينسب إلى المسلمين ما ليس عندهم وما ليس فيهم ومنهم.
وبناء على أن الإنسان المسلم هو «من سلم المسلمون من لسانه ويده»([1])، وعلى أنه من أسلم منقاداً خاضعاً لله تبارك وتعالى دون أن يخالفه، فإن عليه أن يتمهّل ويتريّث طويلاً قبل أن ينسب شريحة ضخمة وعريضة من المسلمين إلى الشرك أو الكفر؛ لا لشيء إلّا لأنها لا تلتقي معه ببعض الآراء التي ـ كما ذكرنا ـ ربما تكون على مستوى الاعتقاد، أو على مستوى الفروع المتمثلة بالأحكام الشرعية الخمسة.
إن أبناء الجماعة الواحدة حينما يلتقون على العنوان العام، والإطار الرئيس الذي يؤطّرهم جميعاً، وهو شهادة أن «لا إله إلا الله، وأن محمداً| رسول الله»، فهم يلتقون جميعاً عنده، فضلاً عن توجّههم إلى قبلة واحدة، ورجوعهم إلى كتاب واحد، فإنهم وإن اختلفوا فيما هو دون ذلك، فإن عليهم ألّا يكفّر بعضهم بعضاً، ولا يلجأ بعضهم إلى إلحاق الأذى، أو إلصاق التهم والافتراءات والأكاذيب بغيرهم من أبناء طائفة اُخرى تتبع الدين نفسه الذي يتبعه هو يدين به.
وأؤكد هنا على أن بعض أبناء المذاهب إذ لا يلتقون مع بعضهم في بعض الاُمور الفرعية أو حتى في مسائل الاعتقاد، فإنهم إنما يعتمدون على دليل، ويمتلكون البرهان الذي يلجؤون إليه في تصحيح ما هم عليه من اعتقاد ومن رأي. فإذا كان كلا الطرفين يمتلك دليلاً يعذّره أمام الله تبارك وتعالى، وأمام الآخرين دون أن يرد على ذلك الدليل ما يرد من مناقضات، أو من إيرادات أو نقاشات تجعله من الممكن أن يوضع على طاولة النقاش حتى يتمكن صاحبه من إدراك الحق والحقيقة، فإن عليه حينئذٍ ألّا يكفّر الآخرين، وألّا يسعى إلى إلحاق الأذى والضرر بهم محقّقاً بهذا لتلك الأهداف المريضة التي يسعى أعداء الإسلام إلى تحقيقها.
لكننا حينما ننظر إلى واقع المسلمين على مرّ العصور، فإننا نجد ـ ببالغ الأسف ـ أن البعض من أبناء المسلمين ـ إن لم نقل: شريحة عريضة منهم ـ ممن ليس أهلاً لأن يذكر؛ لصغر شأنه، وضآلة حجمه، وتصاغر قدره يتوجّه إلى طائفة كبيرة من المسلمين بما يتوجه به إليهم، مبتعداً عن كل مقوّمات النقاش والدراسة الأكاديمية، والمعارضة العلمية الصادقة البحتة، لا لشيء إلّا ليثبت أنه صاحب رأي صحيح، وأن الآخرين على خطأ وباطل ولو كان ذلك على حساب الحق والحقيقة.
وكما ذكرنا فإن هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يؤتى على ذكرهم سيما من على مثل هذا المنبر الشريف، ولكن كما يقال: عند الضرورات تباح المحظورات، وأن حيلة المضطر ركوبها(2) لكن إنما جئنا بذكرهم هنا من باب الإشارة إليهم، والتنبيه والتنويه إلى خطرهم الكامن والمحدق بالإسلام والمسلمين على امتداد التاريخ الإسلامي.
المبحث الثاني: في تحديد مفهوم الوحدة الإسلامية
وانطلاقاً مما سلف ذكره نعود لنؤكّد على حقيقة هامّة ذكرناها آنفاً هي أن الله تبارك وتعالى يريد لهذه الأمة أن تكون أمة واحدة، ويريد من المسلمين أن يتوجّهوا إليه وحده بالعبادة دون أن يتوجّهوا إلى عبادة الهوى، أو غرائز النفس المتعلّقة بحب المال وجمعه، وبالسلطان والسعي إليه، أو ما إليه من غرائز تتعلّق بالنفس من غير ما ذكرنا. فإذا تحقق هذا الأمر، وعبد المسلمون الله وحده حقّ عبادته، ولم يعبدوا أهواءهم ولا رغباتهم ولا غرائز أنفسهم، فإنهم حتما سوف يصبحون أمة واحدة عزيزة، لا يمزقها شيء، ولا يمزق بعضهم بعضاً كذلك.
هذا هو الأمر الذي تريد آية المقام الكريمة أن تؤكّد عليه، وإلّا فإن الإنسان إذا ما توجّه إلى عبادة المال والجاه، وخضع للرغبات النفسية والغرائز والشهوات، مستخدماً في ذلك الأساليب الملتوية غير المشروعة، فإنه سوف يكون عائقاً في طريق وحدة المسلمين، وسوف يصبح وسيلة من وسائل أعداء الإسلام الذين يسعون جاهدين إلى تحقيق هذا الأمر. لكن هؤلاء إذا ما تنبّهوا إلى حقيقة أن عبادة الله تبارك وتعالى تقتضي توحّد عباده وتوحيدهم في جماعة واحدة فإن هؤلاء سوف يحقّقون الهدف المرتكز في مفهوم الآية الكريمة، وهو أن نعيد هذه الأمة إلى وحدة جمعها، وإلى توحيد صفوفها، ولمّ متفرّقها وشتاتها. وتحقيق هذا الأمر الحيوي يدور حول محورين هامين هما:
الأول: بيان مصادر الوحدة عند المسلمين.
الثاني: موقف المسلمين منها.
وهذا ما سنتناوله من خلال البحثين التاليين:
البحث الأول: مصادر الوحدة عند المسلمين
ومن هنا فإننا ما دمنا في مضمار الكلام حول هذا الموضوع لابدّ لنا من أن نشير إلى مصادر الوحدة التي تحقّق اجتماع كلمة المسلمين؛ حتى يكون موضوعنا متكاملاً، ودراستنا حول هذا الأمر وافية، فنقول: إننا إذ نجتمع كل عام في مثل هذه الأيام المباركة لإحياء ذكرى أليمة فظيعة ألمّت بالمسلمين، وشرخت جمعهم ووحدتهم، فإننا نريد أن نؤكد على أن مثل هذه المناسبات ينبغي أن تكون مدعاة لاجتماع المسلمين واتحادهم، وتحقيق وحدتهم ووحدة صفّهم بتذكرهم كل ما من شأنه أن يكون وصمة سوداء في جبين الأمة، أو لوثة في تاريخها كما هو الحال مع الأمويين الذين سببوا كارثة عظيمة في حياة الإسلام وتاريخ المسلمين إذ فعلوا ما فعلوا من مآثم وفظائع، وارتكبوا ما ارتكبوا من مجازر ووقائع، وأتوا بما أتوا به من سلوكيات شائنة أدّت إلى إحداث شرخ كبير في وحدة المسلمين بعد أن اعتدوا على سبط رسول الله|، وبعد أن سبوا حرم رسول الله|.
وعليه فلابدّ أن نشير هنا إلى مصادر هذه الوحدة عند المسلمين؛ حتى نستكمل ما بدأناه حول هذا الأمر، فنقول: إن مظاهر الوحدة عند المسلمين تتجلّى عبر تطبيقات عديدة تلتقي جميعها لتحقيق هذا الهدف، ونحن نذكر أهمها، وهي ثلاثة مصادر:
المصدر الأول: القرآن الكريم
لو أننا رجعنا إلى مضامين القرآن الكريم، فسنجد أنه يؤكد على ضرورة الوحدة بين المسلمين من خلال منظومة من الآيات الكريمة التي تكفّلت بمعالجة هذا الجانب، منها آية المقام الكريمة، ومنها قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ﴾ ([3]).
ومن هذا نستخلص نتيجة هي أن القرآن الكريم كدستور كان ومازال حامل لواء وحدة المسلمين سيما إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن الإسلام الحنيف هو دين التوحيد، حيث إنه وحد القبائل كلها، وصهرها تحت لواء لا إله إلا الله محمد رسول الله الذي يؤكده قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾([4])؛ ذلك أنه لو بقي الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام كلّ من هبّ ودبّ ليبتغي له ديناً غير الإسلام، أو ليتّخذ له منهجاً وفلسفة في حياته بعيدين عن سفارة السماء وتعاليمها فإن الأمر سوف يصل حينئذٍ بالمسلمين إلى التشرذم والتفتّت والتفكك؛ وبالتالي فإنه سوف لن يقبل من أي واحد منهم عمله الذي يقوم به ولو كان متوجها به إلى الله تعالى؛ لأن عمله حينئذٍ ابتنى على عنصر رخيص وضارّ قوامه هدم الوحدة الإسلامية التي سعى الإسلام الحنيف إلى إقامتها وبنائها، وإلى تشييد جدرها وأركانها.
إن من المعلوم الثابت أن كل من الذهاب في أي سبيل غير سبيل الإسلام ـ ومعلوم أن السبل غير الإسلام كثيرة متعدّدة متنوّعة ـ فإنه يعني أن الناس سوف يتمزّقون؛ ولهذا فإنه جلّ شأنه يؤكّد على هذه الحقيقة حيث قال: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾([5])، فإذ لم يطيعوا ولم يمتثلوا فقد حصل التمزّق فيهم، ونشب الصراع بينهم مما أدى إلى تمزقهم وتشتّتهم وتفرّقهم نتيجة ابتعادهم عن الهدف الأساس الذي جاء من أجله الدين وهو وحدة المسلمين؛ فاستحقوا بذلك الأثر المترتّب على هذا: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
يتبع…
__________________________________
([1]) نهج البلاغة / الخطبة: 167، المحاسن 1: 285 / 426، الكافي 2: 234 / 12، مسند أحمد بن حنبل 2: 163، وغيرها كثير، صحيح البخاري1: 8 وغيرها كثير، صحيح مسلم1: 48 وغيرها كثير.
إذا لم يكن إلّا الأسنّة مركب *** فما حيلة المضطر إلّا ركوبها
ديوان الكميت: 63.