الإمام الحسين (عليه السلام) وقسوة المسلمين
الشيخ الدكتور أحمد الوائلي
وعلى ضوء هذا، هل يمكن أن نعتبر أن هؤلاء الذين جيّشوا الجيوش ضدّ سبط رسول الله| وابنه الإمام الحسين× يوم الطفّ، وأعدّوا العدد والعدّة لقتاله، ومنعوا عنه وعن نسائه وأطفاله وأصحابه الماء والزاد هم أهل رحمة وشفقة؟ وهل يمكن أن يعدوا بأنهم مصداق للتراحم والتوادّ اللذين يريدها الإسلام؟
إن هذين التساؤلين يجيبنا عنهما التاريخ الذي يروي لنا أن الإمام الحسين× جاء إلى أرض المعركة ماشياً على قدميه، يظلّله رداؤه، دون سلاح على غير عادته، فاشرأبّت الأعناق إليه، فلمّا انحسر الرداء عن يديه الشريفتين وإذا به يحمل عليهما ابنه الطفل الرضيع عبد الله يريد به القوم ليسقوه ماء ـ بطلب من اُمه الرباب ظانّة أنه سيرتوي من الماء، دون أن تدري بأن سيرتوي من فيض دم نحره ـ ثم وقف× وخاطبهم قائلاً: «لقد جفّ ثدي اُمّه من اللبن، فإن خفتم أن أشرب من الماء، فخذوه بأيديكم واسقوه جرعة من الماء»([1]).
لكن ما كان جوابه× منهم؟ إننا نجد أن هؤلاء قد وصل بهم الأمر إلى حد النكسة في الطباع بحيث إنهم وصلوا بتلك النكسة إلى درجة لم يكتفوا معها بحرمان الطفل من الماء، أو بحرمان اُمّه منه كي تسقيه لبنها، بل إننا نجد أنهم قد سارعوا إلى ذبحه، وهو على يدي والده أبي عبد الله الحسين×. إن هؤلاء بدلاً من أن يرووا عطش هذا الطفل نجد أن جوابهم كان ينمّ عن وحشية ما بعدها وحشية، فكان أن أقبل إليه سهم رماه به حرملة وهو يضحك خسّة وتضاؤلاً، ويقول مخاطباً الإمام الحسين×: خذ هذا، فاسقِه.
فذبحه بذلك السهم الغادر، الآثمِ صاحبُه من الوريد إلى الوريد، فوضع الإمام الحسين× يده تحت عنق طفله الرضيع المظلوم حتى امتلأت دماً، فقذف به إلى السماء، وقال: «اللهم بعينك، اللهم لا يكن أهون عليك من فصيل ناقة صالح»([2]).
وكانت حالة الطفل حينها (حين مقتله وإحساسه بدمه يسيل من نحره) كما الصورة التي يرسمها الإمام× في قوله: «لقد كان طفل جدّي الحسين في قماطه لما أحسّ بحرارة السهم، فانتزع يديه من القماط، واعتنق رقبة والده، وجعل يرفرف كالطير المذبوح»([3]).
وهي صورةٌ من صور الطفّ مفجعةٌ.. صورةٌ تؤجّج اللوعة في الصدور، وتسجر نار الأسى في القلوب، وتسِيح الدمع من العينين وتحثّهما على أن تنبجس منهما الدماء، فما كان من الإمام السبط× إلّا أن حمل ولده وكرّ راجعاً به إلى الخيمة، حيث اُمّه الرباب÷، فدفعه إليها جثة باردة قائلاً: «رباب، خذي إليك ولدك مذبوحاً».
ولنا هنا أن نتصوّر ما هو حال امرأة يُحمل إليها رضيعها وهو مذبوح من الوريد إلى الوريد، وقد سبح بفيض دمه؟ وما الذي يمكن أن يكون عليه أمرها وهي تراه على تلك الحال؟ لقد ذهلت (سلام الله عليها) عن أمرها ونفسها، فأخذت تجول في الخيمة حول مهد رضيعها، وبقيت حانية عليه وباكية مستعبرة، ثم أخذته وانحنت عليه، واستمرّت على تلك الحال إلى أن أخذه منها الإمام الحسين× وحفر له حفرة بجفن السيف وواراه التراب وأهاله عليه.
صور القسوة عند الذين حاربوا الحسين (عليه السلام)
إننا حينما نوغل في أعماق التاريخ، ونستنطق خافي سطوره، فإننا سوف نجد أن تلك الثلّة الحاقدة الكافرة التي خرجت لقتال الإمام الحسين×، ولقتال أهل بيته وأنصاره، وجيّشت الجيوش لأجل ذلك قد اُفرغت تماماً من الرحمة والإنسانيّة، وقد نزع العفو، ومحيت الشفقة من قلوبهم حتى إنهم اعتدوا على الطفل الصغير، وعلى المرأة العزلاء دون وازع من دين، أو رادع من قيم إنسانية، أو مانع من أخلاق عربية. وهذا ما يمكن أن نمثّله بعدة صور:
الصورة الاُولى: التمثيل بجسد أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)
فالتاريخ يحدثنا بأن الإمام الحسين× بعد أن سقط في أرض المعركة أمر ابن سعد رجاله بأن يعتلوا صهوات خيولهم، وأن يصعدوا بها على صدر أبي عبد الله الحسين.. الصدر الذي حوى علم السماء، وانضوت تحته رحمتها وعنايتها.. الصدر الذي انطوى على كلّ مصاديق اللطف الإلهي، ومعاني الشفقة الربانية، وعلى كيان النبوّات كلّها متمثّلة بجدّه النبي الأكرم|.
الصورة الثانية: ذبح الطفل الرضيع عبد الله
وقد مرّت بنا تفاصيل هذه الفاجعة التي أدمت قلب الإمام الحسين× وقلوب نسائه، قبل قليل، فراجع.
الصورة الثالثة: قطع رأس عبد الله الرضيع
إن هؤلاء القوم لم يكتفوا بأن عمدوا إلى ذبح عبد الله من الوريد إلى الوريد تحت مرأى أبيه×، بل إنهم عمدوا إلى قطع رأسه تحت مرأى اُمّه وعمّاته وبقية النسوة بعد أن قطعوا رؤوس جميع أهل بيت النبوة وأنصارهم^ كما تقول الرواية، ذلك أنه حينما جاؤوا ليقطعوا رأس الإمام الحسين×، ورؤوس أهل بيته وأنصاره^، وبعد أن فعلوا ذلك وجاؤوا بها إلى عمر ابن سعد، افتقد الطاغي رأس عبد الله الرضيع، فقال لهم: إن الحسين قد قُتل له اليوم طفل اسمه عبد الله الرضيع، فأين رأسه؟ فقال له بعضهم: بلغنا أن أباه قد احتفر له بجفن السيف، وواراه التراب في أرض المعركة. فقال لهم: انبشوا الأرض برماحكم، وأخرجوه واحتزّوا رأسه، وجيئوني به. فنبشوا الأرض برماحهم، وأخرجوا جسد الرضيع، وفصلوا الرأس عنه برمح منها.
الرباب في أرض المعركة
لقد أثّر مصرع الذبيح عبد الله× على اُمه كما ذكرنا، بحيث إنها ذُهلت عن حالها، فخرجت إلى حيث جثث الضحايا وأجسادهم الطاهرة، وجلست عند جثّة ابنها عبد الله الذي كما ذكرنا قد طرح إلى جانب أبيه بعد أن نبش عن قبره واقتطع رأسه.
يقول الرواة: ولمّا جن الليل جاءت سيّدتنا زينب÷ تتفقّد النساء، فلم تجد الرباب في خيمتها، لأن صدرها كان قد درّ لبناً على رضيعها بعد أن شربت الماء بعد انتهاء المعركة، فخرجت من المخيم وهي ترجو ـ لما كانت عليه من ذهول ـ أن يكون في ولدها صبابة من روح، أو بقية من حياة.
فلما لم تجدها مولاتنا العقيلة زينب÷ مع النساء خرجت تبحث عنها، وإذا هي بفارس يدور حول خيم النساء، فصاحت به: ويلك من أنت؟ فقال لها: سيدتي، أنا من معسكر عمر بن سعد، وقد أمرني أن أحرسكم هذه الليلة.
وهنا اختنقت الحوراء÷ بعبرتها وقالت: أبعد عين أبي الفضل العباس أنت من يتولّى حراستنا؟ ثم قالت له: هل رأيت امرأة من نساء الحسين×؟ قال: لا يا سيّدتي، لكنني حينما مررت بأرض المعركة سمعت هناك أنيناً، ولعلّها هي.
فهرولت نحو أرض المعركة، وهي تنادي: ربابُ، أين أنت؟ ثم وجدتها جالسة، وقد أخذت جثّة رضيعها وأدنتها إلى صدرها، وهي تقول: بني، صدري يؤلمني، وقد درّ عليك لبناً. وقد أقبلت إليك؛ لأني كنت أرجو أن أجد فيك رمقاً من حياة، أو بقية من روح، فها أنت محزوز الرأس، ومذبوح من الوريد إلى الوريد:
خذت سلوتي وظلّيت اسالي *** برويحتي والدمع هالي
أدورن على ايميني وشمالي *** أهزّن بالمهد والمهد خالي
***
كم رضيع لك في الطفّ قضى
_______________________
([2]) لم نعثر عليه عند مصرع الطفل الرضيع، لكن ورد هذا الدعاء عند مصرعه× حيث إنه× جعل يأخذ الدم من نحره الشريف، ثم يرميه إلى السماء، ولا يرجع منه شيء. مناقب آل أبي طالب 3: 257.
([3]) المجالس الفاخرة: 338، من أخلاق الإمام الحسين×: 244، ولم ينسبه للإمام×.