ثورة السبط (عليه السلام) في منظور النبي (صلى الله عليه وآله)

img

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

إذن فوفق التقرير الآنف الذي اختتمنا به المبحث السابق ـ وهو أن الأنبياء^ كافة لا ينطقون عن الهوى، ولا يتبعون العواطف ـ فإننا نتوصل إلى حقيقة اُخرى هي أنهم^ إذا ما امتدحوا شخصاً أو أضفوا عليه التزكية السماوية فإن ذلك المدح وتلك التزكية لا يكونان إلّا تزكية ومدحاً من السماء نفسها؛ لأنهم لا يتبعون العاطفة كما ذكرنا. ومن هنا فإننا حينما نرجع إلى جملة من أحاديث الرسول الأكرم| فإننا نجد فيها قوله| عن سبطه وريحانته وابنه الإمام الحسين× من أنه «سيد شباب أهل الجنة»([1]).

ومن خلال هذا الحديث الشريف نجد النبي الأكرم| يشهد للإمام الحسين× بأنه سيد أهل الجنة يوم القيامة، أو في العالم الآخر، أي أنه× لا يكون إلّا في الجنة، وفوق هذا هو سيد أهلها كلّهم؛ لأننا نعرف أن أهل الجنة كلّهم يرجعون شباناً لحظة دخولهم.

الأهداف السياسية للاعتراض على نهضة السبط (عليه السلام)

وبناء عليه فهل يصح لأحد أن يتناول نهضة الإمام الحسين× هذه بمثل هذا اللون من النقد ومحاولة التهميش والتعتيم على الواقع والحقائق؟ وهل يجوز أن تفرّغ هذه الحركة السماوية، وهذه الثورة المحمّدية من محتواها الشرعي وأهدافها الإلهية بأمثال هذه التساؤلات الساذجة البعيدة عن روح الواقع المعاش، والتي لا تنمّ إلّا عن نفوس صغيرة تحاول إضفاء جوّ ضبابي على الحقائق الناصعة لعزلها عن تصوّرات الناس، والابتعاد بهم عن سبل الحقّ، والولوج بهم في مهاوي الجاهلية؟ وهل يصح أن يقال: هل إنها نهضة على حقّ، أم إنها ليست على كذلك، وإنها نهضة مخطوءة؟ وهل إن الإمام الحسين في خروجه هذا قد بغى على إمام زمانه أم لا؟

إن هذا الكلام وهذا الاعتراض الصادرين عن البعض يتّصفان بصفتين كلتاهما مرفوضة:

الصفة الاُولى: أنه اجتراء على الله تبارك وتعالى

إن هذا الاعتراض هو في حقيقة الأمر ليس إلّا اجتراء لا على هذه النهضة الحسينية المباركة فقط، بل إنه اجتراء صريح وواضح على ما رسمه الله تبارك وتعالى لهذه النهضة المباركة؛ وعلى مقام النبوة ومرتبة الإمامة، كونهما الداعم الأكبر لها، والجهة التي أضفت عليها مشروعيتها؛ كونهما وحدهما من له الحقّ في إضفاء المشروعية على التحرّكات والتصرّفات، وعلى الأقوال والأفعال.

الصفة الثانية: أنه كلام من لا يؤمن بالله تعالى ولا بنبيه (صلى الله عليه وآله)

ثم إن هذا الكلام والإنكار لا يمكن أن يصدر عن شخص يؤمن بالله تعالى، ويصدق بنبيه الكريم|، ويصدّق أقواله وأفعاله؛ فهي نهضة لا يمكن إلّا أن تكون مباركة وكريمة بما أن الرسول الأكرم| قد مدح صاحبها وزكّاه، وبهذا فإنه| يكون قد هيّأ الأجواء لتقبّل هذه الحركة بين الناس، ورسم مسار انتشارها بينهم.

إذن فمثل هذه الاعتراضات على النهضة الحسينية المباركة إن هي إلّا اعتراضات غير صحيحة، بل هي دعاوى واهية لا أساس لها تقوم عليه؛ لأن الإمام الحسين× إنما يستمد مشروعيته من الرسول الأكرم| الذي زكاه في أكثر من مرّة ومن قول.

وبناء على هذا فإن الذي ينبغي أن يكون هو ألّا يطرح أي تساؤل حول حركة الإمام السبط الشهيد×، وإزاء نهضته التصحيحية المباركة وخروجه الشريف، ولا أن يطرح سؤال: كيف نهض وخرج؟ ذلك أنه قد خرج على بصيرة من أمره لأنه قد اُعلم بكل ما كان وما يكون عليه، فقد أطلعه جده| على ذلك كلّه.

والدليل على هذا أنه× حينما عزم على الخروج نادى أخاه محمّد بن الحنفية> وأعطاه وصيته التي قال فيها: «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي|، وأن أسير فيهم بسيرة الحقّ؛ فمن قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بقبول الحقّ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يحكم الله وهو أحكم الحاكمين»([2]).

وكان محمّد بن الحنفية> مريضاً يغشى عليه ساعة بعد ساعة ولهذا فإنه عندما عزم على الخروج مع الإمام الحسين× منعه الإمام× لحالته المرضية التي كان عليها، وهكذا بقي محمّد ينتظر الأخبار حتى جاء النعيُّ باستشهاد الإمام الحسين× وأهل بيته وأصحابه (رضوان الله عليهم)، لكنهم لم يخبروا محمداً بهذا الأمر لأنهم كانوا يخشون عليه أن يموت نتيجة مرضه ونتيجة شدة الصاعقة التي يحملها هذا النعي، ولذا فإنه أخذ يترصد الأخبار إلى أن رجعت السبايا، حتى إذا شارفت مدخل المدينة المنورة اهتزت المدينة بأرجائها، وارتجّت من أقصاها، إلى أقصاها فسأل محمّد> غلمانه: ما لي أرى المدينة تضج بأهلها، وأسمع عويلاً وبكاء؟

فقد كانت الحركة في المدينة المنوّرة حركة غير اعتيادية وغير طبيعية؛ لهول الفاجعة والمصيبة، لكنهم لم يستطيعوا أن يواجهوه بالحقيقة، فقالوا له: إن مسلم بن عقيل قد قتل، والناس يعزون به أهله. فقال لهم وماذا عن الحسين×؟ فقالوا له: إنه لا يقوى على المجيء لكثرة من حوله؛ لأنهم لم يكونوا يريدون أن يخبروه الحقيقة. فقال لهم: إن ابن بنت رسول الله ينتظرني، فلأقصده.

وكان مريضاً، فلمّا أراد أن يقوم سقط إلى الأرض، ونهض ثانياً فسقط، وأمّا في الثالثة فنهض وقال: أما والله إن فيها لمصائب آل يعقوب. ثمّ نشروا عليه رداء عن الشمس، فأقبل ولما توسّط المدينة فاجأته السبايا ومعها الأطفال وهم ينادون: والوعتاه واحسـيناه. فقال: فعلتها بنو اُميّة؟ فسـقط إلى الأرض مغمىً عليه، فهرول الرسول إلى الإمام السجاد× وقال: بادر إلى عمّك قبل أن يموت. فأقبل إليه، وأخذ رأسه ووضعه في حجره ونضحه بدموعه، ففتح عينيّه وقال: علي هذا؟ قال: «بلى». قال: بنيّ علي أين أبوك؟ قال: «ياعمّ لا تسأل لقد أتيتك وحيداً».

أما العقيلة زينب÷ فقد دخلت دار أخيها الإمام الحسين×:

اخوي من اطب عندك دار *** أرد عيني وأصد فكري
تمرّ اطيوفك اعليّه *** مثل عذب الهوى تجري

***

بالأمس كانوا معي واليومَ قد رحلوا *** وخلّفوا في سويدا القلب نيرانا
نذر علي لئن عادوا وإن رجعوا *** لأملأن طريقَ الطفّ ريحانا([3])

_________________________

([1]) فضائل الصحابة (النسائي): 20، 58، 76، مسند أحمد 3: 3، 62، 64، 82، 5: 391، 392، سنن ابن ماجة 1: 44، الجامع الصحيح (سنن الترمذي) 5: 321، 326، المستدرك على الصحيحين 3: 167، 381، صحيح مسلم بشرح النووي 16: 41، وغيرها كثير.

([2]) بحار الأنوار 44: 329 ـ 330.

([3]) شجرة طوبى 1: 91.

الكاتب الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

الشيخ الدكتور أحمد الوائلي

مواضيع متعلقة