الرسالةُ العاشورية (في تحقيق صوم عاشوراء) ـ 08

img

تأليف: العلامة المحقق الشيخ أحمد بن صالح آل طعّان البحراني القطيفي& (ت 1315هـ)

نعم، يمكن حمل الصيام في كلمات النبي| والأئمّة^ الأعلام على هذا المعنى المذكور في تلك الرواية الصحيحة الحسنى؛ إمّا على القول بعدم ثبوت الحقائق الشرعيّة، فظاهر لكلّ ذي رويّة؛ وإمّا على القول بثبوتها، فلأنّ الحمل على المعاني الثانويّة المنقولة الشرعيّة مشروط بعدم وجود القرينة المعيّنة للمعاني الأصليّة اللغويّة، والقرينة هنا موجودة، وهي وإن لم تكن داخليّة مقاليّة لكنّها خارجيّة حاليّة، وهي النهي عن الصوم الشرعي في تلك الأخبار القويّة وتبيين كيفيّة الصوم الذي هو وظيفة ذلك اليوم في هاتين الروايتين الدالّتين على المطلوب بالصراحة الجليّة. فتأمّل جيداً في هذا المقام، فإنّه حري بالتأمّل التامّ، والله العالم بحقائق الأحكام.

ومن تضاعيف ما ذكرناه والتدبّر فيما قلناه يظهر لك حجج باقي الأقوال في المسألة مفصّلة غير مجملة، ويُستفاد الجواب عن قولكم أيضاً: وما الصوم وما الإمساك؟

فإنْ ارتاح الخاطر العاطر لزيادة الكلام فلا بأس بإرخاء العنان في هذا المقام، فأقول ـ مستعيناً بالواحد العلّام ـ:

اعلم: إنّ الصوم في أصل اللغة هو الإمساك في الجملة، وإن اختلفت كلمات اللغويين في أنّ المراد مطلق الإمساك أو الإمساك عن خصوص الطعام والشراب، والكلام؛ والنكاح على القولين يظهر كلٌّ منهما من كلٍّ منهما:

ففي (التنقيح): (يقال: هو قيام بلا عمل)([1]).

وفي (القاموس): (صام: صوماً وصياماً، واصطام: أمسك عن الطعام والشراب، والكلام والنكاح والسير) إلى أن قال: (والصوم: الصمت وركود الريح)([2]) انتهى.

وقال أبو عبيدة([3]): «كلّ ممسك عن طعام أو كلام أو شراب فهو صائم»([4])، وقال ابن دريد: «كلّ شيءٍ سكنت حركته فهو صائم صوماً»، كذا نقله عنهما في المدارك ([5]).

وقال الهروي في الغريبين: «قوله تعالى: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾([6])، أي: صمتاً، وفي الحديث: «كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصوم»([7]) قال سفيان: هو الصبر، يصبّر الإنسان نفسَه من الطعام والشراب والنكاح، ثمّ قرأ ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾([8])»([9]).

وقال غيره: «قيل [للصامت: صائم]([10])، لإمساكه عن الكلام، وقيل للفرس: صائم، لإمساكه عن العلف مع قيامه»([11]). انتهى.

أقول: ومن هذا الباب قول النابغة([12]):

خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمةٍ *** تحتَ العَجاجِ وخيلٌ تَعْلُكُ اللُجُما

فهذه الكلمات كما ترى منها ما يدلّ على مطلق الإمساك، ومنها ما يدلّ على خصوص الإمساك عن أشياء مخصوصة، ثمّ استعمله الشارع في إمساك مخصوص عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص عن أشخاص مخصوصة على وجه مخصوص.

وقد اختلفت تعبيرات الفقهاء عن هذا المعنى، فلهذا عرّفوه بتعريفات متعدّدة وحدّدوه بحدود متبدّدة، وإنْ كان جلّها أو كلّها غير سالم من الخدش والإيراد، إمّا في الانعكاس أو الاطّراد كما لا يخفى على المتتبّع النقّاد.

إلّا أنّ الظاهر أنّ مراد الفقهاء من التعاريف الفقهيّة ليس هو التحديد بالحدود الحقيقيّة، بل مطلق التصوير في الجملة بتبديل الأسماء الخفيّة بالأسماء الجليّة، لوضوح المراد من ألفاظ العبادات الشرعيّة المخترعة في عرف المتشرّعة.

فعلى كون الصوم في اللغة الإمساك مطلقاً، تكون النسبة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي العموم والخصوص المطلقين لصدق الشرعي على ما يصدق عليه اللغوي من دون عكس، فكلّ صوم شرعيّ صوم لغوي، ولا كلّ صوم لغوي صوماً شرعيّاً، بل بعض اللغوي شرعي، فمرجعهما إلى موجبة كليّة من جانب وسالبة جزئيّة من آخر، فالشرعي حينئذٍ أخصّ مطلقاً واللغوي أعمّ مطلقاً، وكلّ أخصّ فهو مندرج تحت أعمّ.

وأمّا على كون الصوم لغة الإمساك عن أشياء مخصوصة، فالنسبة بين المعنيين العموم والخصوص من وجه، لصدق كلّ منهما على الآخر لا مطلقاً بل من وجه، فيصدق الشرعي على بعض ما يصدق عليه اللغوي، كما يصدق اللغوي على بعض ما يصدق عليه الشرعي، فيجتمعان في الإمساك عن المفطرات من الفجر إلى الغروب مع النيّة.

______________________________

([1]) التنقيح الرائع 1: 347، وهو قول الخليل بن أحمد الفراهيدي في كتاب العين 7: 171.

([2]) القاموس المحيط 4: 199 ـ 200.

([3]) المصدر غير متوفر لدينا.

([4]) حكاه عنه في الصحاح 5: 1970، ومجمع البحرين 6: 103.

([5]) مدارك الأحكام 6: 5.

([6]) مريم: 26.

([7]) صحيح مسلم 2: 663/ 161.

([8]) الزمر: 10.

([9]) غريب الحديث (الهروي) 1: 195 ـ 196.

([10]) في المخطوط: للصائم: صامت، وما أثبتناه من المصدر.

([11]) لسان العرب 7: 446.

([12]) الصحاح 5: 1970، لسان العرب 7: 446.

الكاتب العلامة المحقق الشيخ أحمد بن صالح آل طعّان البحراني القطيفي&

العلامة المحقق الشيخ أحمد بن صالح آل طعّان البحراني القطيفي&

مواضيع متعلقة