أهل البيت (عليهم السلام) والفاجعة الحسينية
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
ولذا فإن أهل البيت^ قد دأبوا على إحياء مراسم هذه الفاجعة، وعلى تنبيه الناس إلى هذه المأساة، وإلى تأصيل ذكراها في قلوب المسلمين حتى يفعّلوها في عقولهم وأنفسهم فيتفاعلوا مع أهدافها وأبعادها، وحتى تبقى حية في ذواتهم وفي أذهانهم. ومن هذا أن الإمام الباقر× ـ كما هو حال غيره ممّن خَلَفه من الأئمة^ ـ كان يدخل عليه الخطباء والشعراء وهم يرددون بمفرداتهم الشعرية واقعة الطف التي يجسدون فيها معاني الكرامة والعزة والحرية، ويبلورون فيها رفض الإمام السبط الحسين× لأن يرضخ للذل وللظلم، بل إنه فضل أن يموت عزيزاً كريماً على أن يحيا ذليلاً خانعاً (تنزه× عن ذلك).
وكذلك كان هذا دأب الأئمة^ الذين جاؤوا بعده كالإمام الصادق والكاظم والرضا× الذين كانوا يدخلون عليهم شعراء عصورهم لينشدوا في تلك الواقعة، وليذكّروا الناس بمظلومية الإمام السبط الشهيد، وليوصلوا تلك الصرخة التي أراد لها الإمام الحسين× أن تصل إلى المسلمين حتى تستمر شرارتها ولا تُطفأ نائرتها، ولا تهدأ فورتها وثائرتها.
فلسفة إحياء ذكرى واقعة الطف
ولنا هنا أن نسأل عن الأسباب التي حدت الأئمة^ إلى إحياء هذه الذكرى، وعن إصرارهم^ على استعادة تلك الذكرى مع ما تنطوي عليه من معاناة وآلام وتذكير بمأساة حقيقية لم ترَ الدنيا مثلها قط، بل فيها ما فيها من مخاطر على مقيمي تلك الشعائر من السلطة وأذنابها سيّما إبّان الحكم الاُموي.
إن أئمة الهدى^ كما ذكرنا لم يكونوا يريدون من استذكار أحداث تلك الفاجعة أن تثار دموع سامعيها، وأن يبكوا السبط الشهيد×، وإلّا فإننا بهذا نكون قد حولنا أهداف تلك الثورة النهضوية التغييرية والإصلاحية والتصحيحية المباركة إلى مجرد دمعة يذرفها الإنسان لحظة حضوره تلك المجالس، ثم ما إن يخرج منها ويمسح دمعته حتى ينسى كلّ تلك القيم والمفاهيم السامية التي أرادت تلك الحركة الربانية إيصالها إلينا.
كما أن هذا يعني أننا نكون قد حولنا تلك السيوف التي شيمت في وجه الباطل من أجل الدفاع عن الحق وعن الدين إلى مجرّد أدوات رفعت ثم خفضت في آن من الآنات دون أن يكون لها ذلك الحضور الفاعل في حياة الاُمّة وتاريخها الجهادي ومسيرتها التحررية ضدّ سلاطين الجور والفساد. يقول أحد الشعراء:
أبا الثورة الكبرى صليلُ سيوفها *** نشيدٌ بأبعاد الخلود مُرجَّعُ
تُشير وإيماضُ القواضب مشعلٌ *** وتحدو بركب الثائرين فيتبعُ
أبا الطف ما جئنا لنبني بلفظنا *** لمعناك صَرحاً إن معناك أرفعُ
متى بنت الألفاظُ صرحاً وإنما الـ *** ـصروح بمقدود الجماجم تُرفعُ
ألا إن بُرداً من جراحٍ لبسته *** بنى لك مجداً من جراحك يُصنعُ
وضعناك في الأعناق حِرزاً وإنما *** خُلقت لكي تُنضى حساماً فتُشرعُ
وصُغناك من دمعٍ وتلك نفوسنا *** نصوِّرها لا أنت إنّك أرفعُ([1])
أي أن الإمام لم يحشد كلّ تلك القدرات المتمثلة بنفسه الشريفة، ونفوس أهل بيته وذويه، ونفوس أصحابه فضلاً عن عائلته من أجل دمعة نهريقها نحن عليه، بل إنه حشد كلّ ذلك من أجل السمو بالفكرة والارتفاع بالمعاني السامية والقيم والصعود بالسلوك والنبل إلى أعلى مصافهما، حتى يرتقي بالإنسان من المستوى البهيمي إلى المستوى البشري الخاضع للعقل وللدين.
إن الدمع ليس إلّا افراغاً طبيعياً يعتري الإنسان عندما تتأجج عاطفته، كأن يحزنه شيء أو يفرحه شيء أو ما إلى ذلك، وهذا الأمر الطبيعي لم يكن منظوراً في تحرك الإمام الحسين× ولا مقصوداً وراء حركته النهضوية التي أرادت أن تسمو بالإنسان، وأن تلج به عالم الرقيّ والنور بعد أن وضع نفسه في عالم الضلال والظلمات والجهل.
والدليل على ما نذهب إليه أننا نجد في روايات أهل البيت^ قول الأئمة المعصومين: «أحيوا أمرنا؛ رحم الله من أحيا أمرنا»([2]). وبناء على هذا فهل يمكن أن يُعد البكاء وإراقة الدمع ذا أثر فاعل وكبير في إحياء أمرهم^؟ إن الإمام× وهو يقول: «أحيوا أمرنا»، فهو× يريد أن يجعل من الإمام الحسين× مثلاً أعلى، وقدوة سامية يقتدى بها، واُنموذجاً نهضوياً يتّبع في كلّ تحركاته وسكانته، وأقواله وأفعاله، ومبادئه التي رفعها وهو يعلن عن تلك النهضة العلوية المباركة.
إن هذه المقولة الشريفة تريد أن تبين أن الإمام الحسين× بطل قد رفع لواء الحرية، وعمد إلى تحطيم مبادئ الجاهلية المتمثلة بالسلطة آنذاك؛ حيث إنه× وقف يصارع تلك القيم والمفاهيم والموروثات، ويقاتل تلك القيم المنحطة التي أرادت أن ترجع بالناس القهقرى إلى عالم الظلمات والجاهلية.
ومن هنا فإننا ينبغي أن نعي أن حركة الإمام الحسين× إنما ينبغي أن يُنظر إليها على أنها جامعة للمثل والمبادئ والقيم السامية والأخلاقيات والسلوكيات، ونظرة الإنسان إلى التحرر وكسر قيود الذل والعبودية، حتى تخرّج الإنسان المسلم حرّاً سليم الفكر، قويم السلوك، نبيل الأخلاق، يستطيع أن يستمد مما تعلّمه في تلك الجامعة الرسالية الفكرية كيف يمكنه أن يقف بوجه الظلم والظالمين، وأن يرفع كلمة «لا اله إلّا الله، محمد رسول الله|».
واقعة الحرة والثورة الحسينية
ومن هنا فإننا نجد أن المسلمين بعد ذلك قد بدؤوا يعون حقيقة الواقع الذي كانوا عليه، والواقع الذي كانت عليه السلطة آنذاك، فراحوا يرفعون أشرعة الثورة، ويعلنون شعار التصدّي والتحدّي لهذه السلطة أو تلك، فحمحمت خيولهم وهي تعدو إلى ساحات الجهاد والمعركة ضد الاُمويين الذين فرضوا على المسلمين أن يبايعوا ليزيد على أنهم عبيد أقنان؛ وهو الأمر الذي يعني أن يزيد له الحق في أن يتحكم برقاب هؤلاء، فيبيع فيهم ويشتري، وأن يتحكم بأموالهم وبنسائهم كونهن جواري عنده.
وهذا التحرك الذي شهدناه من أهل المدينة المنورة ما هو إلّا امتداد لتلك الثورة التي رفع شعارها وصاغ مبادئها سبط رسول الله| سيد الأحرار وسيد شباب أهل الجنة؛ لأنهم عرفوا أن تصرف يزيد هذا إزاء المسلمين سيما أهل المدينة الذين هم أنصار رسول الله| لا يقبله الإسلام في شيء ولا يرتضيه الله تبارك وتعالى الذي يقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾([3]).
وهذا يعني أن الله تبارك وتعالى حينما خلق الإنسان خلقه وكرمه باختيار الخلقة له حيث إنه خلقه في أحسن تقويم، وكرمه بأن جعله أفضل المخلوقات وسيّدها، وكرمه بأن منحه هذا العقل الذي يضيء دربه، وكرمه بأن بعث إليه الأنبياء والرسل^ وعلى رأسهم سيد الأنبياء وخاتمهم نبينا الأكرم محمد بن عبد الله|. وإلّا فإن الإنسان ينبغي أن يكون كريماً في نظر الإسلام لا أن يذل بعلم من الحاكم الذي يدعي أنه يحكم باسم الإسلام بل بأمر منه كما حدث ورأينا.
والتاريخ يحدثنا أن بني اُمية كانوا يأخذون أموال المسلمين ويفرقونها على بني عمومتهم فيحرموا المسلمين من كدهم وتعبهم، فيما يتنعمون هم بكد غيرهم وما يجنيه اُولئك من أموال، وهذا هو السبب الذي حدا عمر ابن عبد العزيز إلى أن يأخذ الأموال التي سرقها بنو اُمية، والتي استولوا عليها ظلماً وجوراً، وراح يرجعها إلى الناس، حتى قالت له عمته: ألا تخشى منهم؟ فقال لها: «كل يوم دون يوم القيامة لا أخشاه»([4]).
أي أن هؤلاء قد نهبوا أموال المسلمين وأنا لا يكنّ لي حال، ولا يهدأ لي بال حتى أستعيدها منهم، واُرجعها إلى أهلها وأصحابها الشرعيين([5]). إذن فهذه الأموال قد سرقت من المسلمين بغير وجه حق بعد أن اعتدي عليهم، فضلاً عن أن أعراضهم قد انتهكت، ودماءهم قد اُريقت دون مراعاة لحرمتها حتى إن بسر بن أرطاة كما ذكرنا قد قتل في رحلته إلى البصرة ورجوعه منها ما يزيد على ثلاثين ألفاً، وقد أكثر القتل وأسرف فيه حتى إنه وصل الأمر بعقيبة الأسدي إلى أن يقول:
معاويَ إننا بشـرٌ فأسجِحْ *** فلسنا بالجبالِ ولا الحديدِ
أكلتم أرضَنا فجردتموها *** فهل من قائمٍ أو من حصيدِ
ذروا جورَ الإمارةِ واستقيموا *** وتأميراً على الناس العبيدِ
فهبنا اُمّةً ذهبت ضياعاً *** يزيدُ أميرُها وأبو يزيدِ
أتطمعُ في الخلافةِ إذ هلكنا *** وليس لنا ولا لك من خلودِ
وأعطونا السويّةَ لا تزرْكم *** جنودٌ مردفاتٌ بالجنودِ([6])
عاشوراء الفاجعة والدمعة
إذن فهذا هو الذي دعا الإمام الحسين× إلى أن يعلن ثورته ونهضته تلك التي أراد من خلالها أن يصارع قيم الجاهلية، وإلى أن يعيد الحق إلى نصابه، ويحق الحق، ويرجع بالناس إلى حِجْر الإسلام بعد أن حاولت الطغمة الحاكمة أن تعيده إلى جُحْر الجاهلية والظلام.
لكننا مع هذا نقول: إنه ليس هنالك من مانع أن يذرف الدمع على مصرع هذا السبط العظيم إذا ما كان هذا الدمع مقترناً بالعمل الفعلي بمبادئ تلك الثورة، ومشروطاً بالتقيد بأهدافها وشعاراتها والسير على خطها دون أن يحيد عنها الإنسان ولو قيد أنملة؛ ذلك أن الدمع كما ذكرنا ما هو إلّا إفراز طبيعي عندما تتأجّج المشاعر والعواطف، أي أن الإنسان سوف تنبجس عيناه بالدموع وهو يتأثر عاطفياً سواءً شاء ذلك أم أبى.
وهذا حق على كلّ مسلم يقرأ التاريخ فيعرف أن واقعة الطف قد تركت بيوت النبي الأكرم| خالية من أهلها ليس فيها من رجل، فإنه حتماً سوف ينبجس الدمع من عينيه دماً وهو يقرأ هذه الحقائق المرة والمخزية التي شكلت وصمة عار ونقطة سوداء حالكة على جبين الأمة الإسلامية التي فعلت هذا الفعل الشنيع برسول الله|، وبأهل بيته الكرام^. ورحم الله سليمان بن قبة> الذي قال حيث مرَّ ببيوت الإمام الحسين× وأهل بيته^ فرآها خالية:
مررت على أبيات آل محمد *** فلم أرَها أمثالها يوم حلّتِ
فلا يبعدِ الله الديار وأهلها *** وإن أصبحت منهم برغمي تخلّتِ
وإن قتيل الطفّ من آل هاشم *** أذّل رقاب المسلمين فذلّتِ([7])
وهذا هو الذي حدا السيدة العقيلة زينب× إلى أن تجول بتلك الديار الخالية، فترى محاريب إخوتها وهي خاوية ليس فيها من أحد، وتطرق البيوت النبوية فلم تجد فيها غير الأرامل واليتامى، فتختنق بعبرتها:
فكم دعت زينب والدمع ينهملُ *** هذي الطفوف ومنها في الحشا شعلُ
من ناشد لي أحباب بها نزلوا *** (بالأمس كانوا معي واليوم قد رحلوا
وخلفوا في سويدِ القلب نيرانا)
هُمُ الأمان لدهر راعه فزعُ *** والواصلون إذا ما أهله قطعوا
هل لي برجعتهم لما مضوا طمعُ *** (نذر علي لئن عادوا وإن رجعوا
لأزرعن طريق الطف ريحانا([8])
___________________________
([2]) الخصال: 22 / 77، الأمالي (الطوسي): 135 / 218.
([4]) انظر الطبقات الكبرى 5: 398.
([5]) وهذا ما يذكرنا بقول أمير المؤمنين×: «وَاللهِ لَو وَجَدتُهُ قَد تُزُوِّج بهِ النِّسَاءُ وَمُلِكَ بِهِ الإِمَاءُ لَرَدَدتُهُ؛ فَإِنَّ فِي العَدلِ سَعَةً، وَمَن ضَاقَ عَلَيه العَدلُ فَالجَورُ عَلَيه أضيَقُ» نهج البلاغة 1: 46 / الكلام: 15.
([6]) انظر تاريخ مدينة دمشق 26: 47.
([7]) انظر بحار الأنوار 45: 244، 290 ـ 291، 293 ـ 294، تاريخ مدينة دمشق 14: 260، اُسد الغابة 2: 22، الإصابة 7: 126.
([8]) البكاء في فجائع كربلاء (حسين بن علي الفرطوسي الحويزي): 40.